"كائنات من غبار" لهشام بن الشاوي
البحث عن اللذة الهاربة في رواية
"كائنات من غبار" لهشام بن الشاوي
هشام بن الشاوي
سعيد بوعيطة *
تستجيب رواية " كائنات من غبار" للكاتب هشام بن الشاوي، لطروحة الحداثة الجديدة في فن الرواية، من خلال البحث عما هو إنساني مشبع بالمحلية، وما هو فني يحوّل اليومي والمألوف إلى نص منفتح على كل الدلالات. فالقارئ يشعر منذ الصفحات الأولى للرواية بأن هشام بن الشاوي، يعتمد في بنائه السردي على البنى اللاواعية في التركيبة الاجتماعية والنفسية لشريحة معينة، لكنها مختلفة في الوقت نفسه، يربط بينها ما هو مميز قبل دخولها عالم السرد الروائي، لتتحول هذه البنى اللاواعية كذلك إلى بنى أسلوبية.
تشكل مدينتي الجديدة وأزمور ( المغربيتين) وما جاورهما من البوادي والمداشر مكانا معاشا وزمنا عموديا، ووعاءً للأفعال اليومية المختلطة. يمكن القول بأننا أمام رواية جديدة، تجمع بين الملحمية دون أن تعتمدها كليا، وفن الواقعية السحرية القائم على الموروث الشفاهي والمعاش، دون أن تقع تحت تأثيره كليا، وبهذا فإن هذه الرواية، تؤسس لنمط جديد لرؤية المجتمع باعتمادها على الرؤيا السردية المشتركة عن طريق التناوب وتبادل الأدوار على مستوى القائم بالتلفظ السردي بين جل الشخصيات المتباينة في : الأفكار، التجارب الحياتية، لكن يغوص السارد في دواخل الشخصيات وخباياها الباطنية والخفية دون أن تلغى خصوصية وفرادة كل حالة من خلال الحالة الاجتماعية، التي ميزت أو أثرت على حيوات تلك الشخصيات.
أقام الكاتب هشام بن الشاوي عالمه من خلال رواية " كائنات من غبار" ، بفتح نوافذه
وأبوابه للاتساع و التقلص معا. فمنذ الصفحات الأولى للرواية، يبرز الثانوي، ليشكل الحدث الرئيسي والمادة الأكثر حضورا في بنية السرد، وصولا إلى المشترك بين هذه الشخصيات والأحداث المتباينة. إن هذا الأسلوب في الكتابة السردية، يستوجب امتلاك الأداة الفنية قصد الكشف عما هو مشترك وعام.
♦ جمع بصيغة المفرد:
هكذا ينطلق السارد من حكاية الفرد (الشخصية الواحدة)، لكن هذه الأخيرة (الشخصية) تبدو هلامية في ملامحها، على الرغم من كون السارد يستعمل في تقديمها ضمير المخاطب. يقول السارد في الصفحة3 : " كما يجدر برجل وحيد وبائس تغفو إرهاقا، والحافلة تمخر عباب الإسفلت، في ظلمة المغيب الشاحبة...". ترتبط هذه الملامح الهلامية لهذه الشخصية (تشير) إلى شخصيات عدة، فهي جمع بصيغة المفرد.. علاقاتها بالمجتمع وبغيرها من الشخصيات الأخرى باهتة. شخصية تسيطر عليها الهواجس المختلفة والمتعددة في الوقت نفسه. هكذا يتحول هذا الثانوي/ المفرد إلى رئيسي (جمع). لكن هذا الجزئي، يغذي السرد الروائي بشكل مميز، لأن بنية الرواية الحديثة تتغذى مما هو ثانوي وجزئي، كي يعمق مساره، بخلاف الحكاية الشعبية، حيث يصبح الجزئي (حكاية معينة) امتدادا لحكاية أخرى، فالشخصية الهلامية (غير بارزة الملامح)، التي افتتح بها الروائي عالمه السردي، تتشظى، لتصبح تلك المرأة، التي تعكس حالة شخصيات أخرى تجمعها نفس الهواجس، الأحلام والآمال. حكاية هذه الشخصية هي حكاية الشخصيات الأخرى، التي تتوزع على طول المسار السردي للرواية: شخصية عبد الرحيم، شخصية بعية، شخصية كبالا، شخصية قبقب، شخصية التباري، شخصية المعاشي، إلخ.... شخصيات يجمعها ما هو مشترك (البعد الاجتماعي، البعد النفسي، الأحلام...)، على الرغم من تباين الأفكار والتجارب الشخصية، لأن هذا المشترك لا يلغي الخصوصية والفرادة من خلال الحالة الاجتماعية، التي اصطبغت بها حيوات تلك الشخصيات، لأن حكاية الشخصية الهلامية (كما أشرنا في البداية)، التي افتتح بها السارد رواية " كائنات من غبار"، هي حكاية شخصية عبد الرحيم وحكاية شخصية كبالا، وحكاية شخصية قبقب، وحكاية شخصية المعاشي، إلخ.... وإن أردنا التعميم أكثر قلنا بأنها حكاية العامل في ورش البناء، من بداية عمله في الورش. يقول السارد في الصفحة 29: "قبل أن يشرع في عمله بادرته مستفسرة: أظن مزاجك غير متعكر اليوم. ليلة البارحة، خفت أن تكون قد وقعت). كما يصاحبه السارد طوال النهار أثناء عمله في الورش. يقول السارد في الصفحة 35: "بحث عن بقايا أكياس الإسمنت، وطلب قداحة من أحدهم... في الطابق العلوي سمع أصوات ارتطام المطارق..)، إذ يمكن القول بأن المبدع هشام بن الشاوي، يقدم لنا أدبا بروليتاريا (إن صح هذا التعبير)، كما هو شأن بعض الأعمال البارزة، التي اهتمت بهذه الطبقة العاملة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: رواية "الخبز اليومي" لهنري بولاي، وكذا في بعض أعمال الكاتب الفرنسي إميل زولا (عند نهاية القرن التاسع عشر)، بحيث تناولت هذه الأعمال أوضاع وحياة الطبقة الكادحة.
