تجربتي في قصة الطفل 5
05آذار2011
جاسم محمد صالح
جاسم محمد صالح
ان تدوين التجربة الذاتية في الكتابة والابداع تعد من أصعب الاعمال التي يواجهها الاديب، فمن العسير جداً أن يتمكن المرء - ومهما كانت قدرته وإبداعه - من أن يفرق بين سمات التجربة الذاتية وبين وسائل الابداع الاخرى التي يمتلكها، وتكمن الصعوبة والحرج في هذا الخلط الذي قلما يستطيع أحدٌ أن يتجاوزه ، ومع هذا فإن الخوض في هذا المجال ما هو إلا تجربة والتجربة قابلة للنجاح أو للفشل ، وكلتا الحالتين تقدمان شيئاً للفكر وللابداع وللتراث الانساني والحضاري الذي نطمح جميعاً لان نساهم فيه ونضع لبنة ربما ستكون متميزة وذات تأثير وأهمية.
(حب الوطن) واحدٌ من أهم المفاهيم التي يسعى كاتب الطفل للتعامل معها، حاولت أنا شخصيا أن أقدمه للطفل، حيث اقتربت منه ومن مفهومه ومن قاموسه اللغوي ومفرداته، فتحوَّل الوطن عندي إلى بركة ماء … وتحول المواطن إلى ذلك الشعور المتأرجح الذي كان يراود بركة الماء فجعلت منه مواطنا عاشقا للوطن لكن تراوده أحلام وردية بالتغيير وبالسفر إلى أَصقاع آخرى من العالم .
كانت بركة الماء تتمنى الرحيل ، لكن لا تعرف إلى أين ترحل ؟ أردت أن أفهم الطفل أن الوطن بحاجة ماسة إلى أبنائه كل أبنائه، فطرحت ثيمة آخرى من خلال القصة وهي مجيء مجموعة من اللقالق المهاجرة التي كانت عندي تمثل أفراداً وأبناء لهذا الوطن ولكن من بقاع آخرى هاجروا وأدَّوا مهمةً أيةَ مهمةٍ كانت، وهم الان في شوقً ولهفة للعودة إلى الوطن الذي هاجروا منه وعودتهم إليه حتميةًولابدَّ أن تكون .
كان سؤال بركة الماء التي تحلم بالسفر مفتاحاً لليقين والاستقرار، كانت إجابة اللقالق بالعودة إلى الوطن ترسيخاً وتعزيزاً لهذا المفهوم والغاءً نهائياً لحالة التشوق للهجرة وترك الوطن والابتعاد الكلي عن منبع الذات عن البيت عن الوطن.
قالت اللقالق ذلك وودعت بركة الماء وطارت، على أثرها بقيت البركة ابنة هذا الوطن تتساءل مع نفسها عن سر وكينونة ومغزى الحالة التي أمامها، كل الحالة المطروحة ومن جوانبها المختلفة، وبقيت أصداء تساؤلات اللقالق وأجوبتها تتردد وتتزايد بارتفاع مذهل في قاموس ذهنها وتفكيرها قالوا لها:
- إنك مثلنا تحبين بيتك.
وعلى الفور كانت الاجابة سريعة ومعبرة عن عمق ذلك التشبث وامتداد الجذور بالوطن:
- ترى، كيف تكون اللقالق أكثر مني حباً للمكان الذي عاشت فيه ودرجت ونشأت؟
قالت ذلك مياه البركة بزهوٍ وخيلاء بعد أن فكرت وابتسمت:
- لن أغادر مكاني هذا إنه بيتي الجميل.
ومن جديد ازداد تعلق المياه بالبركة ازداد تعلق البركة بالاصل ازداد تعلق الجميع واحداً بالاخر وما عاد أحدٌ يفكر بالرحيل هذه أهم أحداث قصة البيت الجميل المفردات البسيطة واللغة الواضحة والربط القوي هي التي تقترب من ذهنية الطفل وتمكن الكاتب من إيصال ما يريد إيصاله للاطفال، إضافة إلى أنها تمكنه من النجاح في الاقتراب من ذهنية الطفل بكل سهولة ونجاحه في تلك المهمة وهناك أكثر من مفتاح لنجاح الكاتب في مهمته منها:
1-ألا يكثر من الافكار والرموز والمدلولات في قصته كي لا تتشابك الافكار وتختلط لدى الطفل، فكرة واحدة حالة واحدة، حوار واحد، نتيجة واحدة كل ذلك يكفي.
2-إن لا يضع المتاهات أمام الطفل ، وكذا الدهاليز التي لا أول لها ولا آخر التي تجعل الطفل يضيع ويتشتت ويتوقف أمام الاستنتاج والاستنباط والربط والمقارنة لانه - وكما نعرف جميعنا ذلك- سريع الملل ، فيغلب عليه الرفض فيرمي القصة جانباً ولا يفكر أبداً في قراءتها
3-البساطة والوضوح طريق للتشويق وللمتابعة التي تجعلنا أن نوصل للطفل ما نريد.
هكذا كتبت جميع قصصي والعشرات منها نالت متابعة من الاطفال، قرؤوها أمامي وظلوا يقرؤون، قرؤوها بشغف ولهفة وبعد ذلك كانوا ينظرون إليَّ بفرح وغبطة ثم قالوا لي:
- إنها قصص جميلة جداً.
وطلبوا مني المزيد وحاوروني وحاورتهم، وعلموني وتعلموا مني، حالة معرفية متبادلة… عرفت منهم بذكاء شخصي ما يريدون، وعلموني بذكاء فطري بسيط ما يريدونه مني… وما يحتاجون إليه… وكان المزيد من الحوار الهادئ البسيط يعني المزيد من القصص ولكن بنفس السياق وبنفس الاطار وبنفس المواصفات المطلوبة الحالة كلها أشبه بالرجل الذي يدخل المطعم ليسد رمقه ويطفئ غليل الجوع هناك في المطعم مئات الانواع من الطعام يقرأها الرجل بإمعان لكنه يطلب أخيراً الطعام الطيب واللذيذ الذي يرغب في تناوله وهكذا كانت رغبة الاطفال في القراءة وأخذوا من مطعمي ما يريدون.
على هذا الاساس استمرت الصداقة بيني وبين الاطفال وتحولت صداقتنا إلى محبة طاغية تجاوزت كل الحدود أقول لكم بصمت:
- لقد أوصلت أفكاري إليهم وتقبلوها مني وعلمتهم كثيراً من الاشياء، كان حبُ الوطن والدفاع عنه ضدَّ الاعداء والمحتلين أول ما علمتهم، ثم كان بعد ذلك الصدق والاخلاص والتعاون وحب الاخرين وكذا التضحية ونكران الذات وهذا سرُّ سعادتي.
أتمنى أن يكون كتاب الطفل كذلك وأن يقتربوا من الاطفال بكتاباتهم كي يفهموها ويحبوها… لنقضِ وقتاً ممتعاً في قراءة بعضٍ من قصصي التي كتبتها للاطفال والتي أعجبتني وأعجبتهم وربما ستعجبكم أنتم أيضاًهيا نقرأْها بسرعة قبل أن يأتوا ويختطفوا الصحيفة التي بين أيدينا ليقرؤوهاً.