قراءة في رواية "أرانب" لسلوى بكر
قراءة في رواية "أرانب" لسلوى بكر
عبد القادر كعبان
لكل روائية بصمة خاصة في ابداعها و تقديمها بأسلوب ينفرد عن باقي الأديبات و نحن في هذا المقام نقف أمام المبدعة المصرية سلوى بكر التي لقبها النقاد "بكاتبة المهمشين" حيث تحمست لقضية الطبقة السفلى من المجتمع بحس نضالي ناضج و كفاءة فنية عالية في الكثير من أعمالها و نذكر هنا على سبيل المثال روايتها القصيرة الموسومة "أرانب". عندما يشرع القارئ بقراءة هذه الأخيرة سيقف أمام عمل له خصوصيته و أسلوبه من خلال الطرح و اللغة البسطية التي تدفعه لمعايشة تلك الشخصيات الإجتماعية الفقيرة بأحلامها و آمالها.
أسامة الشخصية الرئيسية يروي الأحداث من زاوية نظره، فأبوه رستم الليثي وهو ناظر زراعة الأمير طلعت باشا أحد أقرباء الملك فؤاد. وفاة والده غيرت حياته رأسا على عقب حيث تقلصت علاقاته الإجتماعية مع أقاربه لا لشيء لأنه مجرد موظف صغير محدود الدخل. لم يداخل أسامة اليأس بل تشبت بالحلم رغم مطبات الحياة التي مر بها، فمن العبارة الأولى في الرواية سيكتشف القارئ ملامح التهميش: "فتح أسامة عينيه الخضراوين الضيقتين لتصطدما بالمشهد المزمن لصباحه اليومي..." 1.
يعيش البطل رفقة زوجته حياة و ابنتيه و هو يعمل كموظف في وزارة الصحة في الفترة الصباحية ليعود إلى مزاولة عمل آخر في الفترة المسائية بشعور لا يخلو من المرارة و الضيق فقد عمل كبلاسير في سينما درجة ثالثة بإحدى المناطق الشعبية أين وجد نفسه وسط أصناف من قاع المجتمع حيث تقول الروائية: "كان عليه خلال ذلك التعامل مع السمكرية و الميكانيكية، و صبية المحلات، إضافة إلى البلطجية و الشضلية و جميع الأصناف الواقعة من قعر قفة المجتمع..." 2. كل هذا القهر الذي يداخل نفسية البطل كان يتلاشى مقابل بضعة جنيهات تتجمع لديه بين الحين و الآخر كإكرامية من بعض رواد السينما حيث يقول السارد: "كما أنها لعبت دورا حاسما في تسديد القسط الشهري لسخان المياه الذي كان لا بد من شرائه رضوخا لرغبة البنتين" 3.
ترصد رواية "أرانب" وقائع بسطية تعكس الوجه الكالح من حياة الناس في المجتمع: "ظل سارحا بأفكاره و هو واقف في السيارة، يرقب من شباكها أولئك المنتظرين عند كل محطة تقف فيها. كان يتأمل وجوههم المكدودة الشاحبة، و نظراتهم الميتة المنطفئة البادية من عيونهم بلا معنى." 4. تحاول المبدعة سلوى بكر أن تعكس ملامح شخصياتها من مجتمع يخلو من الألوان التي تبعث على حب الحياة و هذا على حد تعبيرها: "...كان يدرك أنه يشبههم بشكل من الأشكال، إنسان بلا معنى، أتى إلى الحياة و سيتركها ذات يوم و كأنه لم يكن فيها أبدا، فهو إنسان بلا لون..." 5.
ما نلاحظه إجمالا أن هذه الشريحة الإجتماعية تعيش يومياتها على ما يبدو بفعل العادة تنتظر نهاية لهذه الحياة المستعصية التي بات يغلف روحها الألم و الهموم التي لا تنتهي. هذا النوع من الكتابة اشتهر به الأديب الراحل خيري شلبي صاحب رواية "وكالة عطية" حيث تسير المبدعة المصرية سلوى بكر على خطواته في نسج خيوط سردية لشخصيات مهمشة تبحث لها عن بقعة ضوء داخل مجتمعنا العربي.
