علي الطنطاوي لماذا يكتب ذكرياته
علي الطنطاوي*
لماذا يكتب ذكرياته ؟
الشيخ: علي الطنطاوي
عثمان جمعان الغامدي
لكلمة (ذكريات) وقع في النفس الإنسانية يجعلها تحلق بصاحبها في آفاق من الأحداث القريبة والبعيدة ، ولها حمولات معينة تحتفظ بها كل نفس تجيش بالمشاعر الإنسانية ، وهذه هي طبيعة الذكريات مهما كانت بلذّتها وجمالها ، أو بقسوتها وألمها ، إذ هي الحدث أو مجموعة الأحداث التي تبقى في أغوار النفس ويتذكرها الإنسان فيما بعد ، وقد تغيرت فيه أشياء كثيرة ، تبدلت معها نظرته إلى كل شيء .
وأكاد أجزم أن كثيرين من مشاهدي التلفزيون السعودي في حقبة التسعينيات الهجرية وما بعدها من سنوات قليلة (السبعينيات والثمانينيات الميلادية) مازالوا يذكرون الشيخ علي الطنطاوي ـ يرحمه الله ـ في برنامجه التلفزيوني الشهير (نور وهداية) ، وكذلك في برنامج تلفزيوني آخر لا يقل شهرة عن برنامج نور وهداية ، وإن كان في مرحلة متأخرة عنه ، وهو (على مائدة الإفطار) .وكلا البرنامجين من أحاديث الذكريات ، أمتعنا بها الطنطاوي ـ يرحمه الله ـ ردحاً من الزمان حتى ألفنا وجوده حينما نعود من صلاة الجمعة ، كما ألفنا حديثه الماتع حين تجلس على مائدة الإفطار في رمضان وآنسنا حتى لم يعد يرضي أسماعنا سواهما من هذه البرامج .
الطنطاوي بحديث الذكريات ذاك كأنه غذى أنفسنا بحديث خاص أتعب ـ فعلاً ـ من جاء بعده ، في أن تكون له طلاوته ، بكل ما فيه من أحداث وذكريات ، بل ونسيان أيضاَ ، فكثيراً ما كان ـ يرحمه الله ـ ينسى في استطراده موضوع حديثه ، وكثيراً ما كان يسأل : (ماذا كنا نقول؟) .
حديث الذكريات
وذكريات علي الطنطاوي رحمه الله بطعمها المميز ، وضربها في الآفاق في كل اتجاه ، وتنويعها في كل الفنون ، جاءت نتيجة لمجموعة متضافرة من الظروف والمواهب الخاصة في نفس صاحبها فظهرت لنا مزيجاً مميزاً من حديث تشعر فيه بالألفة والحميمية ، مع أنه يعتمد على ما يعتمد عليه غيره من رسائل للمشاهدين يستفتونه فيها أو يسألونه ما طاب لهم السؤال عنه ، ويجيب عنها منطلقاً من قراءاته الخاصة ، وتجاربه ورحلاته ومشاهداته ، وكأن الأمر من الوجهة الموضوعية يسهل على كثيرين أن يقوموا بمثله ، لكن الذي يحصل أن هذا لم يكن ليحدث ، حتى لتصدق عليه مقولة السهل الممتنع ، فلم يستطع أحد بعده أن يسد الثلمة التي تركها غيابه ، فكانت محاولات القائمين على البرامج التلفزيونية تصطدم بصخرة الحقيقة التي لامناص عنها ، بأن الطنطاوي نجم تلفزيوني بما حوته نفسه من سمات ، وما توافرت نفسه عليه من صفات شخصية لم يجدها الناس في من حلّوا مكانه .
