إمكانات المقارنة والموازنة في فن السرد

للدكتور الناقد عادل الفريجات

مرايا الرواية أنموذج

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

يبرز النفس النقدي لدى الدكتور الناقد عادل الفريجات جلياَ وواضحاً عند القاريء الكريم عندما يتناول مواضيعه البارزة في مجموعة كتبه التي برزت على ساحة الأدب العربي ، من حيث دلالات البيان الأدبي والعلمي الذي تتمظهر فيه !

حيث تبرز لمحاته التصويرية التي تتناغم مع الحس المرهف الذي يسيَر قلمه المبدع بإيقاع موسيقي يجعل القاريء يسير مع تياراتها الهادفة نحو سيلٌ من الأشكالات الصورية المتناغمة مع حركة النقد الذي يبرز جلياً في واقعنا العربي .

إن الناقد الفريجات يتعامل مع النص الذي يمور في جوانحه والذي يقرءه بإحساس من الفهم والإستيعاب محاولاً الدخول من خلاله إلى التراث الأدبي العربي أولاً ومن ثمَ بيان خصوصية الموضوع الذي يرومه الكاتب أوالشاعر منه ، حيث تبدأ ريشة الناقد المبدع بالتلوين المبكر لهذا النسيج وغزل خيوطه الحريرية التي لا تخلو من الجمال ، لقد حاول الناقد ومن خلال قراءتي لكتبه المهداة لي .. ابتكار صوت خاص به ومسار ينتقل من خلاله لدراساته التصويرية الهادفة التي تظهر على ما أعتقد للقارئ الكريم عند مطالعاته لها حيث يبرز واضحاً من خلال مقدمته التي تناولها في كتابه ( مرايا الرواية ) والتي يقول فيها (( .. تبين أن ثمة طرقاً مختلفة وسبلاً متعددة للنقد الروائي )

حيث يرنوالفريجات من خلال أعماله النقدية هذه إلى إيجاد عمل جاد ونافع يفيد القراء والدارسين ويغني المكتبة العربية بهذه الدرر والجواهر الثمينة التي تظهر في دراساته النقدية هذه ، ويسترسل الفريجات في حديثه من خلال دراساته لمجمل روايات على الصعيد الأدبي سوى أن كانت عالمية أو عربية أو حتىَ على المستوى المحلي في بلده (سوريا) !

حيث يقول (( .. وقد حاولت قدر المستطاع أن أتلمس الرؤية والفن في كل عمل من الأعمال التي وقفت عندها ، واضعاً نصب عيني أن اجعل القارئ بعد فراغه من مطالعة ما كتبت ينتقل من الغياب عن الأثر إلى اللقاء به وفهمه ))

إذن هدفه واضحاً وكأنه يريد أن ينقل ذهن القارئ والمتلمس من الغموض إلى الوضوح والفهم الجيَد ومن اللبس إلى الانكشاف ، وهذا إن دلَ على شيء إنما يدل على نبل روح الناقد الفريجات وإبداعه الخالد الذي يقدمه لنا كقراء ودارسين ، ويسير بالتيَار الثقافي في الوطن العربي إلى الأمام ويصحح المسار الذي نسير عليه !

إن ما يقدمه الناقد على سبيل المثال لا الحصر من خلال كتبه التي أغنى المكتبة العربية بها :ما يقول في مقدمة كتابه ( مرايا الرواية) أيضاً (( أستقر في المفاهيم النقدية العزوف والفهم  ، وهما لونان من ألوان الإيمان ، إذ ْ يستدعيان تسليماً وصبراً  أولاً ثمَ إصغاءً وتركيزاً ثانياً ، ثمَ بعد ذلك بصيرة وخبرة ولغة نقدية سائغة ))

وهنا يريد أن يؤكد بهذه العناية المركزة على ما أستلهمه وما اهتدى إليه في تجلياته هذه إلى معالجاته النقدية التي يثبتها في كتابه هذا ، حيث تبرز القوة والضعف لما بحثه في هذه الروايات التي تسطرت فيه ، فهو إذن في دراسته أراد أن يوضح للدارسين بنية الرواية عامة وخاصة وكيفية التفصيلات المتصلة بالنقد الروائي ومعالجته مما يلتقي بالقواسم المشتركة أو الصفات الفارقة ما بين الروايات المدروسة والتي يعني بها الروايات الأربع عشرة التي تناولها بالبحث والتنقيب وكل رواية على حده ، مميزاً الإشكاليات التي تحتويها وتميزها عن الأخرى ، موضحاً أيضاً على أن فن الرواية هو فن حديث نسبياً لم يمض على استوائه أكثر من ثلاثة قرون في العالم الغربي وقرن ونصف في عالمنا العربي ، بيد أنه جنس أدبي مرن منداح الأبعاد قادر على الهضم والتمثل والإفادة من الفنون الأخرى !

