أمل دنقل.. يا فرَحَ الشِعرِ المختلَسْ

نمر سعدي

[email protected]

في ذكرى مرورِ ثمانيةَ عشر عاماً على رحيلِ الشاعر المصريِّ الكبير والمبدع بامتياز أمل دنقل نقفُ دقيقة صمتٍ وحزنٍ لشاعرٍ ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ وكانَ واجهةً رئيسيَّةً يعلِّقُ عليها الشعراءُ العربُ عذاباتهم الثوريَّةَ وهمومَ أرواحهم العالية وحزنهم النبيلَ كما لم يعلِّقوها على شاعرٍ عظيمٍ كالمتنبي..

 نعيشُ في هذهِ اللحظةِ مأساة صاحبِ " مقتل القمر " و" العهد الآتي " ونستذكرُ شاعراً فذَّا ربمَّا لم يطاولهُ في زمانهِ سوى السيَّاب الكبير الذي قضى نحبهُ ونحبَ حبِّهِ قبلهُ بنحوِ تسعةَ عشرَ عاماً.

نحسُّ دفقَ الحبِّ هذا ونرى إلى اللمعانِ الورديِّ الذي تركهُ كبكاءِ الذهبِ خلفهُ أمل دنقل الشاعرُ المصريُّ الجارحُ والساخطُ والمترفِّعُ أبداً.. ذلكَ الطائرُ الغريبُ الملوَّنُ السحريُّ الخارجُ عن سربهِ... نرى إلى التصاقِ قلوبنا بلغتهِ وإلى الحميميَّةِ التي تركها في أذهاننا الغضَّةِ كما يتركُ المسافرُ معطفهُ على شمَّاعةِ البيتِ.. الحميميَّةِ التي جسَّدها صوتُ الشاعرِ الغائبِ في ثيابِ الحضورِ فندهشُ من صدى خلودهِ الذي لا يزالُ يحرِّكُ أطيافَ الذاكرة ويملأُ الوجدان.

قليلونَ همُ الشعراءُ العربُ الراحلونَ الذينَ يتركونَ بصماتهم بقوَّة وصلابةٍ على المشهدِ الشعريِّ ونستشعرُ غيابهم الاضطراريَّ بكلِّ هذا الشوقِ وهذهِ الخسارةِ التي تغزلُ أيامنا بمكر.

قصَّتي مع أمل بدأت في حدودِ عام ألفين في عهدِ الغضارةِ الشعريَّةِ قرأتهُ في ربيعٍ ممسوحٍ بأقواسِ قزحٍ وبشمسٍ نيسانيَّةٍ صديقة.. وكم أعجبتني إنسانيتهُ المتفرِّدةُ التي أثرَّت بي كثيراً حينذاك وشدَّتني صعلكتهُ الفريدةُ المنتميةُ إلى رأسِ الشعراءِ الصعاليكِ عروة بن الورد.. كم أعجبني أمل حينها بانسيابيَّتهِ ورقتِّهِ وصفاءِ عبارتهِ المنحوتةِ من صخرِ اللغةِ ومائها ولا أزالُ أتذكَّرُ ذلكَ المقطعَ من قصيدتهِ " فقرات من كتابِ الموتِ " الذي يقول فيه:

كلَّ صَباح..

أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ

مُغتسِلاً في مائِه الرقْراقْ

فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!

وعِندما..

أجلسُ للطّعام.. مُرغما:

أبصرُ في دوائِر الأطباقْ

جماجِماً..

جماجِماً..

مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!!

 

شغفتُ بأمل دنقل منذ نعومةِ أظفارِ قصائدي وقرأتهُ كلَّهُ ولكني لم أجد لهُ سيرةً حياتيَّةً لهُ تكشفُ لي خفايا هذا الكائن وأسرارهُ لأفهمَ شعريَّتهُ وخلفيَّتها وأغوصَ في النصِ الذي كنتُ أعتقدُ في البدايةِ أنَّ كاتبهُ أرستقراطيٌّ مصريٌّ مسكونٌ بالحزن والكبرياء.. خصوصاً عندما يستندُ في شعرهِ على التناصِ التاريخي بحكمةِ قدِّيس ويوغلُ في تعريةِ الواقعِ والمجتمع.. كلَّما توغَّلتُ في قراءتهِ تحرَّرتُ من فكرتي تلك.  

بعدَ ذلكَ قرأت سفرَ الجنوبي لزوجتهِ الوفيَّةِ والكاتبة الرائعة عبلة الرويني وتوَّفرتُ على أحداث ومجريات وخيوطِ حياتهِ الغامضةِ الممزَّقة اللاذعةِ كقصيدتهِ تماماً والمدقعةِ في الثورةِ والهمِّ والبؤسِ والحرمان والفاقة.

 كتبتُ لهُ قصيدة حبٍّ من بابِ التعاطفِ والمعانقةِ الروحيَّة أسميتها " البكاء بينَ يدَيْ أمل دنقل " تناصاً مع قصيدتهِ الخالدة " البكاءُ بينَ يدَيْ زرقاءِ اليمامة " وكانت تعبِّرُ عن حزني الصارخِ وتنبضُ بالكثيرِ من الوفاءِ لهُ يقولُ مطلعها :

عصفورة ً محروقة َ الجناحْ

تحلمُ في الصباحْ

أن تحملَ البحارَ في منقارها.....

أتيتني يا سيِّدي في الحلمْ

أتيتني البارحةَ.. الليلةَ.. لا أدري.. وكان النومْ 

جنيّة ً سوداءْ

تبكي بعينيَّ بدمع القمحْ

حتى يجيءَ الصبحْ.....