هكذا يكون إذن الشيخ الطنطاوي في خصوصيته ، وهكذا أيضاً حديث الذكريات بخصوصيته الكبيرة جداً ، لأن تدوين الذكريات أو استعادتها صفة شخصية تختلف باختلاف أصحابها ، وهذا ما يجعل من مجموعة (ذكريات علي الطنطاوي) المكونة من ثمانية أجزاء كتاباً تسبح معه في موضوعاته وفي أجزائه الثمانية ، فتجد أنك تقرأ المعلومة الفقهية كما تقرأ المعلومة الفنية ، وتتابع قصصاً من التاريخ الحديث القريب كما تطالع قصصاً من التاريخ الغابر ، جاءت جميعها في سياقها الطبيعي . وتقرأ ـ أيضاً ـ عن أشخاص عاش معهم الطنطاوي وقابلهم وكأنك أنت من جلس وقابل ، فهو يصفه لك شكلاً ، ويعطيك من صفاته الأخلاقية ما يجليه لك ، ولعلّ من يقرأ كتابه (رجال من التاريخ) يدرك إلى أي مدى تكون كتابة التراجم أمراً شاقاً إذا أراد كاتبها أن يرضي قرّاءه ، ليس هذا وحسب ، بل حتى في كتاباته عن الأمكنة ، فلعلك حينما تقرأ بعض كتاباته عن المواقع والأمكنة يأخذك وصفه المفعم بالمعلومات التاريخية حتى تشعر ـ فعلاً ـ بإلمامك بكل ما يحيطك علماً بهذه الأمكنة ، بل قد يشوقك إلى زيارة الأماكن الطيبة التي زارها ، أو عرفها ، وما حديثه عن الغوطة سوى أنموذج من أدب الرحلات الذي يعطيك حاضر الغوطة وينقل إليك مشاعره النفسية في أول لقاء له معها ، بعد طول غياب ، وتتأثر وتحزن وتتألم كما تأثر وحزن وتألّم لما استحالت إليه الغوطة من مآل ، بعدما أسبغ عليها من صفات الجمال الأخّاذ والخضرة النضرة ما جعلنا نتجرع نغب الألم حينما فقدت خضرتها ونضارتها ورونقها ، وزحفت عليها عمائر الإسمنت كالوحش الكاسر " كنت إذا صعدت جبل قاسيون وبدت لي دمشق بغوطتيها ، وانجلت لعينيّ لوحة عرضُها أكثر من عشرين كيلاً ، ألفّها بنظرة واحدة من شرفة داري ، أرى الدنيا كلها تجمعت مصغرة فيها : فالعمران في البلد يتوسطه الجامع الأموي وقبة النسر التي كانت ـ منذ كانت ـ من أعظم القباب التي أقامها العقل المفكّر واليد الصنّاع ، والحدائق والجنّات من حولها ، وبردى وأبناؤه الستة تجري من تحتها ، والمِزّة تنظر إليها ، وقاسيون يطل عليها ، وسهول المزة والكسوة تجاورها . فيها كل ما في الدنيا من سهل وجبل ، وبستان وقفر ، وساقية ونهر ، ومسجد وقصر ، إلا البحر . على أنك ترى حول البلد (أو كنت ترى) بحراً من الخضرة والنبت والشجر " (1/23ـ 24) . هكذا يجعلنا الطنطاوي نعيش معه اللحظة الراهنة ، وقت الكتابة ، ونعيش معه لحظة الذكرى وكأننا شاركناه كلتا الحياتين ، وعشنا معه أحداثاً كثيرة قرأناها ي ذكرياته الطويلة التي وصفها بالقِصَر ، حيث تعجز الصفحات الطوال عن استيعاب كل ما يتذكره من أحداث كثيرة مرّ بها : " أعود إلى ذكرياتي ؟ وأنّى لي أن أعود ؟ لقد عزفتْ نفسي عن حديث الذكريات . بلغت الحلقات التي نشرت ستين ، وأنا لاأزال في سنة 1932 . لا أزال في أول الطريق ولا تزال أمامي ذكريات نصف قرن كامل فيها أكبر أحداث حياتي ، ولقد تبدلت فيها الدنيا من حولي ، فهل أعيش حتى أسجلها ؟ " .
