بين يديّ (شظايا الصدى المتكسر)
بين يديّ
(شظايا الصدى المتكسر)
طلال سالم الحديثي
باحث وناقد
لا اعتبر نفسي هنا مقدما لهذه المجموعة الجديدة من شعر الشاعر خلف دلف الحديثي فقد قدمه الشاعر عادل الدرة الى القراء والشاعر الى الشاعر اوثق نسبا واوثق مصاهرة ، وانما انا هنا قاريء لهذا الشعر الجميل ولست ناقدا له .. انا قاريء اقرا لنفسي واتذوق ما قرات لاعود اليها ..الى طفولتها وبراءتها ليخضر سفح ويزهر حقل . فالشعر وحده السبب الذي يعقد الاواصر بيني وبين الشعراء ، فالشعر يجمعنا ، والقصيدة هي مأوانا الاول والاخير ....
ولكن هذا الذي قلته لا يعفيني عن التذكير بموجبات الاستحسان للنص المقروء التي يلخصها استاذنا المرحوم احمد الشايب في دراسته عن الاسلوب الذي يذكر ان اول ما يلقانا من النص هو (العاطفة ) التي تملؤه ، وهذه العاطفة تسندها فكرة ، وهي تحتاج في تصويرها الى عناصر وفنون بيانية من التشبيه ، والاستعارة ، والكناية ،وذلك لعجز اللغة العادية عن تصوير القوة الانفعالية في نفس الشاعر ، وانما اللغة الفنية هي كفاء ما في نفسه من شعور ، وهذه الصور تؤلف عنصرا ثالثا هو الخيال ، وهو لازم في كثير من الاحيان للتعبير عن العاطفة ، واخيرا نجد العبارة اللفظية
التي قد تسمى الاسلوب ، وهي الوسيلة اللازمة لنقل او اظهار ما في نفس الاديب من تلك العناصر المعنوية ، فصار الادب ينحل الى هذه العناصر الرئيسية الاربعة ، وهذا التحليل نفسه يتوافر في النثر كما توافر في النظم على اختلاف في الدرجة تبعا لاختلاف طبيعة الفنون فيهما ، ومن هنا نستطيع ان نعرّف الادب بانه الكلام الذي يعبر عن العقل والعاطفة ..
افتظن ان الناس حين يسمعون هذا النص الادبي او غيره ، يعجبون به جميعا ؟ واذا كان فهل يعجبون بدرجة واحدة الا ، ولاسباب واحدة ثانيا ...
الشعراء والكتاب كثيرون ، واثارهم الادبية صور لشخصياتهم المتباينة . فلا بد ان تتمايز هذه الاثار تبعا لاختلاف الامزجة والاذواق . وكل منهم يعجبه من النصوص الادبية ما يلائم ذوقه ، وبقدر المشابهة بين المنشيء والقاريء يكون اطمئنان الثاني الى الاول وشغفه بادبه وحسن تقديره لانه صورة نفسه ومزاجه . وكلما تنافرت الاذواق كان الانصراف وسوء الحكم والتقدير ، ومن هنا نشا النقد الادبي في طوره الاول ، فاول ناقد وجد عقب اول منشيء . والنقد يقوم على الفهم وصحة التقدير ...
وخلف في هذه المجموعة ( شظايا الصدى المتكسر ) ، شاعر يحترق بجمر حرفه ، وقبل الحريق يتشظى وتشظيه بحد ذاته تشظي التكسر لا تشظي الالتئام ، فاية عاطفة موارة بالالم والحزن والتمزق ابلغ من هذه العاطفة ، والكتاب يقرا من عنوانه كما يقال فهو ثرياه المضيئة ، فاية اضاءة ستوك اشف تعبيرا وابلغ دلالة من هذه الاضاءة التي تحملها ثرياه وتبسطها امام قاريء على مساحة من الابيات تجاوزت الى ما يقرب من ( 1906) ابيات ؟ واغلبها من شعره في الوطن ، وهو في شعره في الوطن يمشي على الشوك والجمر ، لا يابه بسهم ينحره او وشاية تلتقمه ، فهو يقولها عفوية نابعة من نفس
قارة على ان هذا الذي حدث لبلده الرافداني في هذه الايام النحسة انما هو الشر كله والضعة كلها ، وهذا اوان المقارعة بالكلمات بعد ان تعطلت لغة السيوف واحتبس لسان الحراب ومن هنا جرد لسانه واورى عاطفته ليسطر قلمه خمس مجموعات شعرية بث خلالها باعذب الكلمات واصدقها مشاعره تجاه الوطن الذبيح بنصال ( التمقرط والتحرر ) وكلاهما غطاءان لشر مبيت ونوايا حقود ومذئبة بشرية ، ولهذا لم يكن شعره _ في هذه المجموعة بالذات _ صدى التشظي وحسب بل هو صدى المصابرة والمجالدة لهذا الذي يحدث ، ولهذا كان واضحا في قوله جريئا يقول كلماته بملء فمه غير هياب ولا وجل ،
فللوطن يهوى كل فدّاء ...
