الموت الرابض وراء الجنون
يسري الغول في قبل الموت بعد الجنون
يسري الغول
*عامر خميس القديري
لم يضع أمام عينيه حقيقة باهتة، أو صورة قاتمة كما يمكن أن ينظرها أحدٌ بين سطور الكلمات التي يخطها على صفحات إبداعه، فالقاص يسري الغول قد علم بأن هناك قمة شاهقة ليس سهلا بلوغ نهايتها.
ولعل ذلك ما جعله يؤسس بين سطوره عوالم خاصة يسكنها بنفسه، فينتقل معها إلى كل قارئ ليحدثه بلسانه ويشاركه بوجدانه، فهو لم يعهد أن يكتب أحلاماً خرافية تتلاشى كالغبار، مع ضرب دفتي مجموعته القصصية، بل وقف بثبات أمام الجرف الهار يستعصم الهبوط.
فيسري الغول ومن خلال مجموعته القصصية الثانية "قبل الموت بعد الجنون"، أراد أن يقول كلمته، ويشيِّد منطقة واقعة يحدها الموت قبل وقوعه، والجنون بعد حدوثه، وهو يتفادى انقلاب الحدود والأحداث، يسير على وتر حاد. فقد قبل مهمة جادة, يحمل على أنامل الإبداع هموم الوطن المنكوب، ويروي في قصصه حكايا الأزقة التي تخفي بجوفها عوالم العابرين على جرح الوطن، دون دليل على وجودها، فأصبح يقتفي أثرها ويسجلها للتاريخ، يرفعها أمام النافذة تحت الضوء كي يرى الجميع ألم الجسد النازف.
فأسلوب القاص يحمل جديداً، بعيدا ًعن المألوف, وغوصا ًنحو تجسيد كلمة مغايرة، فيجمع بنفسه قطع الصورة المتناثرة، التي استحالت إلى أجزاء ممزقة عاجزة عن التعبير عن أحلامها بفعل التفتيت الذي طال الفلسطيني مع الوقت.
ولعل المتأمل لخطوط الغول يدرك بأنه لم يبدع أدبه كي يرصه بين آلاف المصنفات، وإنما ينظر لتلك القمة التي لم يصل إليها سوى القليل، فهو لا يبحث عن كهف في الجبل ليعد فيه إقامته الدائمة، بل يجعل منه ركيزة للصعود، رصيدا ًللإمداد الأدبي الذي سيدفعه أكثر، كي يثبته عند الوصول دون ترنح أو تراجع.
فيبحث عن جيب ليتخذه معسكرا ً يتزود به من العوالم، وينظمها بلغته الخاصة، فهو يمسك بالحروف كما الطفل يمسك بمكعباته الصغيرة, يشكل بها مجسمات تعبر عما يعتمر عقله من أخيلة، فترى الغول يتنفس شجون المخيمات, يحاول بكل حماس أن يدفعها أمام كل من يحاول أن ينسى المأساة الأولى، ثم يضع نصب عينيه أن ما سيخرج من إبداعه سيكون سفيرا ًلائقا ً بحجم الكارثة.
ومن الواضح أن عنوان مجموعته القصصية الثانية يكسوها رداء الغموض الممتزج براحة الموت, وإذا كان الجنون فيها ملاذاً لمن سلم من الموت الخاطف، فإنه لن يسلم من الجنون الهادر، فالغول يعرض فلسفته الخاصة عبر لغة صقلها بروح ترفض التكرير أو الاستنساخ ليصل بالقارئ إما إلى الموت أو الجنون. فهو يهرب من نقل الصورة كما هي جافة جامدة لا تؤجج ثورة داخل من يتلقاها، إلى صورة طيعة مرنة تدفع من يراها نحو الانتحار/ الانفجار، فالحكاية لا يريدها أن تصبح خبرا ًعابرا ً تعتاد النفس عليه بل واقعاً ملموساً بين يدي القارئ.