سيرة ذاتية وذكريات
هذا يقودنا إلى تأمل ذكريات الطنطاوي وهل هي من السيرة الذاتية ، خاصة أنه ـ يرحمه الله ـ كتبها في تسلسل زمني بدأ منذ صغره وطفولته ، وهذا نفس الذي يقوم به كتاب السير الذاتية فيبدؤون بطفولتهم ، وعن أول يوم يتذكرونه في حياتهم ، كما فعل عزيز ضياء في سيرته (حياتي مع الجوع والحب والحرب) ، وميخائيل نعيمة في (سبعون) ، وطه حسين في (الأيام) ، وكما فعلت فدوى طوقان في سيرتها (رحلة جبلية رحلة صعبة) ، وأضف إلى أولئك أشهر المعترفين في سيرهم جون جاك روسو الذي مهد الطريق للسيرة الذاتية .
وبالتأكيد فإن الذكريات تختلف عن السيرة الذاتية ، وإن كانت تشابهها في العودة إلى الماضي ، والإطالة ، وتختلف عنها في الدوافع ، ذلك أن الذكريات ترتهن إلى الأحداث وتقتات على المواقف ، بينما السيرة الذاتية لا تشترط وجود الحدث الكامل ، بل يكفي أن تكون دوافع كتّابها عاطفية انفعالية حتى يكتبوا سيرهم الذاتية . سواء صُنّفت ضمن السير الذاتية أم من الروايات ، وليس هناك أدل من بروز كثير من الروايات من قبيل السير الذاتية ، كما في ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة لتركي الحمد ، أو ثلاثية حنا مينة (بقايا صور ، والمستنقع ، والقطاف) وغيرها كثير مما كانت تعتمد في الأساس على حياة الكاتب وظهرت في ثوب روائي كامل ، لا يمنع وجود كثير من الخيال فيها .
والطنطاوي ـ مع أنه يسير في تسلسل زمني كما في السير الذاتية ـ لا يلتزم بهذا التسلسل في جميع ما كتبه في ذكرياته ، فتجده يكتب حلقات عديدة وفق تسلسل زمني متسق ، ثم يخلفه ويقطعه بحدث أو قصة أو مناسبة تجعل سياق الزمن يتوقف ، وكأننا نعيش حكاية كاملة مع ذكرياته يقطع سردها وسيرورة زمنها حدث آخر وزمن آخر . يقول : " أنا أكتب قصة حياتي متسلسلة مرتبة لأني أعتمد على ذاكرة فقدت حدّتها وأبلت الأيام جدّتها ، فقد أنسى الحادثة في موضعها ثم أذكرها في غير موضعها " (18:1) ، وهذا القول صحيح حينما نجد في ذكرياته وصفاً لقوة حافظته ، ويصدق هذا القول من يقرأ هذه الذكريات ليجد رجلاً شيخاً يتذكر أحداثاً قديمة جداً مرت به وتفاصيل دقيقة يوردها عن تلك الحوادث ، ويعتذر ـ في الوقت نفسه ـ عن ضعف الذاكرة الذي أصابه في آخر عمره .
ولعل مردّ خروجه عن السياق الزمني إضافة إلى ما ذكره عن الذاكرة أن الطنطاوي كان يكتب في الصحافة حلقات من سلسلة حياته ، وهذا يجعله كثير الخروج عن الخط الزمني في حياته وأحداثها ، فقد يسأله سائل عن أمر ذكره في حلقة سابقة ، وقد تفرض عليه مناسبة ما الحديث عن ذكريات محددة ، مثل ما حدث حينما جاء شهر رمضان وطُلب منه أن يكتب عن رمضان " قالوا : ألا تكتب عن ذكريات رمضان ، قلت : أي رمضان ؟ أهو رمضان واحد حتى أكتب عن ذكرياته " . (3 : 101)
زاوية الرؤية
إلا أن اللافت في أمر هذه الذكريات ، بل أمر صاحبها أنه ينظر إلى ذكرياته من الخارج ، لا من الداخل ، ويصف ذكرياته كثيراً ، ويصف موقفه منها بشكل متكرر ، ذلك أنه تنبه إلى أمر في غاية الدقة في حديث الذكريات ، وهو الفارق بين الزمنين : زمن الحدث (القصة) وبين زمن الكتابة (السرد) ، فهذا الفارق عند الطنطاوي في ذكرياته يعني الكثير ، حيث اختلاف الوقع النفسي عنده له دلالة كبيرة في سرد الحدث ، ولذلك تتكرر عنده عبارات النسيان ، وأن