نفثات شآمية

د. عبد الله الطنطاوي

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

تمهيد

الأستاذ يحيى حاج يحيى شاعر مطبوع ، وقاص ماهر ، وروائي ، وكاتب مقالة ، يكتب للأطفال كما يكتب للكبار ، فهو متعدد المواهب ، ومواهبه كلها تمسح من هموم أمته ، فهي شغله الشاغل ، شغله إنسانها وقضاياه ، في الأسرة ، والحي ، والبلدة ، والمدرسة ، والجامعة ، والمدينة ، والوطن الصغير ، والوطن العربي ، وصولاً إلى الأمة الإسلامية ، وإلى الفرد المسلم حيث كان ، في جسر الشغور وحلب ، أو في عمان وبغداد ، أو في المدينة المنورة ومكة المكرمة ، أو في أفغانستان والشيشان .. وتهمه قضايا التحرر من الاستبداد والفساد ، كما تهمه قضايا التحرر من الاحتلال الأجنبي ، هذا هو مفتاح شخصية هذا الشاعر المتميز بروحه الجهادية ، وقد خاض العديد من ميادين الجهاد بالقلم وبالبندقية ، وإذا أردت أن تتحقق من صحة هذه الدعوى ، فاسأل عنها من يعلمها ويؤكدها ، من إخوانه ، ومن كتاباته المترامية الأطراف ، وهذا الديوان شاهد عدل من جملة الشهود على صحة هذا الزعم .. إنه مجاهد ، بكل ما تعنيه هذه الكلمة الجليلة من المعاني القريبة والبعيدة ..

وإن كنت في عجالة من أمرك ، فاقرأ في هذا الديوان : " في ليل المناجاة ـ نعمة الإسلام ـ مع الحق ـ بكاء لست أسمعه (قالها عندما أحرقوا بيته ، وشرّدوا أسرته الكريمة) ـ يوم التلاقي ـ شموخ (وقد دارت بها الألسنة في سورية الحبيبة وسواها) ـ أمان (في رثاء ابنته) ـ حنين (في نداء أمه التي غاب عنها) ـ لا عشت بعدك هانئاً (ردّ بها على زوجته التي شكت من كثرة غيابه عن أهله وأطفاله) ـ مهاجر (على خطاهم سار .. خطا المجاهدين الأبرار ، والشهداء الميامين الأطهار) ـ أتيت إليك (إلى المدينة المنورة التي ألقى فيها عصا الترحال في غربته القسرية (إلى عمان ، وبغداد ، وسواهما من بلاد الله الواسعة) ـ مشاهد اغتراب (رآها وهو يعبر من قطر إلى قطر) .

  هذه تنبئك الكثير عن صاحب هذا الديوان ، وإن أردت أن تستزيد ، لتعرف المزيد ، فاقرأ :

  " يا غارس الآس (في رثاء أستاذه الحسناوي الشاعر المجاهد ، فهو لا ينساه ، ومن ينسى أبا محمود الحبيب . ولا ينسى إخوانه الذين قضوا شهداء وأمواتاً في وطنه ، وفي أصقاع الأرض ، تحت كل نجم ، في بغداد ، وعمان ، ومكة والمدينة واستانبول ، بل في كثير من البلاد التي هاجروا إليها :

  قالت ( هزار ) أتبكي ؟ قلت إخواني          قد   خلفوني  لأشجان وأحزان

  قد طال ليل الأسى ، واغتال فرحتنا          بنو الجهالات من أحفاد شيطان

  واقرؤوا ـ إن شئتم ـ :

  أطلقوا البلبل (أبا راتب) ـ تهفو إليك الشام (في رثاء الداعية محمد عوض) ـ لوحة حزن (إلى الأحبة الراحلين) ـ أيها الثاوي بأرض الرافدين (في رثاء الأخ الدكتور أحمد مصطفى بيطار) ـ أقول غابت (في رثاء أمه وكثير ممن فقد) ـ عدنان تبكيك الرجال (في رثاء الأخ الداعية عدنان سعد الدين الذي قضى شهيد الغربة والدعوة في عمان في 1 / 8 / 2010 .

