مقاربة تحليلية لرواية "الخوف" الجزء الأول
مقاربة تحليلية لرواية
"الخوف" الجزء الأول
لرشيد الجلولي
عبد الرزاق اسطيطو /المغرب
تختلف الروايةعن باقي أنواع القص الفني ،في نقلها للحدث من الما ضي والحاضر إلى المستقبل ، عبررؤية استشرافية لما يتخيله الروائي ويتصوره عن المستقبل، والرواية بتعريف ستاندال مرآة تجوب الشوارع،تعكس هموم الناس، آمالهم، وأحلامهم،وهي مجال لتعدد الشخصيات، وبالتالي تعدد الأصوات والرؤيات والإيديولوجيات والمواقف،و يرى عبد الرحمان منيف بأن الرواية" تتمتع بالقدرة على التقاط المسكوت عنه في الخطاب السياسي والإيديولوجي وبالقدرة على رصد التحولات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية للمجتمعات" 1
لذلك فالرواية تحتاج إلى ثراء معرفي من أجل بنائها. أساس هذا الفهم انبنت وتشكلت رواية "الخوف " ،وخرجت إلى الوجود،حيث استثمر مؤلفها ،وفق شروط وأصول الرواية الحديثة،مخزونه الروائي،ومعرفته بمجموعة من العلوم الإنسانية وكذا تجربته الشخصية ومعاناته الطويلةمن العطالة،وعشقه المبكر للرواية الأجنبية والعربية،بأسلوب روائي مشوق بعيد عن أسلوب السيرة الذاتية وأسلوب الرواية التاريخيةوالتقليدية،في بناء روايته المعنونة ب"الخوف" العنوان الذي يفرز معه مباشرة بعد قرائته سؤال الخوف من ماذا؟.
رواية الخوف إذن تنضاف بتميزها إلى سلسلة الروايات الحديثة، التي عملت على توسيع أفق اشتغال شخصية البطل كمكون روائي، بجعلها من تيمة الخوف في هذه الرواية بطلة، عبراحتلالها لكل مساحة القص الفني ودفعها لباقي مكونات الروايةإلى العمل على إضائتها،والتعريف بها، كحالة نفسية وانفعال غريزي،لها وظيفة ذات علاقة مرتبطة بالوجود الإنساني،تحدث غالبا بإثارة سلبية محددة،مما تؤدي بالشخص إلى الهجوم على مصدر الخطر، كما عبرت عنه الرواية بالحروب الإستباقية،بداعي محاربة الإرهاب.يقول السارد"ألم تتعرفوا على هوية هذا الذي يقف خلف كل هذه المآسي؟هذا العدو هوالإرهاب" 2 أوتجنبه بمحاولة النسيان "أسعدته حكمة النسيان هذه"3 .
وبالتالي تصبح رواية "الخوف " بجعلها من تيمة الخوف بطلة لها ،شاهدة على سلسلة التحقيرات التي مست شخصية البطل عبر تاريخ الرواية الحديثة وهو ماعبر عنه باخثين بقوله"الفكرة أشبه بالبطلة"4 .
ويرى بافيس أن التاريخ الأدبي ليس إلا سلسلة متلاحقة من للبطل. declasmentالتحقيرات
مما دفع آلان روب غرييه إلى القول" بأن الرواية اليوم آيلة للسقوط فقد تخلى عنها سندها الكبير البطل"5.
تبتدىء روايةالخوف من حيث ينبغي أن تنتهي باعتماد تقنية "الفلاش باك " يقول السارد"عندما انتهت الحرب في هذا الوقت، وفي هذه الساعة،وبينما كان ظلام الغربة يرخي سدوله على الأرض،كان عيسى ابن عبد الله قد تحول إلى كلب " 6 ،فمسخ عيسى وتحوله إلى كلب مع بداية الرواية وفي نهايتها يحيلنا مباشرة إلى المسخ عند كافكا كاحتمال ممكن أن يمس الكينونة والكائن،وإلى الثراث العربي القديم ونوادر الجاحظ،مثال قصة الشيخ عروة بن مرتد مع كلب حسبه لصا،حيث اعترف عروة في النهاية
قائلا" الحمدلله الذي مسخك كلبا وكفاني منك حربا"..
