حتى يعلم الجميع
مدائح أنور الجندي.. لطه حسين!
صلاح حسن رشيد /مصر
يحار القاريء لافتراءات "أنور الجندي" ومغالطاته الكثيرة في حق (طه حسين)! بل تصيبه الدهشة؛ إذ يفاجأ بالتناقض الحاد بين المدح والقدح، بين الإشادة والإساءة .. فلا يدري هل هناك شخصان يحملان اسم أنور الجندي؟! وهل كان -هذا الكاتب- لا يعرف أنه يكتب الشيء ونقيضه في ذات الوقت؟ ولماذا هذا الهجوم التتري على طه حسين بعد وفاته بالذات؟ وما هي مبرراته في ذلك؟ وما هي الأدلة والبراهين التي اعتمدها للجزم بأن طه حسين كان ظهيراً للغرب، وكارهاً للإسلام وحضارته، وعميلاً للصهيونية العالمية؟!
نعم؛ هناك أخطاء كثيرة لطه حسين .. اعترف بها النقاد العدول؛ بل تبرّأ منها طه حسين نفسه؛ إذ عدل عنها؛ خاصةً عندما كتب كتابه النفيس(مرآة الإسلام) فأعطى للبلاغة القرآنية مكانتها الرفيعة المقدسة، وتحدَّث عن اللغة العربية حديث الهائم الوَجِل، وجال بفكره وقلبه في أدواح الإيمان؛ كأنه من أقطاب الصوفية! لكنَّ هذا لا يعني أن نرجم الرجل، وأن ندخل إلى سريرة نفسه، وأن نُصبح محكمة تفتيش على النوايا والخبايا؛ مثلما وقع في ذلك قلم أنور الجندي!
وفي هذا المقال؛ أكشف عن صفحات مجهولة؛ لا يعلمها تلامذة أنور الجندي، ولا أنصاره من تيار المتأسلمين(الإخوان والسلفيين)الموتورين؛ الذين لا يقرءون؛ ففيها نرى، ونقرأ .. مدائح أنور الجندي لأستاذه طه حسين، وصداقته له، وإشادته بنثره، ومبايعته له أميراً للشعر الحر!
أسلوب طه حسين هو الرجل!
قضى أنور الجندي حقبة طويلة من حياته وهو من أنصار طه حسين ومريديه، وكتب عنه صفحات مشرقة في كثير من كتبه؛ بل كان دائم الثناء على أستاذه/ طه حسين!
ففي موضع الثناء والإعجاب؛ يقول في كتابه (صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر): "أما طه حسين؛ فإن أسلوبه هو الرجل بحق، فيه كل ما يوحي بأنه لطه حسين، ولو لم يوقع باسمه الصريح، ذلك الطابع الأزهري، في الأداء، وذلك الطابع الفرنسي في المضمون، يذكر بالالتقاء والازدواج الواضح بين ثقافتيه. أما هذا التكرار المتصل؛ فهو يوحي بأن صاحبه يملي، ولا يكتب، وهناك من العبارات الكثيرة، ما توحي بشخصية الكاتب، مثال ذلك قوله: هات يدك أنا أضعها على هذا النص أو ذاك، وتلك العبارات الحائرة: لعلي، وأظن، وليتني أدري، وربما، و.. ثم هذه الأناقة والموسيقى، والكلمات التي توحي بأن السمع والأذن تعطي الكاتب أكثر مما يعطي البصر والنظر.
وأسلوب طه حسين طافحٌ بالسخرية، والتهكم، وافر الإحاطة بالتفصيلات، مطبوع على الدوران حول الأشياء، ولمسها كما تلمس اليد الإناء وتدور حوله، وتلك أبرز علامات صدق الظاهرة".
رائـد الشعر الحـر!
ليس هذا فحسب؛ بل إن الجندي بايع طه حسين رائداً للشعر الحر!! هذا اللون الشعري الذي انقلب عليه الجندي بعد ذلك وهاجمه، واعتبره مؤامرة للقضاء على عمود الشعر!
يقول الجندي في بحث له بعنوان "صفحات مجهولة من حياة طه حسين"، مثنياً عليه في المرحلة الأولى عندما كانت العلاقة بينهما متينةً، ولم تشبها شبهة المصلحة والأمور الشخصية، يقول عنه: "وقد سجل طه حسين ريادته في مجال الشعر الحر، فقد نشرت له جريدة (مصر الفتاة) قصيدة في ديسمبر عام 1909م، تحت عنوان "آه لو عدل" استهلها بقوله:(شادنٌ عطفْ/ عطفه الحبيبْ/ بعد ما صدفْ/ صدفة الملول/ كم سبى العقول/ قوله الخلوب/ يملك القلوب/ ثم لا ينيل"!
ويمضي الجندي في الإشادة بأسلوب طه حسين الأدبي، فيقول: "وقد نشرت لطه حسين الجريدة، ومصر الفتاة، كلمات وخطرات توصف بأنها من النثر الفني، من ذلك مقالته التالية: "يقضي ساعات الليل، ومعظم النهار بين قلب يجف، ودمع يكفن، وجسم يرتعش، شهيق وحريق، وزفير وسعير، ووجيب ولهيب، عين ساهرة، وهموم ثائرة، ونفس حائرة، بين ماض مؤلم، ومستقبل مظلم". ونلاحظ هنا كيف أن الجندي معجب بأسلوب طه حسين وكتاباته الفنية، وتجديداته في مجال الشعر والأدب!
