الكلمات المهجورة والمستهجنة تشوِّه ذائقة اللغة وجمالياتها
الكلمات المهجورة والمستهجنة
تشوِّه ذائقة اللغة وجمالياتها
ديـوان البغضـاء لأبي فهر (محمود محمد شاكر) نموذجاً!
صلاح حسن رشيد /مصر
- قصائد شاكر خلت من الشاعرية والموسيقية وامتلأت بمزالق اللغة!
- شاكر .. لم يفهم جوهر الشعر!
القاهرة
من قديم الزمان؛ لا يبقى من الشِّعر إلاَّ أعذبه لفظاً، وأوسعه خيالاً! كأشعار عنترة، وزهير، والفرزدق وجرير، والمتنبي، وأبي العلاء، وشوقي، وحافظ، ونزار قباني، وبدوي الجبل، وغيرهم من الشعراء الذين سايروا تطور اللغة وصيرورتها ومواكبتها للعصور المختلفة. في حين اندثرت الأشعار الجافة والعقيمة المملوءة بالألفاظ المجهولة، والمعاني الغامضة.
فلا يجوز للأديب أن يتخلَّف عن عصره، وأن يخلق بينه وبين واقعه الجديد حجاباً كثيفاً، فيكتفي بالحياة في عصور سابقة، كان لها ظروف مختلفة كل الاختلاف عن ظروفنا الراهنة، ولا يمكن للشاعر المعاصر –كما يقول رجاء النقاش- أن يعيش بالمشاعر والأفكار والألفاظ والمعاني التي كانت تسيطر على الشاعر الجاهلي، أو الأموي، أو العباسي، فمثل هذا الموقف من جانب أي شاعرٍ معاصر، يعني جموده وانعدام قدرته على التأثير!
ويرى المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه ( مختصر دراسة التاريخ) أن الماضوية هي:" ارتداد عن محاكاة الشخصيات المبدعة، إلى محاكاة أسلاف القبيلة، وبعبارة أخرى، تُعدُّ السلفية المتقعرة سقوطاً من الحركة الدينامية، إلى الحالة الاستاتية (الثابتة) التي يُشاهَد عليها الإنسان البدائي في الوقت الحاضر"! ومن ثمَّ، فهي جنوح إلى الوراء، حيث العصر الحجري، واللغة البدائية!
ويرى توينبي-أيضاً- أن السلفية المرفوضة في مجال السلوك، تظهر في شكل نُظُم مُتَكلَّفة وآراء تتشبَّث بالمصطلحات الفارغة، أعظم من تعبيرها عن نفسها في شكل أساليب تتصل بالوجدان. وهي تُعَبِّر عن نفسها في المجال اللغوي في معانٍ تتصل بمنهاجٍ ونمطٍ يتسمان بالسفسطة والقشور، وفي النهاية لا طائل من كل هذا!
ومن أسف؛ سيطرت هذه الرؤية على كثيرٍ من الشعراء في هذا العصر؛ فماتت أشعارهم ولم يذكرها أحد! فالشعر لا يعتمد على علم العَروض فحسب، ولكن هناك لوازم أخرى لابد منها كالخيال، والموهبة، والإلمام باللغة، والثقافة الموسوعية، وغير ذلك.
فكم من الناس الذين عَرَفوا العروض وموسيقى الشعر، وفشلوا في كتابة بيت شعرٍ واحد! ومن هؤلاء الشيخ أبو فِهْر (محمود محمد شاكر) الذي استهوته الألفاظ المجهولة والمستهجنة! مثل: (الهبل، والأرون، والأرقش، والوشل، وتأتكل، وعلز، وحيّهل، وشعباء، وشعفات، وذليق، متلاحز، مرقن، والشرعبي، وعوعة) وغيرها من الكلمات الغريبة التي لم يسمع بها إنسٌ ولا جان!
