الرؤيا الشعرية في قصيدة (وردة الإيقاع)

لعبد السلام بوحجر

محمد فريد الرياحي

[email protected]

إن (وردة الإيقاع) تركيب إضافي،والإضافة فيه إضافة معنوية،وليست باللفظية إذا اعتمدنا ما هو معروف بالضرورة في علم النحو.والحق أن الإضافة أي إضافة،إنما هي إضافة معنوية؛ولا داعي عندنا إلى هذا التفريق بين اللفظ والمعنى.وهو التفريق الذي خاض فيه النحاة والنقاد القدامى ابتغاء التقسيم والتفريع، من غير توكيد للكلام في ذاته من حيث هو القول المفيد بالقصد.فالقصدية إذن هي ما يعول عليه أولا وأخيرا في النظر إلى هذا الكلام.ولو نظرنا إلى الإضافتين اللفظية والمعنوية لوجدناهما في الأصل الأصيل المتأصل من العبارة والإشارة،موصولتين بالمعنى.وإذا كان هذا المعنى معروفا بنعوته وسماته في الإضافة المعنوية، فإنه ظاهر ، لمن أدرك مسكة من العلم،في الإضافة اللفظية. وليس من شك في أن المتكلم إنما يتكلم ليفصح عن معنى خفي في الصدر،فإذا كان هذا المتكلم شاعرا يشعر بما لا يشعر به غيره أبان عن هذا المعنى في أجمل صورة وأحسن هيئة،بل في أجل ما عنده من القدرة على التشكيل والتحويل باللغة التي تخرج عما هيئ لها من التعبير عن الحوائج إلى ما قدر لها عند الشاعر من تصوير المباهج.وبين الحوائج والمباهج ما بين الواقع في طينيته والحلم في روحانيته.وما ينبئك مثل خبير.فإن لم يكن هذا الذي نتقدم به من الرأي فكيف إذن فهم هذا التركيب الإضافي (وردة الإيقاع) إذ ما هي العلاقة أصلا بين الوردة والإيقاع؟ وكيف نفهم النسبة بينهما وهما فيما أراد لهما الشاعر من التعالق والتعانق؟ نحن نعرف الوردة في ذاتها بذاتها،وندرك الإيقاع في ذاته بذاته، ولكننا لا نعرف وردة الإيقاع فيما تدل عليه من الحركات والسكنات إلا بمعرفة المشترك بينهما في المعنى، أي بمعرفة ما يجمعهما من الحلم الشاعري أو الرؤيا الشعرية عند الشاعر إذ لا علاقة بين الوردة والإيقاع في المتداول من الكلام المألوف أي فيما يعهده الناس في الإدراك والتصور وهم يعبرون عن أغراضهم. فإذا تركنا هذا المستوى من الكلام إلى غيره من المستويات البلاغية أي الإبداعية ،وجدنا من العلاقة بل من العلاقات ما تسكن إليه النفس ، ويطمئن له القلب. ونبدأ من البدء فنؤكد أن كل وردة زهرة وليست كل زهرة وردة؛ إذ الزهرة من الزهر،والزهر عنوان على الثقب والثقوب،ومنه الأنجم الزهر أي الأنجم الثاقبة النافذة باشتعالها وازدهارها، وفي هذا يشترك الورد والزهرالذي يدل على أنواع أخراة من النَّوْر الموصول بالنُّور والنار في المعنى. وعلى هذا يكون الاشتعال هو أول ما يتداعى في الذهن من المعاني ، ويتوارد على النفس من المجاني ، ونحن نذكر الوردة بما تبديه أو يبدو عليها من الألوان المختلفات الزاهيات.فإذا أضفنا إلى هذا كون الوردة خارجة من شجر شوكي يدمي الأيدي ،أدركنا العلاقة بين ما هي فيه من الاشتعال وبين حمرة الدم المشتعلة في هيجانها حين البأس.أليس الورد هو الأسد، بل أليس الورد هو الرجل الضرب المتورد الذي يعرف بكونه خشاشا كرأس الحية المتوقد؟ إن حمرة الاشتعال واشتعال الحمرة هو ما يمكن لنا في عالم الورد بل ما يمكننا من إدراك الجوهر الذي هو الحياة في ثَرَوانها والوجود في غليانه. وهذا ما نلحظه في كل المعاني التي تحفل بها مادة ورد .ويكفي في هذا المجال أن نذكر التوارد وهو ما يدل على اشتراك شاعرين اثنين في معنى،مما يدخل في توارد الخواطرووقوع الحافر على الحافر.وفي هذا إشارة إلى المعنى الواحد عند الشاعرين بفعل اشتعال الإلهام الذي يتنزل عليهما معا في اللحظات السعيدة. وليس الإلهام إلا انقداحا للمعاني وانثيالا لها في ذروة الكشف أي في ذروة الانقشاع. أما الإيقاع فتعاقب للحركات والسكنات في امتلاء اللحظات بالأصوات وفراغها منها. وليست الحياة في تجلياتها ،وليس الإنسان في تمظهراته بل ليست الأوزان في المجال الشعري إلا هذا التعاقب بين الحركة والسكون فيما يعطي الوجود هويته ووجهته في الخفقان والغليان والثروان،أي فيما يدل دلالة وجدانية شاعرية على أن هناك حياة تمارس الفاعلية والفعالية في جو ديونزوسي لا وجود له إلا بوجود جو أبولوني. وإذا كان ديونزوس رمزا للوجود الصاخب الممتلئ الحي في الموسيقى وبالموسيقى فإن أبولون هو رمزالوجود الهادئ في التأمل وبالتأمل. وحيثما يكن الإيقاع وتكن الموسيقى تكن الحياة في أبهى صورها وأشهى ذكرها، ويكن الوجود في أجلى تجلياته وأغلى تدلياته.وفي هذا كان إحساس الشابي بالوجود من حوله في البصر الذي يشهد والبصيرة التي تعي والسمع الذي يلقف الأصوات والحركات والسكنات والإيقاعات.ولم يكن هذا الإحساس في المجال الشعري إلا ذلك الخفقان الذي يتولد منه اشتعال الزهر في الزمان الربيعي، أي في زمان الخصب الذي هو زمان ديونزوس،فانظر إلى قول الشابي

