الروائي الذي يمزج بين جيولوجيا المكان وجيولوجيا الناس
الروائي الذي يمزج
بين جيولوجيا المكان وجيولوجيا الناس
العشري: ألهو للخلاص بروحي من ضجيج العالم
أنديرا مطر
أليست الرواية هي الدخول في جيولوجيا الأشياء كما في جيولوجيا البشر؟
كان من الطبيعي لمحمد العشري، المهندس الجيولوجي، أن يصبح روائيا ما دام يبحث في طبقات الأرض، وبالتوازي في طبقات الناس، فصاغ أعمالا عدة، وان كان يعترف بما يشبه الانزواء الصوفي، انه انما يكتب ليلهو بهدف الخلاص بروحه من ضجيج العالم.
العشري الذي من أعماله «غادة الأساطير الحالمة»، و«نبع الذهب»، و«تفاحة الصحراء»، و«هالة النور»، و«خيال ساخن»، كان في بيروت، التقيناه وكان هذا الحوار.
* من هو محمد العشري؟
ــــ محمد العشري روائي يبحث في طبقات الإنسان ويشرحها بحثاً عن الذات وإنسانيتها، كما هو في عمله الرسمي «جيولوجي» يبحث في طبقات الأرض ويحللها بحثاً عن البترول والثروة. نشأت في أسرة ريفية، تعيش في قرية اسمها «البصراط» وهي إحدى قرى دلتا مصر، وتقع على شاطئ بحيرة المنزلة في زمن مضى، فقد جففت مساحات شاسعة من البحيرة، وانحسر الماء عنها بكائناته بلا رجعة، وكان لهذا الملمح في بداية تكويني بصمة شديدة، جعلتني أهتم بالصورة وتأملها، فكانت بدايتي مع الرسم.
• هل ثمة أحداث كان لها أثر في تكوين حسك الأدبي أو اتجاهك نحو عالم الكتابة؟
ــــ ربما يعود ذلك إلى المكان الذي نشأت فيه، على ضفاف البحيرة، فقد أحببت الماء والصيادين بمراكبهم الشراعية وهي تلوح في الأفق البعيد، رأيت الشمس وهي تستحم مع البنات في ماء البحيرة، ثم تصعد إلى السماء، رأيتها مع لون الغروب وهي تعود وتذوب في الماء، وشاهدت منازل القمر على صفحات فضية متلألئة، كل ذلك مر هادئا ومريحا وباعثا على التأمل، رغم صخب ما بعد هزيمة 1967، التي أكسبت القرية طباعا غير طباع القرى، حين امتلأت بيوتها بآلاف المهجرين من بورسعيد حتى بيتنا لم يسلم من ذلك.
وفي حرب 1973، كنا مازلنا صغارا نصعد فوق أسطح البيوت ونرى الطائرات وهي تمر مسرعة من فوق رؤوسنا نتقافز في الهواء محاولين الإمساك بأذيالها، مرات تتبعناها وهي تسقط في الماء بعنف تاركة وراءها مساحات من الدخان، ما زلت أشم رائحته في صدري، ومازلت أراها أمامي تدفعني إلى الكتابة بعد أن قبضت على العديد من الرؤى، وبعد أن استوعبت بعضا مما كان، وبعضا مما تعيشه القرية حاليا من تغييرات في كل شيء، زلزلت كيان الحياة الريفية البسيطة.
بين الواقع والخيال
• ما دوافع الكتابة لديك؟ وما تأثير النقد الذي تمارسه على الكتابة؟
ــــ لم يشغلني هكذا سؤال كثيراً، لأنني أبحث عن طريقة ما للتعبير عن نفسي، بكل ما يعتريها من متغيرات وأهواء وثوابت، وجدت ذلك في الكتابة بشكل عام، وكتابة الرواية على نحو خاص. باختصار يمكنني أن أقول انني ألهو وأستمتع وأتسلى بالكتابة للخلاص بروحي من ضجيج العالم، وما نعيشه من متناقضات، والأهم أنني أحاول أن أجرب وأبتكر في اللغة وأعجنها بأشياء من الواقع، وأشياء من الخيال، وبعض من العلوم، مستغلاً خلفيتي العلمية، لأحقق في الكتابة مخترعات تراودني من وقت لآخر، ولا أجد المناخ أو المكان المناسب لتحقيقها عملياً، او التفرغ لها بشكل كامل.
