(الكُميْت) يظهر في الصعيد الجواني
محمد عبد الشافي القوصي
(سيد سليم) شاعر أزهري لا ريب فيه! يعني أنه من دعاة "الوسطية الإسلامية" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، ولا تنسى الماضي ولا تنعزل عن الحاضر ولا تغفل المستقبل، لذلك كان أول كتاب ألّفه عن ظاهرة التطرف الفكري! ثم ألّف كتاب (آل البيت بين الروافض والنواصب)!
شاعرنا نموذج يحتذى به؛ فهو ينفق جميع أوقاته في العمل التربوي والدعوي، في حِلّه وترحاله، ويجاهد باللسان والقلم، شِعْراً ونثراً .. كما هو حال دعاة الأزهر في سائر العصور.
كثيراً ما نراه يتفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية حوله، لكن حنينه إلى الأزهر وشيوخه لا ينقطع، فيكتب قصيدة طويلة في ذكرى الإمام الدكتور/ عبد الحليم محمود، يقول فيها:
قفْ يا بيانُ مُحيّياً ومُعبّراً |
|
وانظم من الحسن البديع جواهراً |
وعندما تولى المشيخة فضيلة الدكتور/ أحمد الطيّب- كتب يهنئه شِعراً، بقصيدة عنوانها (تحية إلى الإمام الأكبر الطيّب) قال فيها:
هو أحمدٌ هو طيّبٌ من طيّبٍ |
|
ورثَ العلومَ وزاد فرعاً طاهرا |
على الرغم من أن شاعرنا- شغوف بكتابة الأشعار السياسية اللاذعة، إلاَّ أن موهبته تتجلّى في القصائد الدينية .. إذْ يستنفر جميع ملكاته وحواسه وقدراته الثقافية، فمثلاً يقول في قصيدة (يا ليلة القدر):
يـا لـيـلـةً زانها الرحمنُ جمَّلها |
|
فـيـهـا العطاءُ وما أدراكَ ما فيها |
إذا كان الناس وصفوا الشاعر بشارة الخوري؛ بأنه (الأخطل الصغير)! ولقبوا الدكتور عبد المنعم خفاجى: بـ(جاحظ القرن العشرين)! وقالوا عن بدوي الجبل (متنبي القرن العشرين)!
فأنا أقول عن الشاعر/ سيد سليم: إنه (الكُميْت الثاني)!!
ولِمَ لا؟ أليس -شاعرنا- يحذو حذو أستاذه الأسديّ .. ويسير على الدرب ذاته؟! ألمْ يغزل بمنواله، ويغنِّي على قيثارته؟! ألمْ ينتصر -الشاعران- لآل البيت البررة الأطهار؟ ألمْ يتدلَّه (التلميذ) بما تدلَّه به (الأستاذ)؟
وإذا كان (الكميت الأسدي) حمل أكفانه خشية "الأمويين؛ فـ(الكميت الثاني) حملها خشية "الوهابيين"؟!
إنه منذ أربعة عشر قرناً، ومازال الناس يتدلّهون بـ"بائية الكميت" التي استهلها بقوله:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ |
|
ولا لعباً مني، أذو الشيب يلعبُ؟! |
وقد وضع –صاحبنا- هذه "البائية" ضمن مختاراته (أجمل عشرين قصيدة في حب آل البيت)!
إنَّ قصائد (سيد سليم) بمثابة نزهة إيمانية، ورياضة نفسية، ومعارج روحية، كما هو الحال عند الشعراء الفحول والمتصوفة! فقد وقف على مرافئ الحب التي وقفوا عليها، وجلس على شواطئ الجمال التي أناخوا رحالهم عندها، وغرف من بحار الهوى كما غرفوا؛ فاستخرجوا منها اللؤلؤ والمرجان .. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟!
* * *
كثيراً ما يذكرنا –سيد سليم- بأشعار دعبل الخزاعي، وعبد الله بن الأحمر، والشريف الرضي، وأبي فراس الحمداني، وغيرهم من كبار المادحين، وأرباب الهوى، وعباقرة الشِّعر؛ الممزوجة قصائدهم بالحب والدموع، والموشاة بالألم والأمل! ففي قصيدته (أبو الشهداء) ينتصر –الشاعر- لسبط رسول الله، ويرد على أباطيل العبيد والجبناء الذين يقولون: سيدنا يزيد قتل سيدنا الحسين!!
لقد اتخذ –الشاعر- من الإمام الحسين عليه السلام؛ مثلاً أعلى في البذل والتضحية والثورة على الظلم والطغيان، ومناوأة الجور والاستبداد، فيقول:
ثـار الإمـام ومـن يثور iiكمثله |
|
|
ليس هذا فحسب؛ بلْ إنَّ الشاعر يدلي دلوه في بحر المحبة الذي لا شاطئ له .. فيا بشراه بما فاضت به قريحته من أشعار كعقود الجمان، وقصائد كأنها مكتوبة على أبواب الجنان! فيقول في قصيدة (سيدتنا الزهراء):
مـاذا يـقـول وينظم الشعراء؟! |
|
كـل الـمـحاسن أنت يا iiزهراء |
وتتجلى عنده الشاعرية في أسمى منازلها في قصيدة (يا طائر الحب)! فقد اصطفى لهذه القصيدة أعذب الألفاظ وأرقها، وأكثرها عاطفة، وأشجاها إيقاعاً، وأجملها وزناً وقافية ... بلْ استطاع أن ينقلنا من عالَم المادة إلى عالَم الروح والريحان، عالَم لا لغو فيه ولا تأثيم؛ إنه عالَم البراءة والمحبة والصفاء مع الملائكة والنبيين والصالحين .. فيقول:
يا طائر الحب غرد أجملَ النَّغَمِ |
|
واصدحْ بمدحي لآل البيت كلهمِ |
الحق أقول: إنني لمْ أتمالك نفسي أمام هذا الوابل الصيّب من الفيضان الوجداني، والشعور العاطفي المتدفق الذي جادت به قريحة (الكميت الأزهري)!
لقد أغرقنا بأمواج قصائده، وحبس أنفاسنا، وسحر السمع والأبصار والأفئدة!
فيا آل بيت مُحمَّد؛ أُنشدكم بحق جدكم المعصوم ... أنْ تأخذوا شاعركم عني!