  هذه القصائد وأخواتها في هذا الديوان ، تعبير صادق عن العنوان (نفثات شآمية) ذي الدلالات على ما يعتمل في نفس الشاعر وعقله .. على آلامه ، وأحزانه ، على القهر والقلق على مصير الوطن أرضاً وشعباً وقيماً ، بعد أن ضرب فيها التخلف أطنابه ، حتى صارت في مؤخرة الشعوب العربية ، بعد ما كانت في الطليعة .

  وإذا كان العنوان ينبئ عن المضمونات ، فالإهداء طريق لاحب للولوج في أعماق الشاعر ، ومعرفة توجهاته ، وما يكنّه القلب ، وتضطرب به المشاعر ..

  أهدى ديوانه هذا :

  " إلى الأحبة الذين سلكوا طريق حمزة بن عبدالمطلب ، رضي الله عنه ، جهراً بالحق ، وأمراً بالمعروف ، ونهياً عن المنكر ، واستشهاداً في سبيل الله ، فكانوا وديعتنا عند الله الذي لا تضيع ودائعه ."

  هذا هو شاعرنا المجيد ، فهل عرفت من يكون ؟

  موضوعاته :

  من هموم أمته ، من هموم الإنسان المسلم كانت انطلاقته .. قام بعملية فرز ، وانحاز إلى الخير والخيرين ، وتصدّى للشرّ والأشرار في الداخل وفي الخارج ، فالشر هو الشر حيث كان ، والأشرار أشرار ، سواءٌ أكانوا من أبناء الشعب أم من الأغراب ، من الصهاينة والمتصهينين .. أو كانوا في الداخل حكاماً مستبدين ، يتعاملون بذلة وانحطاط مع (الخواجات) في الخارج ، ومع الأعوان من السفلة في الداخل ، أم كانوا من الشبان المائعين المتعلقين بكل غريب ، من دون أن يميزوا بين الخير والشر .. المهم (الموضة) الوافدة ، كالخنفسة والخنافس الذين نسوا مشكلات شعبهم ، ولم يخجلوا من أن يكونوا (خنافس) وهم طلاب في الجامعات تنتظرهم أمتهم ...

  نظم (الخنفوس) عام 1970 وهو طالب في الجامعة ، فتلقفها الطلاب والطالبات ، وسار بها من سار ، حتى غدت على ألسنة الكثيرين ، وهم لا يعرفون صاحبها :

  بكى   الخنفوس   لمّا  جندوه          وساقوه إلى ساح الجهاد

  فأعطِ الخنفسَ المخبول مشطاً          ومرآة ، فذاك من العتاد

  ويا بؤس أمةٍ فيها هؤلاء المنحرفون ، وقصيدته (اللص) من جملة الخنافس ، ونظمها عام 1969 .

  وتصدى ، في عدد من قصائده وقصصه الشعرية لموضة (المينو جيب) في قصيدة بهذا العنوان ، ولظاهرة النفاق والمنافقين في (منافق) وتصدى لمصّاصي دماء الفقراء من المرابين وسواهم ..

  وقدّم في قصيدته القصصية (صورة) قصة شاب انحرف عن الجادة ، بعد أن ترك إخوانه وصحب السفهاء الذين أغرقوه بالخمرة وما يتبعها من ألوان العهر والفجور ..

  قصة شعرية متكاملة الأركان ...

  وما يلفت النظر قوله :

  نحن لا نرجو عقابه          إنما نرجو مآبه

  يا سلام .. هذا هو التفكير الدعوي السليم ، فالداعية ليس جلاداً ، بل هو ناصح أمين ، ويرجو عودة الشاردين ، لا عقابهم . .