أما النقد فإنه يكسب الكاتب عيناً ثالثة، تُمكنه من التأني وتأمل ما يقرأ بشكل فني.
الرواية اللبنانية
• رصدت في مقالاتك النقدية الكثير من التجارب السردية في لبنان، ما رأيك في تجربة الرواية اللبنانية؟ وما الأسماء التي تراها مؤثرة؟
ــــ أهم ما يميز الرواية اللبنانية الحديثة اهتمامها برصد تجربة الحرب في لبنان على فتراتها المتباعدة والمتقاربة، وتأثيرها على الذات والحياة وتكوين النسيج الأسري، وكذلك الدفع بكثيرين للهجرة والعمل في بلدان بعيدة عن بيروت.
وهناك العديد من التجارب الروائية اللافتة، التي عبرت عن ذلك بمهارة، من الكاتبات: هالة كوثراني، إيمان حميدان، لنا عبد الرحمن. ومن الكتاب: حسن داوود، إلياس خوري، رشيد الضعيف وربيع جابر. كذلك يحضرني هنا كتاب الشاعر والصحافي عبده وازن عن رواية الحرب في لبنان، والذي رصد فيه تجارب روائية عديدة لها حضورها في المشهد الروائي اللبناني عبر أجيال مختلفة.
كتابة الأسطورة
• غادة الأساطير الحالمة، نبع الذهب، تفاحة الصحراء، هالة النور، خيال ساخن، هل تنتمي رواياتك تلك إلى نوع أدبي واحد؟
ــــ في روايتي الأولى «غادة الأساطير» اتجهت إلى كتابة الأسطورة بالاتكاء على مخزون الذات الحياتي، الحب ودوره في تخليص الروح. وفي الروايات الثلاث اللاحقة: «نبع الذهب»، «تفاحة الصحراء»، و«هالة النور»، شردت وغبت في الصحراء، لأعود ببعض الاكتشافات، اصطدت الصقور الجارحة، واكتشفت الماء في الصحراء، ورصدت العلاقة بين العربي في صحرائه والأجنبي الوافد عليها في رواية «نبع الذهب». رسمت مسالك الطرق الملغّمة بتفاحات الصحراء القاتلة، في منطقة العلمين بالصحراء الغربية، وحقول الألغام الرهيبة التي تعوق عمليات البحث والتنقيب عن البترول والثروة فيها في رواية «تفاحة الصحراء». اكتشفت كوكباً جديداً، يسعى سكانه إلى نقل رمال الصحراء إليه، لأنه المصدر الجديد للطاقة بعد انتهاء زمن البترول في رواية «هالة النور».
وفي روايتي الأخيرة «خيال ساخن»، عدت إلى كتابة الأسطورة، بالسباحة في نهر النيل، رحلة في مركب صغير، تدخل بأبطال الرواية إلى الحياة الفرعونية البعيدة، والصحراء المتاخمة لضفتي النيل وأثره في تشكيل حياة المصريين، ومنطقة الفيوم، وتنتهي بهم الرحلة في الزمن الحاضر، بحثاً عما يفتقده الإنسان الآن من دفء وحب وأمان.
• من هم الكتاب الذين أثروا في مسيرتك الأدبية؟
ــــ الكاتب الذي أراه حاضراً حين يطرح السؤال هو الفرنسي جول فيرن، لما كان يتمتع به من خيال، وابتكار أضاف الكثير لخيال العلماء فيما بعد وحققت روايته الكثير من المخترعات الحديثة. وكذلك سلفادور دالي وفرنسيس غويا في مجال الفن التشكيلي. وتبقى تجربة نجيب محفوظ لها الأثر الأكبر في التعامل مع الكتابة والرواية بجدية وصرامة متناهية النظير، تثير الإعجاب والتأمل.