الوصف ليس دقيقاً بحكم البعد الزمني عن وقت الحدث ، وأن مشاعره الآن وهو يكتب ليست كما هي حين وقع الحدث . فهو الآن شيخ في العقد السابع من عمره ، يفكر غير ما كان يفكر في سني عمره الماضية ، ويحكم بقلب يختلف عن (قلوبه) السابقة ، ويقيس بأقيسة ليست الأقيسة الماضية ، يقول : " حين أتحدث عني وأنا صغير أكون كمن يتحدث عن إنسان آخر ، هو أنا وليس أنا . لا أتفلسف ولا آتي بالأحاجي والألغاز ، بل أقرر حقيقة . قلت لكم إنه مرّ في حياتي عشرات من الناس كلهم يحملون اسمي ، وكلهم (أنا) بمعنى الكلمة عند زملائنا أساتذة علم النفس ، وما منهم إلا واحد هو أنا بإحساسي وعاطفتي وفكري ". (1 / 25) ولعله في كتابه (من حديث النفس) سجّل ـ في مقالة بعنوان (أنا) ـ تأملات من النادر العثور على مثلها وفيها تحليق مهول في فضاءات الفلسفة الواسعة التي جاوز بها كثيراً من المفكرين وعلماء الفلسفة البحتة ، حيث تجرّد من نفسه تماماً وبدأ ينظر إلى حياته الماضية كلها ، منذ طفولته إلى شيخوخته ، وكأنه لا يعرف هذا الشخص ، بل كأنه ينظر إلى مراحل حياته في مرآة واسعة ، ويواجهها بأسئلة كبيرة ، إلى أن انتهى بقوله : " إنني لا أدري من أنا ، ولا أعرف كيف وجدت ، ولا أعلم ما هي صلتي بذلك الطفل الذي نسيت حتى صورة وجهه ، وذلك التلميذ الذي لم أعد أعرفه إلا بالتخيل ، وذلك الطالب الذي أحبه وأتشوق إليه ، وذلك المعلم الذي أرثي له وأشفق عليه ؟ هل أنا كل هؤلاء ؟ وماذا بعد ؟ يا لله ! إني أحس كأني جننت حقاً ".(من حديث النفس : 19) ..
وهذا ما يجعل الطنطاوي في ذكرياته كثير الوصف لجوانب عديدة ملاصقة له في مراحل حياته ، يصفها وكأنه غريب عنها ، أو كأنها لشخص آخر غيره ، قد يتحدث ويتحسر على ما خلا من زمن ، وقد يتحدث وهو ينظر إلى الأمام المقبل من الأيام ، يسائل الزمن هل سيبقى إلى أن يدوّن كل ما رأى وسمع ، يقول عن تسجيله لذكرياته : " كنت أمشي في هذه الذكريات في طريق واضح ، فتشعبت أمامي المسالك وافترقت ـ كما قلت من قبل ـ الطرق ، فمن أين أمشي الآن ؟ أتمّ الكلام عن عملي في القضاء ؟ أكمل الحديث عن فلسطين ؟ أستمر في عرض نماذج عن أساليبي في كتاباتي ؟ وهل أستطيع أن أعرض هذه النماذج كلها ؟ " .(5/117) وهذا ـ في رأيي على الأقل ـ ما يجعل من حديث الذكريات ذا ألفة تقربه من نفس القارئ وقلبه ، فهو من الحديث الذي تأنس له النفس وإن كان الطنطاوي يرى أن القارئ يستثقل حديث الذكريات لما له من خصوصية ، إلا أن ذلك من قبيل التواضع والنأي عن الإثقال على قارئه ، وهو ما يجعل الطنطاوي في كثير من المواقف يؤثر الذكريات ذات الفائدة المعرفية على ما قد يسجله من ذكريات لا تحمل سوى أحداث تتعلق به شخصياً ، مثل ما قاله عن تفسيره لسورة العصر وإيثاره لإعادة تفسيره عن حديث الذكريات لما فيه من فائدة " فهل تأذنون لي أن أقطع سرد ذكرياتي ، وأن أقف وقفة قصيرة لعلها أنفع لكم وأجدى عليكم من تلكم الذكريات ؟".(8/225) إلا أن ذلك لا يدل على أن الطنطاوي لا يرى في الذكريات متعة للقارئ ، بل يرى أن الأصل في حديث الذكريات هو الإمتاع والتلذذ بها فها هو يقول : " ولي مع السباحة قصة ربما قصصتها عليكم يوماً قريباً ، ما فيها منفعة ولكن ربما كان فيها متعة ، ونحن نطلب في هذه الحياة بعض المتع والتسليات ".(8/200) ..