  بل إنه يرجو الخير للناس جميعاً ، مسلمين وغير مسلمين ، فها هو ذا يرد التحية للشاعر المسيحي جاك صبري شماس الذي تفيض قصائده حباً للعروبة ، وتمجيداً بالإسلام :

  يا  مرحباً بالشاعر النصراني          وبكل   حرّ   صادق   الوجدان

  ذكّرتنا بجميل صنعك (فارساً)          لله ـ يا خوريُّ ـ في الفرسان

  إنه يتذكر رئيس وزراء سورية المقدام : فارس الخوري ـ رحمه الله تعالى ـ الذي عاش ومات على ولائه للعروبة والإسلام .

  وفي (صرخة في المأساة) يرى أن أعداء هذه الأمة كثر ، ونحن منها ، نحن أعداء أنفسنا بتفرقنا وتمزقنا ، حتى كدنا نذهب أدراج الرياح :

  أنرجو عندهم عدلاً          وقد جاروا وقد ظلموا

  فآه    من    تفرقنا          حديثاً   ليس   ينكتمُ

  وآهٍ   من   تناحرنا          به    الآمال   تنهدم

  إن موضوعات هذا الديوان البديع ، تتوزع على القضايا الوطنية ، والعربية ، والإسلامية ، والاجتماعية ، والإنسانية ، وخاصة ما يلقاه هو وإخوانه في الغربة .

  ومن قصائده الوطنية أحيلك إلى (القضية والملف) و(مأسارية) وهي منحوتة من : مأساة وسخرية ، وتحكي قصة مناضل من العالم الثالث عشر ، يعيش في قطر مناضل بعيد عن كوكب الأرض .

  ومنها : (دعاء من أجل الوطن والإنسان) و(أنا وجاري وسهر الليالي) و(إليه في غربته) و(لا للإرهاب) و(قالوا اعتذر)و(على أسوار الوطن السجين) أهداها إلى الحقوقي الكبير الأستاذ هيثم المالح في سجون الظالمين .

  ومنها : (هذي الدماء من أطيب العطر) حكى فيها قصة تلك المرأة الدمشقية ابنة السبعين عاماً ، التي قتلها الآثمون في تشرين الثاني سنة 1981 في أحد شوارع دمشق الأمويين ، لأنها أصرّت على أن تموت دفاعاً على حجابها ... وسواها كثير ..

  وتناول في العديد من قصائد هذا الديوان ، القضية الفلسطينية ، وغزة المحاصرة المقاومة ، وأبطال الشيشان ، والأفغان ، والأتراك ، والبوسنة والهرسك وسيراييفو ...

  وما أروع هذا الكلام :

  حيفا كمكة ، والخليل كطيبة

  والكل كالبلد الحرام

  معك الكتاب وسنة الهادي الأمين

  فانهض بهمة صحبه

  وحذار من سوق المقايضة الذليلة

  متفائل

  وشاعرنا متفائل بأن المستقبل لهذا الدين ، مهما اشتدّ الظلام :

  إسلامنا     للنصر   قائدنا          وله  ، وليس لغيره ، الغَلب

  فسيعلم الإجرام إن عصفت         هممُ الرجال ، ودمدم الغضب

  في   أي   هاوية    نهايته          وبأي    منقلب     سينقلب

  (الأسلوب القرآني صاحب أثير للشاعر لا يكاد يفارقه : (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون)  ولهذا نراه يستنهض بني دينه :

  بني ديني ألا هبّوا          أماتَ القلبَ نومُكمو

  ففيكم ألف معتصم          إذا  شُدّت  حبالكمو

  قيم فنية وشعورية

  نلاحظ الكثير من القيم الفنية في شعر الأستاذ يحيى ، في هذا الديوان ، لعل من أبرزها :

  عينه على القرآن الكريم وأساليبه البلاغية ، وكلماته التي لا تغني عنها كلمات .

  ـ توظيف التاريخ ، فهو يستحضر (في قلعة جنكي) حادثة (ماء الرجيع) فالغدر بأسرى المسلمين في قلعة جنكي ، كالغدر الذي تعرض له المسلمون عند ماء الرجيع .. غدر المشركين الجدد ، كغدر المشركين القدامى ..