الربيع العربي
• كيف تفاعلت مع ثورة 25 يناير في مصر؟ وما رؤيتك الخاصة للربيع العربي؟
ــــ حين تفجرت الثورة في مصر، لم نصدق أنفسنا أننا لدينا القدرة على فعل ذلك، أظن هذا ما فجر طاقتنا وجعلنا نتماسك ونقوى في مواجهة النظام القمعي الفاسد حتى سقط. يحتاج الأمر إلى التأمل والتعايش الآن، أكثر مما يحتاج إلى كتابة، ورأيي أنه سينتج نوعاً مغايراً من الأدب، بمفاهيم ورؤى جديدة تتناسب مع كسر القيود والتحرر منها.
كذلك لابد أن يظهر تأثير تلك الثورة بشكل إيجابي لأنها حررت المجتمع من خوفه، وكشفت الزيف والخداع اللامتناهي الذي كنا نحيا فيه ونلمسه، ولم نكن قادرين على إزاحته. وأتمنى أن يستمر الربيع العربي حتى تسقط تلك الأقنعة التي تحكم بتكبر وطغيان من دون مراعاة لحرية الإنسان وحقه في أن يعيش حراً في مجتمع عصري حر في كل بلادنا العربية.
مستقبل الكتاب
• كيف ترى مستقبل الكتاب؟ هل استطاع الانترنت ووسائل الاتصال الأخرى إزاحة الكتاب من يد القارئ؟
ــــ عالم الإنترنت جعل التواصل أسرع، وساهم في الاطلاع على تجارب الآخرين، من أماكن شتى، دون انتظار المكتبات ودور النشر في توفير الإصدارات الجديدة، جعل نافذة العصر الثقافية أكثر ثراء وتنوعاً واشتباكاً وتواصلاً. لذا، فالوقت وحده هو الكفيل بترشيح واستخلاص التجارب الراسخة ذات القيمة، التي ستجد لها حضورها في النشر الورقي أيضاً سواء على المستوى الإبداعي أو الصحفي.
رأيي أن الرواية بطبيعتها تحتاج أن تنام مطبوعة بين أيدي قرائها، في عالمنا العربي ستجد صعوبة في قراءة رواية على الجهاز، لأن القارئ لم يتربى على ذلك.
توجه علمي
• لماذا التوجه العلمي في بعض رواياتك؟
ــــ قناعة ما أسعى لتحقيقها، أو على الأقل لمسها، وتقديم كل السبل المتاحة للإمساك بها على أرض الواقع. يتبادر إلى ذهني الآن كتاب قرأته في مرحلة مبكرة، عن تأثير إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتيّ «هيروشيما» و«ناجازاكي» في اليابان، وترك ذلك الكتاب أثراً واضحاً في أشياء كثيرة شكلت الوعي، ولازمتني لفترة، وما زالت. أذكر أنني وقعت تحت سيطرة تامة لهول ما حدث للإنسان، حين تتحول الحياة فجأة إلى جحيم، وغدوت أتخيل نفسي في ذلك المكان مما سبب لي كوابيس ليلية حفرت أخيلتها في الذاكرة وتركت كرات نار ملتهبة.
بمرور الوقت رحت أفكر في الأمر بشكل علمي للبحث عن حل أو مُخترَع مضاد للانشطار المستمر الذي يحدثه الاندماج النووي، ربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتني إلى الاتجاه إلى الدراسة العلمية، والتخصص في العلوم «بوعي أو دون وعي واضح»، مع الوقت اكتشفت أن الرواية ذات التوجه العلمي يمكنها أن توفر مخترعات يمكن للعلماء الاستناد إليها في عملهم.
وباء وهزيمة
• ماذا تكتب الآن؟
ــــ أشتغل على رواية متوغلة في «تانيس» القديمة، تلك المدينة الفرعونية التي تمجد القطة باستيت، الغارقة في السحر، ومن جرائه غرقت تحت مياه بحيرة المنزلة، واكتشفت اخيراً بعض آثارها الباقية تحت الماء.
وتتوقف الأحداث أمام وباء اجتاح الريف المصري في بدايات هذا القرن، ولا زال كبار السن في مصر الآن يذكرونه (وباء الكوليرا الشهير سنة 1947)