وتزهرُ الدموعُ في عينيكْ

ورحتُ في هذهِ الصرخةِ أبثُّه الحبَّ والإعجابَ ولكن بشيءٍ من المرارةِ والأسى لحالهِ وكأني أرثي فيهِ العبقريَّة الغضَّة التي ما برحت حتى غالتها أظفارُ المرضِ والموتِ والفجيعة..  

وعندها خجلتُ من عضّةِ زنبقٍ على كفيّكْ

وعندها بكَيتْ

لأنَّ أفعى الداءِ في جسمكَ لا تزالْ

راقدةً في مائه ِ السلسالِ

والطيرَ السدوميَّ الذي 

أفلتَ من صوتكَ قد حطَّ على الشبّاكْ

يُنذرنا.... يُنذرُ قومَ لوطَ بالهلاكْ

لأنَّ في السماءِ ألف َ عنكبوتٍ أسود َ الدماءْ

لأنَّ هيرودوسَ لا يزالُ مخموراً... وسالومي تغنّي......

فيعومُ القصرُ في شهوتها الحمراءْ

ورأسُ يوحنّا على صينيّة الغناءْ.

لا يمكنُ أن تقرأ أمل دنقلَ من غيرِ أن تسكنكَ لحظةَ التجلِّياتِ الحقيقيَّة لانكسارِ هذا الكائنِ العربي وشموخهِ في آن معاً .. فأمل رغمَ تسييسِ بعضِ أشعارهِ الضاربة في الجمالِ أوَّلاً وأخيراً ورغمَ الصرخةِ المدوِّيةِ التي أطلقها للرئيس السادات في ديوانهِ الجميل والرافض " أقوال جديدة عن حرب البسوس " وفي صدرِ قصيدتهِ الشهيرة والمطوَّلة العامرة التي حملت نفس عنوان الديوان والتي يفتتحها بعبارة  " لا تصالح " تلكَ العبارة الخالدة خلود الأمل في الخلاصِ والتي أصبحت مثلاً للرفضِ الشعري حتى أطلقوا على أمل لقبَ أميرِ شعراءِ الرفضِ .. رغم كلِّ هذا لم يكن أمل دنقل في قرارةِ نفسهِ أيدلوجيَّاً محنَّكاً "بالمعنى الحرفي" أو مسيَّساً عادياً مقتنصَ فرصٍ وشعاراتٍ سياسيَّةٍ مجانيَّةٍ.. كانَ شاعراً وشاعراً فقط قرأ ووعى الكثير من الفكر السياسي والأيدلوجي على المستويين العربي والعالمي  وقادهُ التمزَّق الروحي إلى نبضِ الشارعِ السياسيِّ وقلبِ الأزمةِ العربيَّةِ العاصفةِ لكي يقولَ ما قالَ ولو بشكلٍ فطريِّ سليقيِّ بحت وجماليِّ خالص.. وأغرتهُ الانهزاميَّة العربيَّة التي كانت سائدة عقبَ هزيمةِ حزيرانَ عامِ  1967 وعقبَ لجوءِ مصر إلى مفاوضاتِ السلامِ لاستردادِ سيناءَ بعدَ الحربِ التي لم تثمر ولم تغنِ شيئاً عام  1973بأن ينطقَ رمزيَّاً باسمٍ المثقَّفِ العربيِّ المهمَّش والمقموع والمنكَّلِ بهِ في غياهبِ سجونِ الأنظمةِ الديكتاتوريَّة.

كانَ أمل صاحبَ موهبةٍ فريدةٍ وخصبةٍ لا تشوبها شائبة وهو في نظري أكبر شاعر مصري بعد أحمد شوقي. وهو رغم َعثراتهِ العروضيَّة هنا وهناك شاعرٌ لهُ وزنهُ وقيمتهُ الاستثنائية وكم نظرتُ إليهِ بقداسةٍ على حلقات مسجَّلة على موقع اليوتيوب صُوِّرت قبلَ رحيلهِ بنحو عامٍ على أغلبِ الظنِّ. ولا أعتقدُ أنَّ شاعراً نالَ أهميَّةً مثلهُ في النصفِ الثاني من القرنِ المنصرمِ من روَّادِ قصيدةِ التفعيلةِ غيرَ الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيَّاب فمن الصعبِ أن لا تجد رابطاً شعريَّاً نفسيَّاً لغويَّاً إنسانيَّاً بينَ أمل دنقل الشاعرِ المصري الحزين وبينَ بدر شاكرِ السيَّاب رائدِ الحداثةِ العربيَّة فكلاهما من طينةٍ واحدةٍ ويصدرانِ عن المشكاةِ نفسها فهما ينتميانِ إلى الفقرِ والمعاناةِ الجسديَّةِ والروحيَّةِ ويكتبانِ بنفسِ طينٍ الحياةِ المجبولِ من أعماقِ النفسِ البشريَّةِ بخيباتها وأفراحها المختلسة.. ويجمعهما مصيرٌ واحدٌ وموتٌ بأوجِ الشبابِ والشعرِ والحبِّ على فراشِ المرضِ. هما شاعرانِ كبيرانِ حقَّاً لكلٍّ منهما مدرستهُ الشعريَّةُ التي أغنت الكثيرَ من التجاربِ الشعريَّةِ اللاحقة وحتى هذهِ اللحظةِ رغمَ كتابةِ مئات الشروح والتأويلات والأطروحات الجامعيَّةِ والكتبِ النقديَّةِ عنهما لا يزالانِ كالحصانينِ الطرواديَّينِ العنيدينِ عصيَّينِ على الريحِ وعلى نارِ النقدِ.