يعمل السارد على تقديم هذه الشخصيات من خلال مجموعة من التفاصيل والجزئيات الصغرى، مما يجعله ساردا عالما بكل شيء. يقدم مادته الحكائية من خلال تبئير في درجة الصفر حسب الناقد جينيت (1)، بحيث يصبح الثانوي والجزئي، أساس العملية السردية، ويقوم السارد من خلاله، بتتبع الشخصيات في عملها اليومي، وفي صراعاتها اليومية. يقول السارد في الصفحة37 : " نهر "بعية" القزم العشريني الأشبه ببرميل، وهو يتندر بما حصل في دوار "الدحوش" في غيابه بالأمس قائلا: الصباح لله... تثرثر في كل الأوقات مثل المذياع ...". كما يرافقها ( السارد) في خلواتها. يقول السارد: "فكر أياما و ليالي في التخلص من عبء وافق عليه بصمت سلبي، و القلب العاشق الملال كان في سبات وجداني. يعتصر قلبه الألم ..." ( الصفحة : 74). سارد يرافق هذه الشخصيات في أحلامها وتفكيرها، ليعرف عنها كل صغيرة وكبيرة. يقول السارد في الصفحة32 :"قبل لحظات، بين اليقظة والنوم، في فراشه، وهو مستسلم لإغفاءة الغسق اللذيذة، رأى بيتا غير محدد الملامح. وقف أمام بابه. لم يلتفت إلى جدرانه...". إن سارد هذه الرواية يعتمد التفاصيل الصغيرة للفضاءات والشخصيات في الوقت نفسه، وهو بذلك يكشف عن حياة الإنسان البسيط ( يتعلق الأمر في رواية "كائنات من غبار" بعامل البناء في الأوراش)، ليكشف بذلك عن همومه الصغيرة والكبيرة منها، وتلك الصراعات الدرامية، التي يواجهها من أجل الحياة. يعمل السارد من خلال ذلك على تعميق مساره السردي، الذي يتغذى من العناصر البسيطة و الجزئية.
♦الشخصيات و الألقاب المستعارة:
شخصيات هذا العالم السردي (من خلال الرواية) شخصيات متميزة، بحيث يقدمها لنا السارد (في أغلب الأحيان) بأسماء استعارية / ألقاب. نذكر من بينها: بعية ، كبالا ، قبقب ، إلخ... تدل على ملامح الشخصيات و صفاتهم، وذلك من خلال مجموعة من الصفات والمزايا الذاتية. لكن دلالة هذا اللقب، تبرز أكثر من خلال العلاقات، التي تستطيع الشخصية أن تربطها مع الآخرين، ذلك أن السمات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية، تبرز من خلال التفاعل والتأثير الذي يمكن أن يتركه الشخص في الوسط (2). لعل هذه الميزة هي التي جعلت الروائي هشام بن الشاوي، في هذه الرواية يعمل على توظيف السخرية بشكل جلي، بحيث نستشف ذلك من خلال أكثر من مقطع سردي من الرواية؛ سخرية ترتبط كذلك بالعوالم الحكائية، التي يقدمها السارد (عالم عمّال البناء بعوالمه وحكاياته المختلفة). يقول السارد في الصفحة 41: "رفع عبد الرحيم قدحا، وتهجى الرقم المطبوع تحته. عنف كبالا عمه التباري : حط ليا كاسي، أالتباري. واش أنت بارك تشري في البلاد، وما قاد تشري كاس بجوج دراهم...". وفي الصفحة 49، يقول السارد كذلك: "تصفح الشرطي مليا بطاقته. سأله عن مهنته، رد عليه بلهجة جافة :
- حوفار.