ورحلة العذاب في سبيل الوطن طويلة ومريرة خاضها كل ذي فكر ، ولن يكون الشاعر الا ضمن هذه الرحلة فهو حامل روحه على كفه ، والقابض على المر ، والشاعر الصادق قدره الاكتواء لانه من رحهم ولد ..
وكاني اجد صدى الشاعر (خلف) في بيتين لشاعر يعاصره فيقول ::
من اشعلوا النار في احلامنا سفها = قد امروا المات حرقا يجمع الحطبا
ان الرصاصة في ظهري ستخبركم = من المسيح الذي في قومه صلبا
ولخلف شعر في الغزل وغزلياته وان انبسطت على بساط الاوصاف الحسية ، الا ان وراء الاكمة ما وراءها ، فلا احسبه من هؤلاء الشعراء الذين تستغرقهم الانفعالات العابرة والمشاهد المفتعلة ، وانما هو يجري وراء (وخزات ) تخزه فتجره الى التغزل ةلاسميه (الابيض) لاميزه عن ذلك الهراء الذي ينساق اليه البعض بتمجن مخزٍ لا توازيه الا صور الابتذال من الجنس المفتوح الذي ينتشر على الهواء رفقة الغناء الهابط او الممارسة الاباحية الوقحة ...
غزله ابيض المداخل والمخارج هو كطبق فاكهة دمشقية تلذ العين والنفس فتضعها في مراح الانشراح والسرور ....
ان شعرية (خلف) فياضة تتمفضل برخاء تعبيري غير محدود ولهذا نجد قصيدته طويلة دائما لان نفسه الشعري يتدفق كشلالات عبيره التي اودعها مجموعة خاصة بها ، ولقد سبق لي وان اشرت الى هذا الامر في تقديم مجموعة سابقة للشاعر ، ولا مبرر لتكرار ما قيل فقط اقول ان الخيط الشعري في قصيدته يمتد بامتداد دفقته الشعرية وبانتظام يمنحها وحدتها العضوية دون افتعال او ترهل ...
واشير ايضا الى ان لغة الشاعر خلف تتطاوع معه الى حد الغواية التي بها يلوي عنان المفردات ليمنحها القدرة على التعبير عما يريده ، وكانه صدى لمقولة ان اللغة الشعرية هي خلق جديد للغة ، ولهذا فقد استطاع الشاعر ان يوظف كثيرا من المفردات في صياغات ملائمة لحالته الشعورية ولا سيما في باب القوافي ...
ولعل دراسة وافية لشعر الشاعر تضعنا مستقبلا امام جمالية فنه الشعري فجمالية الفن ودهشته، ومضمار استقطابه لاداته التشكيلية المجسدة ، وتوظيفها في خدمة المغزى الدلالي الكامن وراءه ، او الخلفية الذهنية التي ولدت هذا الشكل الابداعي او ذلك ..
وحسبنا ان نقرا الشاعر في مجموعته الشعرية ، وان نستمتع بهذا الشعر الرخي والعواطف الصادقة ، في وقت كثرت فيه (قعقة) الكلمات النحاسية الصدئة ثمار الشجر المراوغ وكما يقول المبدع حميد سعيد ::
هذا شجر مراوغ وخائف
شاحبة ثمار هذا الشجر الخائف
لم يلتفت الماء اليها
لن يعيد الزمن الضائع ما كان على اغصانها
ولن يكون
لا وردها الغامض من قبائل الورد
ولا اريجها من الاريج