  ـ وقد نرى بعض المعاني والصور مأخوذة من بعض الشعراء المشهورين ، وهذا عائد إلى الخزين الكبير الذي تحتويه ذاكرته الحية ، وثقافته التراثية .. ولكن .. تبقى له خصوصيته فيما استفاد وصاغ .

  ـ له احتفال بالصور التي تحمل المعاني على أجنحة لطيفة من خياله الذي لا يجمح به بعيداً عن الواقع المعيش .

  ـ بُعده عن الغموض الذي أزرى بذويه من الحداثيين .

  ـ له اهتمام بالقصّة الشعرية ، بأركانها وعناصرها .

  ـ ظاهرة الحزن واضحة في الديوان ، كوضوحها على وجوه المغتربين منذ ثلاثة عقود .

  وأنت تقرأ هذه النفثات ، لابد أن تتجرع الغصص .. فحال الشعب السوري ، وحال الشعوب العربية ، وحال الأمة الإسلامية ، لا تسر صديقاً ، ولا تغيظ عدواً ، وهذا ما يجعل الأحزان تلمّ بالشاعر ، فيضطرب ، ويفضي بما في نفسه وقلبه من مشاعر الحزن ، والقلق ، حتى تصير حالة تشمل الديوان كله ، ليكون ـ بحق ـ نفثات شاعر شامي رأى ما رأى ، وعانى ما عانى ، في وطنه وفي مغتربه ، ففاضت آلامه ، وجأر بالشكوى من هذه الشعوب البئيسة التعيسة ، ومن الذين ساطوها بسياط الذل والقهر ، ودفعوها دفعاً إلى أودية التخلف والهلاك ..

  ـ ولكن الشاعر ، برغم كل هذا الظلم والظلام ، يبقى متفائلاً بانتصار هذا الدين ، وانتصار معتنقيه عقيدة وسلوكاً ، ولو بعد حين ، فالأمل في جيل الصحوة كبير ، ولابد أن يبقى كبيراً ، من أجل أن يعلو هذا الدين ، ويستعلي أحباؤه على هذا الحطام الذي يختصم الناس حوله .

  للشاعر بصيرة نافذة ، وعيون بصيرة ، وآذان سميعة ، وعقل حصيف ، يعي ما يدور حوله في وطنه الأصيل ، وفي الوطن العربي ، وفي العالم الإسلامي ، إنه يقرأ الحوادث بوعي ، ويدلي بدلوه لاستنقاذ كل (يوسف) ألقاه الظالمون في (الجبّ) بوعي وتآمر ، أو بجبن ومصالح .. إنه يجوب بلبه الآفاق ، ويستقري التاريخ ، فقد يعيد التاريخ نفسه مرة أو مرات ، ولا ينبغي للمثقف الملتزم إلا أن يكون ذا رأي ثاقب ، وإحساس شفيف ، وما يكون هذان إلا بتلك ..

  إنه برغم اغترابه القسري ينهض بواجبه ، جهد المقل ، وكلنا مقل في غربتنا القاسية التي سيحاسب التاريخ مجترحيها ، وما عند الله ـ الذي نسوه وجحدوا يوم الدين ـ أشدّ وأنكى ، لو كانوا يعقلون ، أو كانوا مؤمنين .

  وختاماً :

  أدعو الدارسين إلى الكتابة عن غربة الشاعر وإخوانه ، وعن المأساة والكوارث التي نزلت بوطنه ، فألجأته وكثيراً من إخوانه إلى الهجرة ، ففيها أنفاس وطنية ، وإنسانية نادرة .. ليس في هذا الديوان الذي نظم قصائده ما بين 1969 و 2010 فحسب ، بل في سائر ما كتب الشاعر .

  صدر هذا الديوان عن دار الضياء في عمان ـ الأردن ، في 216 صفحة من القطع الكبير.

  وصلى الله على سيدنا الرسول القائد محمد ، وعلى آله الطاهرين ، وصحبه الغرّ الميامين ، وزوجاته الطاهرات العفيفات أمهات المؤمنين ، وعلى الدعاة العاملين إلى يوم الدين .