القديم والحديث .. مرة أخرى
أبو الخير الناصري
" القديم والحديث " موضوع أسال مداد كثير من النقاد والأدباء ما بين منتصر للقديم متعصب له، ومتباه بالحديث وتميزه عما خلفه الماضون والأقدمون.
وإذا كان الفريق الأول يعتبر القدماء قد قتلوا كل المسائل بحثا، ولم يتركوا لجديد من الناس رأيا إلا سبقوا إليه، فأغلقوا باب الجدال والحوار في الموضوعات، وجعلوا عنوانه ليس في الإمكان أبدع مما كان، واتخذوا لهم شعارا قول عنترة بن شداد:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
فإن الفريق الثاني لم يستسلم، ولم يستكن، بل انطلق في بيان القيم والأفكار الجديدة، ونبذ القديم ومحاولة الاستدلال على عدم صلاحه للعصر وتطوراته، ففتحوا باب الحوار من جديد، وآمنوا بإمكان التفوق على القدامى، ورددوا قول محمود سامي البارودي:
كم غادر الشعراء من متردم ولرب تال بذ شأو مقدم
وبرز بين الفريقين صنف من العقلاء المستنيرين لم يدافعوا عن قديم لقدمه، ولا عن حديث لحداثته، بل انتصروا للجيد حيثما كان، فآمنوا بتفوق الكفاءة في أي عصر كانت ومن أي قطر أو شخص جاءت، وتمثلوا قول الجاحظ " ولقد رأيت أناسا يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمن كان ".
ورغم أن ثنائية القدم والحداثة قد توارت عن الساحة الأدبية والنقدية الراهنة، وحلت محلها قضايا وإشكالات مغايرة فإن الاحتكام إلى عنصر الزمن ما يزال واقعا معيشا على مستوى السلوك والممارسة اليومية، في الحوارات، والنقاشات، ومعايير الاختيار والاحتفاء، والتهميش والإقصاء.
ومن الغريب جدا أن أدعياء الحداثة أنفسهم لا يتورعون عن الاحتكام إلى سبقهم للكتابة والنشر والظهور بغية " تحصين مكتسباتهم " الثقافية، وضمان استمرار تصدر أسمائهم وصورهم واجهات الجرائد والمجلات وحفلات التوقيع ولقاءات التكريم ... وإنك قلما تكلم أحدهم فتجده سليما من مرض العودة إلى الماضي لإثبات جدارته وكفاءته، فهو الذي كتب وأنت بعد في بطن أمك!! وهو الذي نشر وأنت طفل تحبو على أربع!! وهو الذي حاضر وجالس كبار الكتاب والمفكرين وأنت تلميذ تحاول أن تفك حروف الأبجدية في المدارس الابتدائية ... !!!.
- وإذن فكيف لك أن تضاهيه أو تطاوله، بله أن تعارضه !؟
إن من علامات عصرنا الحاضر العودة إلى ثنائية " القديم والحديث " ، وإن أخطر ما في هذه العودة أنها ليست رجوعا إلى الموضوع على مستوى تحليل النصوص ومناقشتها وتفضيل بعضها على بعض ... ولكنها ردة مرتبطة بالممارسة والسلوك. هي نوع من أنواع الازدواجية تتمثل في تبني قضايا " حداثية " للنقاش النظري قصد " إثبات الانتساب إلى العصر الحديث " وتشرُّب عنصر " القِدَم " وتحكيمه عند الممارسة من أجل " تأمين مساحات الانتصار للذات الفردية "... وهو ما يشرع باب السؤال عن طبيعتنا وحقيقتنا : هل نحن قدماء أم محدثون ؟.