لم يستسلم بطل الرواية لمشاكل الحياة و حاول الخروج من دوامة الفقر من خلال مشروع تربية الحيوانات المنزلية الأليفة و التي كان مقرها شرفة الحجرة الداخلية لإبنتيه لكن كل ذلك لم يأتي بنتيجة نهائية تخرج بفائدة حيث تقول الروائية على لسان السارد: "و قد تسببت تلك الحرب الحيوانية في تعرض أسامة لأشكال من اللوم و التوبيخ المهذب من قبل الجيران كانت تجئ على صورة مذكرات احتجاج شفاهية ينقلها أبناؤهم المبعوثون بصفة رسمية إلى البيت..." 6. تلك الشكوى انتقلت أيضا الى أفراد الأسرة حيث أن زوجته هي الأخرى امتنعت عن الذهاب الى شراء الطعام لتلك الحيوانات.
راودت أسامة فكرة جديدة تتمثل في مشروع تربية الأرانب حيث داخله إيمان عميق أن هذه الفكرة ستكون ناجحة مائة بالمائة و ستساهم في تحسين الظروف الإقتصادية للعائلة: "راح يتذكر الأرانب بعيونها المستديرة البارقة المحدقة، و كأنها في حالة اكتشاف و دهشة (...) و اعترته حالة من التقدير و الامتنان لتلك الكائنات الطيبة، المعطاءة بلا حدود..." 7.
صمم أسامة على تطوير مشروع الأرانب الذي بدأه و لم يجد مفرا من وظيفته إلا بطلب إجازة مرضية حتى و لو ادعى المرض بشكل غير مباشر حيث نجده يقول: "...من يومين و الكلى متقلبة علي، عاوز أعمل أشعة، لأني شعرت الصبح بحسرة بول شديدة، و حرقان غريب." 8. هذا ما يقوم به الموظف العربي في الكثير من الأحيان للتهرب من المسئولية داخل فضاء المهنة سعيا منه لقضاء حوائج خاصة قد تنجم في كثير من الأحيان الى خلق مشاكل بين المسؤول و مرؤوسه أو على عكس البطل أسامة الذي استطاعت كذبته السريعة أن توقع بمديره الأستاذ فهمي الذي وافق على الإجازة مقابل هدية متمثلة في أرنبان.
كل هذا يدفعنا أمام هذا المشهد أن نقول بأن المهمش اليوم أصبح راضيا بطريقة عيشه العشوائية أو الغير الأخلاقية في كثير من المواقف كما يقول أسامة رستم بعينه: "أرنبان مقابل إجازة لمدة أسبوع أقضيه في البيت متفرغا لمشروع الأرانب، عظيم جدا" 9.
المهمشون يثورون بدورهم بين حين و آخر و لو بأضعف الإيمان كما فعلت ابنة البطل الصغرى سامية حيث صاحت بنبرة غضب داخل جدران البيت كما يفعل الكثيرات و الكثيرون: "أرانب.. أرانب، عيشتنا أصبحت أرانب في أرانب، كل يوم الأكل بالأرانب، عاوزة سمك، فراخ، أي نوع من أنواع اللحم غير الأرانب، يا عالم حرام عليكم، كأننا في سجن أو معسكر جيش، و الأرانب مقررة علينا و كأنها قدر." 10. هذا ما قد يفعله كل شخص يعيش تحت ضغط التهميش الذي يكتم على أنفاسه، سيدفعه حتما الى التمرد يوما على حالته الإجتماعية التي تكاد تنزلق نحو الجنون في كثير من الأحيان.
ما يمكن استخلاصه عبر صفحات رواية "أرانب" عموما هو أن المهمش اليوم أمام حالتين لا ثالث لهما، إما أن يتقبل حقيقة تجميده في مجتمع بيروقراطي و إما يصبح منبوذا منه و هو بين هذا و ذاك يظل يتخبط بآلامه و همومه و مشاكله التي لا تنتهي.