هناك صوت يصدح في ملئ الأفق، قلبا ً يخفق بما فيه من قوة، ضجة تتحدث عن نفسها بنغمة تتسلل إلى الذهن الخامد، فتشكل إيقاعا ًيتغلغل في جنبات النفس اليائسة، لتحدث الصعقة التي تنتشل الرمق الأخير من المغادرة مع السراب.
هكذا يمكن أن نتصور الغول وهو يحاول أن يدق جدران الخزان طوال تلك الفترة الطويلة منذ باكورة كتاباته.
وعند التدقيق في وصف أسلوب كتابته، نجده يتغلف بشيء من السحرية والرمزية المعبرة عن الواقع، والتي تحاول أن تستثير النفس نحو أحداث تكررت فأصبحت معتادة عليها.
ولعل الغول يريد بقلمه أن يعيد إنتاج الصورة النابعة من قلب الألم، المحاطة بعناصر الأحداث والمزودة بمؤثرات البعد الإنساني، لذلك فإننا نجد أنفسنا أمام مخزون من المعاني والصور، التي تشكل توليفة الأسلوب القصصي عند صاحب "قبل الموت بعد الجنون".
ففي قصته "عصفور" تجد الثورة العارمة في نفس القاص تنفث ألسنة اللهب عبر حروف القصة، وتتشكل من خلال تجسيد الحدث فيها، عندما ترى طفلا ًبريئاً أبعد ما يتمنى أن يصطاد عصفورا ًصغيرا ًليومه، دون أن يحمل نوايا خبيثة ضد مستطونة ترزح فوق أرضه غصباً قبل أن يولد، وإن كان الطبيعي أن يعتمل الحزن بداخله ويحمل من الكره ما يدفعه إلى الانتقام، ولكن بطفولته البريئة لم يشعر بشيء من هذا، إلا أن طلقة تخرج من تلك الثكنة فتصيبه في مقتل لتقضي على آخر ضفيرة من أحلامه، دون أن يرى قاتله، أو يشتم رائحته التي تتعبق بالموت، فهذا الحدث اليومي المتكرر في المشهد الفلسطيني المتلازم لأصحاب الأرض يتغير عرضه عند يسري الغول، فالكاتب لم يرد أن يرضخ لمفردات الحدث اليومي كما هي، بل يمضي بنا إلى هناك حيث تستتر آلة القتل، ليكشف سوءة القاتل المختفي في كل جريمة، ليقتحم عليهما خلوتهما، حيث رائحة الجريمة، ليحاكمهما أمام الناس، فتجحظ الأعين كأنها تخرج من محاجرها، عندما تعلم أن القتل أصبح ثمنا ً لشهوة الفراش.
ويسدل الغول الستار على كل قصة في مجموعته بعد جلبة الإبداع التي يحدثها، بمتعة الأسلوب الجاذب للوجدان والذي يلتحم بشجون النص باعتباراته وشخصياته ورمزيته.
ففي قصته "هذا أنا" يعرض القاص الغول نفسه أمام القارئ، يحدثه عما يجول في خلده، يحاوره كأنه يعبر عن كل إنسان يخشى من شيء قادم، حتى وإن كان يعلم أن المجهول آمن، ولكنها لعبة الحياة، تتخلى فيها عن أمانك لتقابل ما وراء الحاضر بكل استسلام، ويبدو أن الكاتب قد استبق اليوم، وعبر عما يمكن أن يحدث لعديدٍ ممن يشبهونه، ليس في تفكيره وإنما في المصير.
هي أبجديات الطموح المتلازم مع حياة البشر، نحاول أن نتصالح مع عالم يبدو أمامنا كالمرآة، كلما حاولنا النظر خلفها من خلالها نجد أنفسنا كما نحن، وعندما يأتي ما وراء القادم نرى المرآة قد استجابت لتغيرنا.
ولهذا يمكن أن ندرك أعمق نقطة في كتابة الغول، حتى وإن رأى غير ذلك، فهو قد ترك الباب مشرعا لاستقراء العديد من المقاصد، وهكذا يكتسب سرا ً يضاف إلى نصوصه الغزيرة والرائعة.