مكمن المتعة في التذكر
ولعل رؤيته بالاستمتاع بالتذكر مقتصرة عليه ، فكثير من كتّاب السير الذاتية يكتبون للتلذذ بالذكريات ، لأنه يعيش الزمن الجميل مرة ثانية . وفي الحقيقة فإن لذة التذكر في أواخر الحياة من الصفات اللصيقة بالناجحين من الناس ، وذوي النزعة إلى العمل ، لأنهم ـ كما يقول جورج ماي ـ يرغبون في عيش تلك الحياة مرة ثانية من خلال الكتابة عنها .
والذي لا خلاف عليه أن كل من كتب عن ذاته إنما يصدر عن رغبة تتمحور حول ذاته ، وكما يقول صديقنا الناقد حسين بافقيه في مقال له عن لذة التذكر " كأن الكاتب إذ يستعيد ما مضى من حياته إنما ينزل على رغبة كامنة في ذاته ، قد يفصح عنها ، وقد يخفيها ، ولكنه في كلا الأمرين ، يصدر عن دافع أو باعث يحدوه إلى كتابة تجعل الذات موضوعاً ". (صحيفة الرياض ، ع14738) وأظن أن من يدوّن ذكرياته يحاول أن يسترجع حتى وقع الحوادث النفسي عليه آنئذ ، ومن العجيب أن الطنطاوي أحجم عن الولوج إلى تفاصيل أغنية لأم كلثوم ، ولم يرغب في البحث عن مطلعها كي لا يفقد وقعها في نفسه حين كان يسمعها في وقت مضى من حياته " لم يبق في ذهني من أغنية أم كلثوم إلا هذه الكلمات ، ولم أحب أن أبحث عنها وأعرف مطلعها لئلا أفسد هذه الصورة الحلوة التي بقيت لها في ذاكرتي ".(2/251) وأظنه يرى أن ذلك الإفساد الذي قد يُلحقه بالأغنية أن أحواله النفسية تغيرت ، فاستمتاع شيخ بأغنية لا يضارع استمتاع شاب بها ، وربما تكون الأغنية مرتبطة أيضاً بذكريات ارتبطت لديه فلم يرد أن يفسد وقعها النفسي لديه .