وقد عارض –شاكر- قصيدة الشمّاخ بن ضرار التي قالها في قوسه، بقصيدة متنافرة الألفاظ، فاقدة المضمون، رديئة الصياغة! تجعل القارئ يفقد عقله بعد قراءتها، يقول شاكر في قصيدته (القوس العذراء)، والتي صدرت في طبعة جديدة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخراً:
ونادته جافلةً: ما تـرى |
|
أجذوةَ نارٍ أرى أم مُقَلْ |
فهل يمكن أن نسمِّي هذه الحُفَر والمزالق والمطبات الصناعية شعراً؟!
والأعجب، أنَّ -شاكر- سمَّى أحد دواوينه باسم "ديوان البغضاء"! وهو دال على مضمونه؛ إذْ يتناول قصة الجفوة بين شاكر وحبيبته! كما يقول الأديب الأردني عصام الشنطي- "بأن شاكر كان يذهب ليلاً في الأربعينيات، إلى حي "مصر الجديدة" للبكاء والتضرع والتذلل، تحت نافذة منزل الشاعرة العراقية عاتكة الخزرجي؛ لكيْ تَمُنَّ عليه بنظرة! ويصرخ، قائلاً لها: حِنِّ على عبدكِ الذليل، يا عاتكة"! حتى إنه أقدم على الانتحار بعد أن صدته وطردته، فترجم حالته النفسية في أبيات جافة عقيمة، قال فيها:
مِلْ بنا يا فؤادُ، ننسى الموداتِ |
|
ونُلقِـي إلـى العـداوةِ حبّا |
وقد عانى (شاكر) مرارة الحرمان -كما يقول تلميذه الدكتور عادل سليمان جمال- كما يظهر في قصيدة" اذكري قلبي "، التي يقول فيها: قذفتني هِمَّةُ الأحرارِ في ذُلِّ العبيدِ!
وبلغ به اليأس والشك مبلغه؛ فأصبح لا يفرِّق بين الإيمان والكفر، ففي قصيدته "لا تعودي" يقول:
أنتِ ..إيماني .. بل كُفْري .. بل أنتِ جُنوني!
حبَّبَ الشَّكَّ إلى قلبيَ إيمانٌ بغيضُ!
ونجده يختار الألفاظ التي لا تتناسب مع جمال الشعر، وعذوبته، بل يبحث في الحفريات عن ألفاظ قاسية، ومتحجرة وهجينة، كما في قصيدة "الشجرة ناسكة الصحراء":
أيتها الشَّمطاءُ في موقفٍ كأنه مَقْـبـرةُ القـابرِ
مُغْبَرَّةٌ .. شَعباءُ .. مَحْنيَّةٌ أمالها ثِقْلُ النَّوى الفاقرِ!
فما معنى كلمة (الشعباء)؟ وما معنى (مقبرة القابر)؟وبماذا يخرج القارئ من هذه الرطانات والكلمات المرصوفة رصفاً؟! ولماذا هذا التعقيد المذموم والبحث عن غريب الكلمات في الوقت الذي نريد للقارئ أن يُقبِل على الشعر وينجذب إلى جماليات لغة الضاد؟!
وقد بلغ الإغراب بشاكر أن أتى بألفاظٍ معجمية مجهولة، اندثرت وبادت! كما في قصيدة "يوم تهطال الشجون":
فإلى المَجدِ خِفافاً .. أو دعوا عَلَزَ الداءِ وحزَازَ الأرونْ
فما معنى العلز؟ وما هو الأرون؟
فهل كان –شاكر- يريد منا أن نحمل المعاجم على أكتافنا عندما نقرأ كلامه؟!
أخطاء شاكر اللغوية والعروضية!
لا يجهل -شاكر- اللغة فحسب، بل هو جاهلٌ –أيضاً- بالعروض! فديوانه "اعصفي يا رياح" مملوء بالأخطاء العروضية واللغوية، يقول، في قصيدة "لا تعودي":
شُعَلٌ ذابتْ من اللذات أو وجدٌ غَوِيضُ!
ولم تَرِد في اللغة العربية كلمة (غويض) فضلاً عن عدم شاعريتها، وعدم ملاءمتها!
ونراه يخالف صحيح اللغة، فيقول في قصيدته "انتظري بُغضي":
كأنكَ لم تُخْلَقْ لدنيا تجوبها وما أَضيقَ الدنيا من الحَدَقِ المُرْضِ!