وقد أشار إلى ما ذهب إليه الأديب الكبير ( نجيب محفوظ) بأنه الفن الذي يوفق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال ، وما بين غنى الحقيقة وجموح الخيال !

وهكذا نجد الناقد الفريجات يذهب بعيداً بتشريح جسد الرواية وتفصيلاتها المرنة بحبكة مسترسلة وسائغة يوضحها للقارئ على حسب ما يمليه عليه الفهم والتمسك بالوضوح الذي يرومه ويتمناه له ، حيث فصَل جسد الرواية مميزاً لها عن باقي الفنون الأدبية الأخرى كالقصة مثلاً ، شارحاً البنية السردية لكل منها وفق منطق الفهم المعقول حيث يقول (( وإذا ساغ لنا تشبيه القصة بكائن عضوي ، فأن الحبكة هي الهيكل العظمي لهذا الكائن الذي ترتبط به كل الأطراف بكل ما يكونها من عضلات وأعصاب ، وما يجري في عروقها من دم ، وما يحمي باطنها من لحم وجلد ))

وهذا المسار الذي يحدده الفريجات هنا هو التأكيد الذي يرومه لنا كقراء ودارسين وما تمليه علينا هذه الدراسة المثالية التي أرادها أن تكون واضحة ومفهومة لدى كل القراء على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية ، وهذا أن دلَ على شيء إنما يدل على صيرورة الإبداع والروح المثالية والمنطق الذي يتمثل به الناقد المبدع الفريجات !

حيث يريد من الكاتب أن يتميَز بالشروط التي يتوخاها عند كتابة أحداث الرواية وتفصيلاتها مما تسير بالسرد نحو المرامي المتوخاة من صيرورتها ، أي أنه يفرض على الكاتب أن يجنح نحو القواعد الأساسية والصحيحة ويتميَز بعمليتين بارزتين كما يسميها وهما القطع والاختيار ، أو الحذف  والإثبات فهو يرى على أن الأحداث التي تتسطر في متون الرواية هي التي تشكل الحبكة فيها لأن الواقع الموضوعي للأحداث التي تميز تجليَات الكاتب وهو يسطر لنا أحداثه التي تنقاد بخيوط خفية لتنتهي بنا في مسار غير عادي لتشكيلات وأحداث هذه الرواية أو تلك ، وهذا ما ينطبق تماماً مع رأي الكاتب ( إدغار آلان بو) حيث يؤكد على أن الكاتب الجيَد هو الذي يضع نصب عينه السطر الأخير عندما يكتب السطر الأول ، وهذا حتماً يحقق نجاح الرواية أو إخفاقها ، وقد سار على هذا النهج أو الرأي كتَاب كثيرون في عالمنا العربي كما ذكرهم الفريجات في كتابه هذا وهم كثر منهم ( عبدالكريم ناصيف ) في رواية المخطوفين ، ( حيدر حيدر) في رواية شموس الغجر .