ولكن هل الشخص الذي يستمتع بعمل شيء يرغب في التوقف عنه ؟ وهل المتعة هنا هي متعة التذكر أم متعة الكتابة ؟ لقد كتب علي الطنطاوي ذكرياته بعد محاولات كثيرة ـ كما يقول في ذكرياته ـ من الناشر ، وآثر البقاء في عزلته بعيداً عن الكتابة والأضواء ،إلا أنه وافق في آخر الأمر ، فكانت الصحيفة تُرسل إليه من يكتب ما يمليه عليه الشيخ ، وكأنما بُعثت فيه حياة أخرى ، فإذا به يعود إلى الكتابة بنفسه بعد فترة من الأمالي . فكيف يمكن أن نفسر عدم رغبته في بداية الأمر ثم تحمسه لها ؟ لعل الشيخ الطنطاوي حينما رفض الكتابة في بداية الأمر علم بمشقتها ـ وهو الذي مارسها عقوداً كثيرة ، فهو منذ كان حدثاً وهو يكتب ويخطب ، وبحكم تلك المعرفة يعلم أنه يصعب عليه الالتزام بحلقات مستمرة ، خاصة حين النظر إلى شكواه الدائمة من اعتلال صحته ، واعتلال ذاكرته أيضاً ،بل لقد طلب إعفاءه بعد سلسلة طويلة من حلقات الذكريات ، جاء ذلك في الجزء الثاني من ذكرياته ، حيث قال : " يا أخي الأستاذ رئيس التحرير ، لقد مرّ وقت طويل على وضع استقالتي بين يديك ، أفلا ترى أن من الخير لي وللقراء أن تقبلها وتعفيني " (2/297) وما يؤكد أن الأمر عنده لا يعدو أن يكون تهيباً من الالتزام ، أنه كان يريد ان يدوّن ذكرياته قبل أن تعرض عليه كتابتها في صحيفة " المسلمون " ، يقول في مقدمة الذكريات : "وكان نشر هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكبار في الحياة ، ولطالما عزمت عليها ثم شغلت عنها ، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها ، ثم لم أكتبها ، بل أنا لم أشرع بها ، لأني لا أكتب إلا للمطبعة ". (1/13)
ولعل الشيخ الطنطاوي كتب ذكرياته وواصل الدأب على نشرها إتماماً للفائدة ، وإمتاعاً للقراء الذين كانوا يتجاوبون بشكل جليّ مع ما يُنشر في تلك الحلقات ، وكأن الشيخ يعلم أن لحديث الذكريات لذة يشترك فيها مع قرّائه ، وذلك حينما يقول : " أشكر الشرق الأوسط ...فلولاها ... لما قرأتم شيئاً من هذه الذكريات ". (2/190)
رحم الله الشيخ علي الطنطاوي الذي أمتعنا بذكرياته ، وبما ترك من مؤلفاته ، التي حفظت لنا كثيراً من المعرفة ، ولكن حين تكون المعرفة ميسرة ، فإنها ـ أعني تلك الذكريات ـ حفظت لنا روح الحديث الطنطاويّ ، إذ نقرأ تلك الكتب ونحن نسمع صدى صوته في كل كلمة يتردد وكأنه أمامنا .
* ولد الشيخ علي الطنطاوي في دمشق بسوريا في 23 جمادى الأولى 1327 هـ (12 يونيو 1909 م ، وتوفي في جدة يوم 5 ربيع الأول 1420 (18 يونيو 1999).. أبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي من العلماء المعدودين في الشام وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق .
خاله محب الدين الخطيب استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتي " الفتح " و " الزهراء " وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين .
درس الثانوية في " مكتب عنبر " الذي كان الثانوية الكاملة الوحيدة في دمشق حينذاك ، ومنه نال البكالوريا (الثانوية العامة) سنة 1928 .
ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا ، وكان أول طالب من الشام يؤم مصر للدراسة العالية ، ولكنه لم يتم السنة الأولى وعاد إلى دمشق في السنة التالية (1929) فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس (البكالوريوس) سنة 1933 م .
نشر أول مقالة له في جريدة عامة " المقتبس " في عام 1926 ، وكان في السابعة عشرة من عمره . بعد هذه المقالة لم ينقطع عن الصحافة قط .
وفي سنة 1933 أنشأ الزيات " الرسالة " ، فكان الطنطاوي واحداً من كتابها واستمر فيها عشرين سنة إلى أن احتجبت سنة 1953 .
كتب سنوات في مجلة " المسلمون " ، وفي جريدتي " الأيام " و " النصر " .
حين انتقل إلى المملكة نشر في مجلة " الحج " في مكة وفي جريدة " المدينة " ، وأخيراً نشر ذكرياته في " الشرق الأوسط " على مدى نحو من خمسين سنة .
عمل معلماً للابتدائية ثم أصبح قاضياً ثم مستشاراً لمحكمة النقض ، فمستشاراً لمحكمة النقض في الشام ، ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر .
وضع قانون الأحوال الشخصية ، فكُلف بذلك عام 1947 وأوفد إلى مصر .