فالعربية تعرف كلمة (المِراض) وليس (المُرْض)، فكيف وقع- هذا السلفي- في هذا الخطأ الشنيع؟
وفي قصيدة "من تحت الأنقاض" يقول:
شهواتُ أشعلتْ .. ثم خَبَتْ لم تكن إلا شَكَاةَ المُغْرَمِ
والصواب في العربية: اشتعل، مصداقاُ لقوله تعالى: "واشتعل الرأس شيباً" ولم يَرِد أشعل لازماً، بل الشائع هو المتعدي! علاوة على أن أشعل لفظة أقرب للعامية منها للفصحى!
كما أخطأ خطأً شنيعاً، عندما جمع كلمة (أُم) للعاقل على (أُمّات) لغير العاقل، في قوله:
فأنشبوا حيثُ لاقَوا، لا تُرَوَعُهُمْ عمّا أراغوهُ أُمّاتٌ وأطفالُ!
والصواب: كلمة أمهات، فلقد جمع غير العاقل، للعاقل! وما الصلة المعنوية بين الكلمات(أنشبوا، ولاقوا، ولا تروعهم، وأراغوا؟) لا شك أن شاكر يجمع مفردات كلامه مثلما يجمع حاطب ليلٍ!
وقوله أيضاً:
تصاممتِ عن قلبي ورُمتِ مَساءتي وتنتظرين الحُبَّ انتظري بُغضي!
وهذا خطأ، فالصواب أن ترِد همزة انتظري همزة قطع، لا وصلٍ، وهو خطأ عروضي.
وليست معرفة العَروض كافيةً لإبداع الشعر، لأنَّ خلو كلام شاكر من الموسيقى الداخلية والخارجية، وانعدام التجانس بين مفرداته، ومحدودية خياله، فضلاً عن انعدام العاطفة، يعني انعدام شاعريته!
وفي مقالٍ مجهول للدكتور طه حسين تعرَّض فيه لديوان القوس العذراء، من طرْفٍ خفي، فقال: "هذا كلامٌ ليس من الكلام، وظني أنه ليس شعراً ولا نثراً، وهو أدخل في باب الطلاسم والألغاز"!
وذات مرة؛ سُئِلَ الناقد سيد قطب عن شعر شاكر، فقال: "هذا الرجل ضلَّ طريقه إلى العصر الحديث، وكان الأَوْلى به أن يعود إلى العصر المملوكي"!
وقال العلاَّمة الدكتور/ حسين مجيب المصري: "من الظلم أن نسمِّيَ ما يكتبه شاكر شعراً".
وقال عن شعر شاكر .. العلاَّمة الدكتور/ شوقي ضيف: "لا أدري؛ لمن يكتب شاكر هذا الكلام؛ الذي خلا من الشاعرية، ومن الموسيقية، ومن المواءمة مع الواقع"!
ويؤكد الناقد/ نزار يوسف أن "شعر شاكر عبارة عن تكرار، واجترار لأساليب ومضامين السابقين، كما هي، من دون أية إضافة أو تطوير، وأنه لم يَعِشْ العصر الحديث بلغته ومُستحدثاته وقضاياه، بل إنه تغرَّب في الماضي البعيد، وجنح-عمداً- إلى الإغراب والجمود"!
إنَّ الخطأ الذي وقع فيه شاكر وأمثاله من السلفيين المُتقعِّرين؛ أنهم ظنوا أن (الشاعرية) هي التنقيب عن المفردات الشاذة، والبحث عن غريب الألفاظ ومجهولها! فجاءوا بكلامٍ هجينٍ، من شأنه أن يخلق الاضطراب والارتباك في عقل القاريء-كما يقول النقاش- وينشر التفكك في اللغة وألفاظها، ويشوه ذائقة اللغة وجمالياتها، ويؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل الثقافة والأدب إلى نباتات مخلوعة من الأرض، غير قادرة على النمو والازدهار! فليس إحياء اللغة وتجديدها؛ بمسخ أشعار السابقين؛ بل بالعصرنة، والذاتية، وإيجاد البصمة اللغوية، وإحداث الابتكار الخلاق!