لم يفهم الشرطي الكلمة، فبسط يديه الخشنتين أمام ناظريه...".
هذا البعد المرتبط بالسخرية في رواية "كائنات من غبار" تهيمن عليه اللغة العامية. ويرتبط ذلك في أغلب الأحيان بطبيعة هذه الشخصيات، التي تنتمي في عملها اليومي إلى عمال البناء. فإذا كان للمبدع/ الروائي لغته الخاصة، فإنه لا يكتب بها، بل يكتب حسب الناقد شاكر النابلسي (3) : " بلغات أخرى تتكون طوبوغرافيتها من ثقافة المبدع ولغته الخاصة ومن طبيعة الموضوع الذي يتناوله ومن نوعية الشخصيات التي تقوم ببناء النص الروائي". لذا جاءت اللغة العامية بشكل بارز في هذه الرواية، خاصة من خلال الحوار (الصراع بين الشخصيات)، نستشف ذلك من خلال ما يلي: الصفحات 38، 40، 43، 114، إلخ.... تكشف عن لغة ترتبط بفئة اجتماعية معينة.
♦البحث عن اللذة الهاربة:
تعرف الرواية، التي بين يدينا تحولا على مستوى الفضاء. تحول من فضاء المدينة ( أزمور، الجديدة، سيدي بوزيد) إلى فضاء البادية والعكس كذلك. ويهيمن على الفضاءين (على مستوى علاقة الرجل بالمرأة بصفة عامة) حكايات لشخصيات متعددة ومختلفة في الوقت نفسه. حكايات تتفجر بالخفي والمسكوت عنه. وتعمل هذه الشخصيات على كشف المستور وكسر تابو الجنس، من خلال ممارسة التخييل، الذي يمتد إلى اللاشعور، وتتجذر داخل تشعبات غابة التجذرات والترسبات والإحباطات الموغلة في تاريخ الذات/ الأنا العليا ( بالفهم الفرويدي)، ومحاولة انفلات هذه الترسبات من عقالها المقيد بالأعراف والتقاليد المختلفة، ليكون هدف وهم الشخصية (في هذه الرواية مثلا) البحث المستمر عن هذه اللحظة واللذة الهاربة. لكنه بحث يصطدم بالوعي القائم داخل المجتمع بكل عاداته وأعرافه. يبرز هذا الاصطدام بين شخصيات رواية " كائنات من غبار" والواقع/ المجتمع من خلال مجموعة من المواقف. ففي الصفحة 47 من الرواية، يقدم لنا السارد مشهدا لصراع بين امرأة وأحد العمال. يقول السارد : " بدأ صدرها يعلو ويهبط مع كل شهيق وزفير. امتدت يدها تكفكف دموعا لم تنتظر أن تنسكب (...). تندروا بحركات "كبالا "، وهو يفك الأذرع المتشابكة، ويداه تلامسان صدرها، بحركات تبدو غير مقصودة.
سأل أحدهم الجار الملتحي عما حدث، رد بنبرة ازدراء:
إنهم البناؤون." ( الصفحة:47).
كما يتجلى هذا التصادم من خلال مجموعة من المواقف: الصفحة 8، الصفحة 43، الصفحة 70، الصفحة 77، إلخ... تنم عن تلك الرغبة المنفلتة واللذة الهاربة، التي تحاول هذه الشخصيات الروائية القبض عليها. اللذة والمتعة لا ترتبط بالجنس فقط، بل بالحياة وما يرتبط بها. هذه الهرولة والجري وراء متطلبات الحياة وصعوبة القبض عليها، قد يجد مبررا له في دلالة عنوان الرواية نفسها " كائنات من غبار"، التي قد تعني الإنسان في اندثاره وعدم تماسكه، وقد تسلب منه كذلك إنسانيته بكل أبعادها ومتطلباتها.
كثيرة هي القضايا، التي تثيرها رواية هشام بن الشاوي. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأدب البروليتاري، الرؤيا الشبقية، الحديث عن الكتابة/ الإبداع: ماهيتها و ملابساتها. تجعل هذه الرواية منفتحة على إمكانات قرائية متعددة ومختلفة في الوقت نفسه.
الهوامش:
♦الصفحات المشار إليها مأخودة من:
بن الشاوي ( هشام )، كائنات من غبار( رواية)، ط 1، شركة مطابع الأنوار المغاربية ، وجدة ، المغرب ، 2010.
(1) نقلا عن : يقطين( سعيد) ، تحليل الخطاب الروائي ، ط :1 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ( المغرب) ، ص : 371.
(2 ) بوعيطة(سعيد) ، سحر الواقعية في رواية "سرير الأسرار " للبشير الدامون ، مجلة " عمان"،
العدد: 168 ، حزيران ( يونيو) 2009، الصفحة : 75.
(3) النابلسي ( شاكر) ، مدار الصحراء ، ط :1 ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت،
1991، ص : 19 .
*سعيد بوعيطة : ناقد ومترجم من المغرب.