وهكذا راح الدكتور الفريجات يضع كل رواية على حده على دكة التشريح ماسكاً مشرطه المبدع بالتنقيب في هذه الأجساد المتماثلة أمامه بهيبتها وكبريائها ليستخرج لنا الأعضاء النافعة فيها مكرساً وقته الثمين باستنباط دقيق وحواس ثاقية مرنة لتبيان معنوية هذه الأعضاء والفائدة المتوخاة منها عند دراستنا المثالية لها ، وراح يؤدلج صوره بإطار مبدع وجميل واضعاً مقدمته عن هذه الروايات التي كتبت عن الواقع السياسي والاجتماعي والتأريخي التي تسطرت في محراب الفن الروائي والذي هو عنوان حديث الناقد هنا ، هذه القضايا الكبرى التي كتب عنها الروائيون الغرب والعرب هي مسائل هامة يجب البحث فيها ويجب أن تخلد ْ ، وذكر الروائي الروسي ( ليف تولستوي) عن روايته الحرب والسلام ، وكيف كرس وقته لدراسة آلاف الوثائق والملفات عن هزيمة نابليون ، وعن الروائي الياباني ( ماسيوجي أبيوس ) عن روايته المطر الأسود ، مؤرخاً فيها فنياً القنبلة الذرية على هوريشيما ، وعن كتَاَب وروائيون عرب كأمثال الروائي الكبير ( نجيب محفوظ) عن روايته كفاح طيبة ، حتىَ جاء الحديث عن الكاتب ( عبدا لكريم ناصيف ) وروايته المخطوفون ، حيث كتب عن هذا الأديب جملة لا بأس بها عن ترجماته لروايات عديدة من لغات أخرى ، وكذلك رواياته العربية كالحلقة المفرغة ، المد والجزر ، العشق والثورة ، البحث عن نجم القطب ، حتىَ واصل حديثه عن صلب روايته التي تحدث عنها في كتابه ( مرايا الرواية) وهي المخطوفون ،وهذه الرواية كما يؤكدها الفريجات بأنها رواية تأريخية توثيقية تتحدث عن القضية الفلسطينية ، حيث تحمل رسالة إلى القارئ العربي وبأنها رواية عربية أصيلة حالفها النجاح !!

والمخطوفون تتحدث عن سفينة أو عمارة بل بلاد بأسرها أبحرت من شاطئها تجاه شاطئ آخر كما يقول كاتبها ، ويظل الكاتب يسطر أحداثها بحبكة مرنة ويصورها لنا حاملاً همه مع هذا الشعب العربي الذي تفرقت به السبل وأصبح بلا مأوى ، ويظل الناقد المبدع الدكتور عادل يعدد أحداث الرواية على لسان كاتبها ويربطها فنيَاً مع روايات لكتاب آخرين مثل رواية السفينة (لجبرا إبراهيم جبرا) !

وهكذا مع الكتاَب الآخرين الذين ذكرهم في كتابه ( كحنا مينا ) في روايته الولاعة ، و (حيدر حيدر) في روايته شموس الغجر  ، و(سليمان كامل) في روايته شفق على الزمن العربي و ( وهيب سراي الدين) في روايته مساحة ما من العقل ، و (عبدا لرحمن منيف ) في روايتيه شرق المتوسط والآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى  ، و ( أحلام مستغانمي ) في روايتيها فوضى الحواس وذاكرة الجسد و الروائي المغربي ( محمد شكري) في روايتيه الخبز الحافي والشطار !

ويظل يثبت لنا المفارقات التي يجدها في هذه الروايات ويحدد مسار كتَابها نحو الأفضل والأجمل كما يحدد في روايات القسم الثالث لروائيين أجانب كما في (غابريل غاريسيا ماركيز) في قصة موت معلن ، و ( جون شتاينبك ) في ألؤلؤة ، و (وليم غولدنغ ) في رجال من ورق ، ودراسة هذه الروايات على بعضها ولدت لدى الفريجات فكرة واضحة لتباين الروايات المدروسة في هذا الباب ، فكانت كما يؤكدها روايات ذات بنية رمزية دالة على فكرة واحدة أو أفكار عديدة كالروايات ، شموس الغجر ، فوضى الحواس ، واللؤلؤة ، وروايات ذاهبة إلى مرماها ، كطلقة مسدس ، المخطوفون ، شفق على الزمن العربي، الخبز الحافي والآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ؟

ولن ينحصر الناقد الفريجات بين قطبي المفارقات والمقارنة فحسب بل يؤطر دراسته عن السرد الروائي في خصوصياته وفنياته حتى ليكوَن فناً ديوان العرب المحدثين كما في عبارة ( علي الراعي ) وملحمة العصر الحديث كما في وصف ( لوكاتش ) حيث أراد من هذه النظرة في السرد الروائي ونقده إضمامة للنقد التطبيقي وسماته الواسمة وإغناء المكتبة العربية بوافر هذه الدراسات النقدية التي يقدمها للأجيال العربية ، ولا أريد أن أسلب القارئ الكريم  فرصة التمتع بهذا الكتاب ( مرايا الرواية ) ولكني أوجه أنظار القراء إلى اقتنائه والسفر بين خلجاته والإطلاع على كوامن النقد الروائي الذي يؤطره الدكتور الناقد عادل الفريجات بكتابه هذا ...... ومن الله التوفيق  !!