كما البارحة يحاول في "المنبوذ" أن يعكس الحقيقة النمطية للعادة، فيخلط الأوراق مستعرضا ً إياها بتجريدها الأولي، ثم يبدأ التركيب من جديد، يشاركه قراؤه في مسار الاكتمال الذي يريد، وكأن في "المنبوذ" مثال لمعاكسة القدر لإرادة النفس، وإن لم يكن ذلك كل حين، فالكاتب لم يرد من خلال قصصه أن يحصي الحروف فقط، أو أن يزيد عددا ًبين المؤلفات، وإنما يسعى لأن يرسخ كلمة جديدة، بمعنى جديد، وبصورة جديدة، تحمل كل عناصر التطور الذاتي الذي نريد في نسيج الأدب الفلسطيني، وتحديث اللغة التي يجب أن تظل أقوى من أزيز الرصاص، بل من قصف المدافع، فحين كانت أجهزة الاحتلال تنشط في اغتيال الأدباء الفلسطينيين وأصحاب الرأي والقلم كغسان كنفاني وناجي العلي، وتنفي من لا تستطيع اغتياله، كانت تلك الكلمة الثاقبة تفجر بركان الغضب.
وهكذا يكمل يسري الغول متواليته القصصية في حضرة الإبداع، دون مبالغة أو غلو، مستعيناً بعدالة قضيته، وحاملاً في جوفه معاناة شعبه، يحاول أن يكون لسان الحال الفلسطيني المخلص، اللسان الذي لا يهون من هول الكارثة، ولا يغيِّب الحقوق التي سلبت، ولا صورة العذابات التي تطال الشعب في عقر داره، وتصبح جزءا ًمن طبيعته، وحدثا ًفي يومياته.
وكم تحتاج الحياة الثقافية الفلسطينية اليوم إلى زخم أدبي رفيع، وأقلام تحمل من المعاني أعماقاً تتناسب مع ما يلحقها من الإهانة، وما يحاول المحتل من جهد لتغييب وجه فلسطين عن المسرح الدولي، وفصلها عن عمقها الطبيعي مع العالم العربي.
إن ما يجب البوح به في هذه المجموعة القصصية هو جمال الأسلوب اللغوي، وبراعة التصوير، وإن كنت أفضل أن أنقل الدلالة الفلسفية والرمزية التي تختفي بين سطور المعنى ومجمل الكلم. إلا أنه من الواجب الإشارة إلى اللغة القوية والجميلة عملت على بيان الرمز والأسطورة في النصوص المجنونة للغول، ولعل تناسب الأسلوب في تعبيره مع الأحداث التي تشكل بيئة الكاتب يتلمسها القارئ عندما تصيب من حوله، فأبطال القصص والحكايا كانوا رسلاً صادقين يتحدثون بلسان شعبهم وبلدهم، لذلك يلتقط الغول الصورة الأكثر تأثيراً في المشاهد المتوالية من العدوان والحصار والتضييق، ويجرده مما تبقى له، فالمحتل يحاول جاهداً أن لا يخرج صوتاً يقول هنا الشعب الفلسطيني. ولذلك فإن الكلمة الفلسطينية اليوم تجد لها مكاناً في سماء العالم لأنها تعري وجه المحتل، وتضبطه وهو يحمل أداة القتل يجز بها رقاب الأبرياء في الخفاء وفي العلن، فإن هكذا كلمة وهكذا أدب لهو أعظم أثراً على هذا المحتل من ألف رصاصة بل من ألف معركة.
وختاماً، فإن من الواجب أن ننصف القاص الغول، لأن الأدب الفلسطيني ما زال يحتاج إلى هكذا أسلوب وهكذا نوعية في صورة متكاملة، ترسم طموح الغد، ونرى في الغول كاتباً وقاصاً يتقدم ويرتقي بكتاباته ليعبر بالصورة المعاصرة عن كل ما يتلازم مع الإنسان أولا ً والفلسطيني ثانياً، مجسداً بإبداعه الاحتياجات المتوازية، والطموحات البعيدة، ويقارب بين كل ما هو ساهم.