لا يمكن استقصاء دور المرأة في المجتمع خصوصا من خلال الأعمال القصصية و الروائية للكاتبة سلوى بكر أين تستوقفنا شخصية حياة زوجة أسامة التي تسانده في مشوار حياته الصعب منذ البداية، حيث نلتمس ذلك من الصفحات الأولى للرواية من خلال تكنيك السرد التلخيصي الأشبه بالشريط السينمائي حيث تقول الروائية على لسان السارد: "نط من مطرحه بهمة و حماس، و بخطوتين لا غير صار واقفا الى جوار حياة في الشرفة..." 11. استعانت بكر بتقنية الحركة كآداة من أدوات الكاميرا السينمائية لتقدم لنا وقائع يعيشها المهمشين بحلوها و مرها حيث نصل الى هذه النقطة: "ظلت تستمع إليه بلا مبالاة، على رغم الجدية و اليقين الكبيرين اللذين تمتلئ بهما نبراته، و لم تنتبه إلى نظراته المتلمظة المتطلعة إلى ما يحيط بمعصمها الأيمن من ذهب." 12.
لا بد أن يتوقف القارئ برهة أمام صورة البطل أسامة سارحا بأفكاره و هو يحلم بغد أفضل و هي بالفعل الصورة المشابهة للكثير من المهمشين في الوطن العربي: "تصور نفسه و قد تملك قطعة أرض أقام عليها مزرعة أرانب ضخمة وفقا للأصول العلمية الحديثة في تربية الأرانب، مزرعة يسميها 'الأرنب الذهبي'، و تصور نفسه جالسا خلف مكتب فخم في مبنى الإدارة يتكلم في إعلان تلفزيوني عن إنتاج المزرعة بصفته صاحبها و راعيها." 13. فجأة يستفيق البطل على صوت زوجته حياة لتوقظه من حلم اليقظة ليجد نفسه يتحرك في متاهة عالم قاسي لا جدوى من إصلاحه.
لا يسلم البطل من مراودة ذلك الحلم ليصل به الأمر في محاولة دءوبة لإقناع زوجته من بيع القطع الذهبية التي تملكها حرصا منه على بدء المشروع الناجح حيث يقول السارد: "...بيعي الأساور و اسمعي كلامي، لأننا لا بد أن نتحرك و نكبر، و نتحول إلى مشروع بالمعنى الحقيقي، فالزمن زمن شطارة، و لازم أن يفكر الإنسان و يشتغل، و الدنيا قدامنا مفتوحة، لازم نفتح لها صدرنا، و نجازف فيها بالحكمة و العقل." 14. ما يمكن قوله أمام هذا المشهد السوسيولوجي بإمتياز هو أن المهمش بطبعه يحاول عبثا الخلاص من حياته البائسة و لو وقع ضحية أحلامه الغير المتحققة في الكثير من الأحيان كما هو حال أسامة رستم الذي بين يوم و آخر لم يعد يرى أيامه القادمة سوى بلون أسود لا يليق به و لم يعد يسمع صوتا إلا صوت زوجته حياة و هي تقول: "الحقني يا أسامة، الأرانب ماتت، ماتت كلها." 15.
في الختام، ما يمكن أن نقوله هو أن نص "أرانب" رواية قصيرة اجتماعية بلا منازع، كتبتها المبدعة سلوى بكر بلغة واحدة متكاملة النسج و الصياغة، فصارت بحق عملا أدبيا ذا جهد كبير و إتقان واضح، و بالنتيجة الحتمية فإن هذا العمل الأدبي يستحق القراءة و التأمل.
هوامش:
1.سلوى بكر، أرانب رواية و قصص قصيرة، مكتبة مدبولي، مصر القاهرة، ط3 2004، ص:07.
2. المصدر نفسه ص 11.
3. المصدر نفسه ص 12.
4. المصدر نفسه ص 18.
5. المصدر نفسه ص 18 .
6. المصدر نفسه ص 14-15.
7. المصدر نفسه ص 21.
8. المصدر نفسه ص 23.
9. المصدر نفسه ص 25.
10. المصدر نفسه ص 26.
11. المصدر نفسه ص 08.
12. المصدر نفسه ص 29.
13. المصدر نفسه ص 31.
14. المصدر نفسه ص 37.
15. المصدر نفسه ص 44.