كلما أبصرتك عيناي تمشين بخطو موقع كالنشيــــد

خفق القلب للحياة ورف الزهر في حقل عمري المجرود

فانظر إلى هذا القول تر فيه ما يدل على أن الإيقاع إيقاع للخطو والقلب في دندنة النشيد، وغنغنة الوتر، أي في تألق الموسيقى بالعشق وفي العشق. وليس التألق أي تألق إلا اشتعال بالاشتعال في الاشتعال. وإذن فقد اجتمع لدينا اشتعالان ،اشتعال آنسناه في المعاني التي استوحيناها من مادة ورد واشتعال طربنا إليه بالإيقاع أي بالأوزان  التي أصلها من تعاقب الحركات والسكنات .وفي هذا الذي ذكرناه ونذكره تكون قصيدة (وردة الإيقاع) تمكينا للسامع أو المطالع، من عوالم اشتعال العشق بالإيقاع، واشتعال الإيقاع بالعشق، في زمن هو زمن الغناء بالحلم في الحلم للحلم.

وليس الشعر في أصله الأصيل المتأصل إلا الحلم مشتعلا بالعشق والموسيقى.وهذا مانجده في قصيدة (وردة الإيقاع) مسلوكا في جميل من العبارة، وجليل من الإشارة، لا يقدر عليهما إلا من  ألقى السمع، فإذا هواتف الإلهام تحدثه من وراء حجاب ،

وإذا هو يصغي إليها عشقا وتعشقا، ليسلكها بعد ذلك فيما اختارته هي من الأصوات والإيقاعات. فلا سبيل إذن إلى إنكار هذه الحال من الحلم الذي تلبس به الشاعر حتى لا فكاك منها.وليس الحلم الشعري إلا الرؤيا التي تأتي كفلق الصبح في اللحظات السعيدة فيكون الشعرويكون الشاعر،فإذا غابت أو غيبت، عاد الشاعر إلى حاله الطينية فهو كالبشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق.إن (وردة الإيقاع)إذن من بعد هذا الذي ألمعنا إليه هي اشتعال الاشتعال أوالاشتعال في الاشتعال بالعشق موزونا، والوزن معشوقا، في مقام هو مقام الذات الشاعرة في تخلجها وتوهجها وتبلجها بالذات المعشوقة في الوجود الحياتي والوجود الشاعري،بل ليست الوردة ،كما دل على ذلك المساق والسياق في النص الشعري، إلا القصيدة المرأة والمرأة القصيدة ،فيما لها من الحضوربالموسيقى في الموسيقى. وفي هذا نلج عالم الشاعر،بل نعانق رؤياه الشعرية وهي تسرح في هذا العالم ، بكل ما فيها وعندها ولديها من التمدد والامتداد في أبعادها التي لا تنتهي إلا لتبدأ ولاتبدأ إلا لتنتهي، فيما لها من الصور بل فيما تملكه من العبارات والإشارات،والصور والأحلام والأنغام التي أصلها من الإلهام الذي جعل من الوردة قصيدة ،وجعل من القصيدة وردة؛ فإذا هما معا كيان واحد لا يقبل التبعيض فيما يملكه من المعنى الإبداعي، ويتملكه من اللحن الإيقاعي. وهكذا تكون قصيدة (وردة الإيقاع) إعلانا شعريا عن قصيدة الإيقاع في عشقها لذاتها بذاتها في ذاتها،أي فيما لها من الكينونة التي تمكن لها في الشعر الحق مواجهة لما هو من قبيل المنثور الذي ليس له أن يرقى إلى العالم الشعري،وكيف يرقى وهو لا يملك مابه يكون الشعرشعرا؛ أي لا يملك الاشتعال في العشق بالإيقاع والاشتعال في الإيقاع بالعشق.وفي هذا تكون رؤيا الشاعر الشعرية، ويكون موقفه النقدي أن لا شرعة، ولا وجهة، ولا هوية؛ لما يسمى قصيدة النثر؛وأن العاقبة لقصيدة الإيقاع  فيما يخلدها في غنائيتها التي  تنحو منحيين اثنين الأول وهو صدورها عن الوجدان في الألحان والثاني تغنيها بهذه الألحان في الوجدان. وليس في هذه الرؤيا جديد من حيث الطرح الموقفي ، ولكن الجديد هو أن الشاعر حمل هذا الطرح من مجاله النقدي النظري التنظيري، إلى المجال الشعري الإبداعي، فهو، بذلك، الشاعر الناقد، والناقد الشاعر، في جمالية من العبارة والإشارة، يقدر عليها الشعراء ولا يقدر عليها الشعارير الذين لا طاقة لهم    بالشعر الشاعري.

محمد فريد الرياحي شاعر وناقد من المغرب

عبد السلام بوحجر شاعرمن المغرب أيضا