ويستمر -الجندي- في تقريظه لطه حسين؛ فيقول: "وقد برز طه حسين في ميدان النقد الأدبي في هذه الفترة المبكرة، ووجدت طبيعته المصاولة نفسها في مجال المساجلات، والمعارك، ويبدو هذا في ثلاث معارك ومساجلات، هي أبرز ما عرف في هذه المرحلة".
ويعترف -الجندي- بالعلاقة المتينة التي جمعته بطه حسين- قائلاً: "وقد حدثني الدكتور طه حسين في مراجعة واسعة، لتطور فكره عام 1952م، فقال: إن أهم أساتذته في هذه الفترة، ممن يرى لهم عليه فضلاً لا يقدر: لطفي السيد، وسيد المرصفي، وأحمد زكي باشا. وإن هذه الصورة –كما يقول الجندي- التي حاولت أن أرسمها لهذه المرحلة من حياة طه حسين، تعطي جذور فكره كله في تحوله، وتطوره، تعطي صورة الشاب القلق المتطلع إلى المجد والشهرة والبروز، الذي عرف طريقه إلى الصحافة والأدب، وعوالم الفكر والجامعة والبحث، جريئاً يكوِّن آراءه، في أمور الحياة والمجتمع. ويتأرجح على حد تصويره، بين المدرستين القائمتين، في مصر إذ ذاك: مدرسة التعقيل والبرهان، ومدرسة العواطف والحماسة .. ولقد تحول طه حسين في آرائه، واختلف مع كثير من أساتذته، بعد أن اعتنق المذهب الحديث في الفكر"!
مزاعم الجندي وافتراءاته
والشيء الذي يصادم الحقيقة؛ أن مؤلفات الجندي حملت عناوين قاسية، مثل: (طه حسين في الميزان)، و(محاكمة فكر طه حسين)، و(أكذوبتان في التاريخ الحديث) و(رجال اختلف الرأي فيهم) فقد تعمد–الجندي- الطعن في عقيدة طه حسين، وتشويه صورته وتحقيره، واتهامه بالعمالة والخيانة الوطنية! كقوله مثلاً: لقد ألقى طه حسين عمامته في البحر عند أول سفره إلى أوربا! وأنه أهدى قفطانه لراقصة فرنسية! وأنه تعمد في كاتدرائية باريس وسط حشود من الرهبان والمستشرقين! وأنه زار إسرائيل سراً، وألقى محاضرة في جامعة تل أبيب! إلى غير ذلك من الاتهامات التي لا تستند إلى دليل واحد!
وقد رد علي هذه الاتهامات الظالمة، الباطلة كثير من النقاد؛ يأتي على رأسهم سامح كريم؛ فأظهر تفاهة هذه الأكاذيب، وعدم مصداقيتها أمام منهج الجرح والتعديل، والنقد الأصيل!
والسؤال الذي يدحض مزاعم الجندي، وافتراءاته بحق طه حسين؛ هو: هل زار أنور الجندي باريس، وشاهد طه حسين وهو يتعمَّد في إحدى كنائسها؟! ومن أين أتى بزعمه عن زيارة طه حسين إلى تل أبيب، وإلقائه محاضرة في جامعتها؟
إن هذه المزاعم لم يذكرها أحد على الإطلاق، حتى أشد الناس عداوة لطه حسين من معاصريه، أمثال: زكي مبارك، والرافعي، وفريد وجدي، وعبد الرحمن بدوي، ومحمود محمد شاكر، وغيرهم، أو مَن زاروا فرنسا، ودرسوا فيها أمثال: صبري السربوني، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وأحمد حسن الزيات، وأحمد ضيف، والدكتور إبراهيم مدكور، ومحمد مندور، ولطفي جمعة، وغيرهم!
المصالح الشخصية!
هذا؛ ويؤكد الأديب/ وديع فلسطين- أن أنور الجندي كان صديقاً لطه حسين، وكان دائم التردد عليه، لكنه اختلف معه بعد أن طلب منه قضاء مصالح وأمور شخصية له، فكانت القطيعة والحرب الشرسة من الجندي على طه حسين بعد أن رفض الأخير إنجازها له!
سهام الجندي الطائشة!
من جانبه؛ يُحمِّل الأديب الإسلامي/ محمد عبد الشافي القوصي- أنور الجندي جريمة تشويه أعلام العصر، وعلى رأسهم طه حسين؛ الذي ناله النصيب الأكبر من سهام الجندي الطائشة! فقد ارتكب جناية كبيرة في حق الأجيال، فقد أفسدت آراؤه المغلوطة وجدان الكثيرين، وشحنتهم بأفكار هدامة!
ويضيف القوصي قائلاً: والغريب؛ أن كتابات أنور الجندي المتطاولة على رواد النهضة في مصر راجت، وانتشرت نتيجة لقيام الإخوان المسلمين في السبعينيات من القرن الماضي بتبنيها، والنفخ فيها، وإعادة طبعها مرات، ومرات في دور النشر الإخوانية؛ بأسعار زهيدة؛ حتى تلقفها الشباب الساذج من المحيط إلى الخليج؛ فصدَّق كل ما فيها من هراء، وافتراء!
ولنحتكم إلى محكمة التاريخ الذي أعلن رأيه بوضوح؛ فمازال طه حسين موضع الإعجاب في الشرق والغرب، حتى قالوا عنه: إنه قاهر الظلام! وقالوا: إنه الأعمى الذي رأى كل شيء!
ومازالت مؤلفاته تُطبَع، وتُترجم، وتتصدر واجهات المكتبات، وتحظى بالدراسات والرسائل العلمية في مختلف الجامعات! فيما اندثرت كتابات الآخرين وذهبت ريحها، وطواها دجى النسيان!