كالبحر يقذف للقريب جواهرا
د. علي الصكر
بخطى وئيدة يلج شاعر اليمن د. عبد العزيز المقالح سبعينيات العمر متكئا على تجربة شعرية ثرة تدفعه للتأمل و محاولة استكناه ( مغزى ) الشعر الذي يقرأه ويكتبه وينقده و يتخذه صنعة منذ أكثر من نصف قرن . في كتابه الأخير ( الكتابة البيضاء – كتاب مجلة الرافد - يوليو 2010) يحاور المقالح نفسه و- القاريء – فيما يشبه تأملات الصوفيين الروحية وسعيهم للتوحد وبحثهم الدءوب عن الحقيقة المطلقة . يكتشف المقالح – في مستهل حواره – أنه يعجز لغاية اللحظة ان يقدم تعريفا دقيقا للشعر الذي يعيش معه ويتنفسه كالهواء . لقد مضى زمن بعيد منذ أن أطاحت الحداثة – وما بعدها – بقناعاتنا التقليدية المدرسية القائلة أن الشعر كلام موزون مقفى ... الشعر الذي وصل به - و معه – المقالح إلى تخوم الخبرة و التجربة الحداثية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختزل اختزال جائرا في نصف سطر . هو إذن كالبحر الذي استعار المتنبي منه صفة الكرم ليلصقها بممدوحه أما المقالح فيستعير من البحر أخطر صفاته - فهو مستودع الأسرار غامض عميق غادر هادئ غاضب ممتع شرس ودود شاسع في نفس الوقت - لينسبها الى الشعر:
كالبحر يقذف للقريب جواهرا جودا ويبعث للبعيد سحائبا
يمضي الشاعر المقالح في ( ملاحظاته ) كما يسميها , غير متحيز سوى لذات الشاعر وحسه المرهف متجنبا الاحتكام إلى المناهج النقدية السائدة ما أمكنه لكن ( التعريف بالشيء يقتضي الإحاطة بكل خصوصياته وعناصره) لذا سيكتشف المقالح – ويسوق الأدلة على – أن العصر ليس عصر الرواية كما زعم الراحل الكبير نجيب محفوظ قبل عدة عقود والناقد الدكتور جابر عصفور في ( زمن الرواية ) لاحقا بل أن العصر – وكل عصر – هو عصر الشعر ( هذا الجزء الخاص والحميم من النشاط الروحي للإنسان .... والفن الجميل الذي تلتقي عنده كل الفنون الجميلة ) الذي لم يذو ولم ينسحب إلى زوايا ذاتيته ومحليته إزاء سطوة السرد و ( عالميته ) التي لا تحدها حدود اللغة والثقافة فالشعر( روح العالم المتوقدة بالإبداع ) . يتضح للمقالح لاحقا أن الشعر ليس ديوان العرب وحدهم كما كنا نظن . فقد كتب هوميروس إلياذته قبل المهلهل وقبل أن يقف امرؤ القيس باكيا بسقط اللوى بين الدخول فحومل بعدة قرون وأن أمة – كاليابان مثلا – تحتفي بالشعر وتجل الشعراء اجلالا كبيرا رغم انصرافها الواضح للتكنولوجيا و تفوقها الهائل المشهود في صنع السيارات والريبوتات . الشعر – إذن – ديوان الأغريق وديوان اليابانيين والهنود والطليان والانكليز بل انه ديوان للبشرية كلها وسجل إلهامها وأحاسيسها و إبداعها . وأن خلو تراثنا العربي - كلية - من ترجمة الشعر العالمي كان بسبب الركون الى نظرية الجاحظ الشهيرة التي ترى ان الشعر لا يجوز عليه النقل وان الشعر اذا ترجم فقد ( بطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع العجب ) لكن العربية فيها من الغنى والاتساع والحيوية ما يكفي لنقل الشعر العالمي بدقة ورصانة وإبداع شرط أن يكون المترجم نفسه شاعرا أو ممن يحسنون تذوق الشعر . .
ويبقى الشعر – عند المقالح – ملاذا أخيرا لروح المبدع العربي يلجا اليه عند فرحه وسقمه لأنه ( الخلاصة الجميلة والقاسية للغة الروح في مستوياتها السافرة والغامضة ) أما الشاعر ( ذلك المجنون النيل ) فمن حقه أن ينصف نفسه ويقدر ذاته وسط إهمال وإغفال الآخرين – نقادا كانوا أم حكاما ,لا فرق – فقد ( تزول الدول وتنتهي الإمبراطوريات لكن الإبداع هو الجوهر الإنساني الباقي ) فقد زالت دولة بني حمدان – كغيرها - بضجها وضجيجها وأمرائها وطواها النسيان وبقي الشاعر ( خير من تسعى به قدم ) يعرفه الوجدان وتحفظه الذاكرة العربية عن ظهر قلب وما زالت الخيل والليل والبيداء تعرفه تماما كما يعرفه السيف والرمح والقرطاس والقلم .