تجمع رواية الخوف في أحداثها بين الواقعي، أحداث عاشها سكان عين الجسرسنة 1981 و1984 والغرائبي ،الذي أحداثه وأمكنته وأزمنته وشخوصه ولغته، كلهامن إبداع خيال الروائي،التي تتفجروتتوالد في تمرد واضح عن الخطوط المرسومة مسبقا للرواية،عن طريق ما يسمى ب ب"متارواية" ،فاستثمار الغرائبي والأسطوري،واعتماد لغة الترميز والغموض، وخلق أماكن وأزمنة وشخصيات وأحداث هلامية، هي حيل يلجأإليها الروائي غالبا بغير قصد تؤدي إلى خلق رواية حديثة بعيدة عن جنس السيرة الذاتية والرواية التاريخية،كما أن هذه الحيل تساعد على التمويه والتخفي ،الشيء الذي يدفع بالقارئ إلى المشاركة في بناء الرواية وفك الغموض عن الغرائبي والرمزي فيها..
فبأي لغة سردية إذن عبرت الرواية عن هذا الغرائبي؟
زاوجت رواية الخوف للروائي رشيد الجلولي في بناء فنيتها وأبعادها الدلالية بين مستويين من اللغة،المستوى الأول انبنى على لغة سردية شاعرية رقيقة وواضحة ومعبرة، تعطيك نفسها من أول وهلة يقول السارد"وحتى الريح بدت أليفة جدا وهي تهز الستائر بلطف وتبعثر الأوراق والجرائد والصور على الزليج"7 المستوىالثاني جاءت لغته غامضة ومتمنعة تحتاج إلى قارئ ماهربتعبير . تدروف .والإنتقال بالحكي من الواقعي إلى الغرائبي يرافقه بالضرورة انتقال للغة من المستوى الأول إلى المستوى الثاني الذي يحتاج إلى قدرة على التأويل يقول السارد" رفع عيسى رأسه إلى بحر العذراء"8.
فأحداث رواية الخوف تنبثق عن حدثين أساسين عاشهما سكان عين الجسر"القصر الكبير"،شمال المغرب سنتي 1981 و1984شبههما الروائي بحالة الحرب بشكل استشرافي وتمويهي بعدم التأريخ المباشر للحدث وتحديد طرفي المواجهة وبجعل أحداثها تتداخل مع حروب سابقة الحروب العالمية، وحروب لا حقة ،غزو العراق والحرب التي شنها الصهاينة على قطاع غزة،والحرب الدائرة لحد الآن بأفغانستان تحت يافطةمحاربة الإرهاب.بل أكثر من ذلك هو التشابه الكبير بين أحداث الرواية والثورة . في تونس التي أدت إلى سقوط نظام بن علي ،ومن بعدها الثورة المصرية التي أدت إلىسقوط نظام مبارك.
كما لو أن عيسى الشخصية الرئيسةفي رواية "الخوف" هو البوعزيزي والبوعزيزي هو عيسى،فهما معا معطلان شاءت الأقدار مع الوقت أن يتحولا إلى بائعين للخضر على عربة مجرورة ،تحاصرهما أدوات القمع من كل ناحية ، وعلىأساس رفضهم واحتجاجهم تقوم الثورة على الإستبداد،كما لو أن الروائي تنبأما سيحصل مستقبلامن ثورات عربية،يقول السارد"تبين أن جورش بوش،حامل قناع الحرية،الخائف من الفناء،والمتعطش للخلود،في قوة المال والسلاح"9 ويضيف السارد"وهو نسخة ثقافية مغايرة لرجل اسمه ابن لادن"10
فمأساة عيسى ماهي إلا تجسيد لمأساة المثقف العربي في وطنه، والتي شبهها الروائي بمآسي الحروب،لتشابهها في القسوة والعنف والخسائر والبشاعة،وربما مأساة عيسى أشد فتكا من ما تصنعه الحروب بالإنسان.
ذلك أن عيسى دائما تنتهي حروبه ضد الواقع والآخر بالخيبة والألم،فهو عاطل عن العمل وخائب سياسيا وعاطفيا بغياب أوكتافيا،وصراع عيسىضد إكراهات الواقع بما يحمله بداخله من أحلام وطموحات وأفكار وتصورات،شبيه بالصراع الذي يدور أثناء الحرب،والذي وجد عيسى نفسه مجبرا علىدخوله"لنمضي معا نحوالحرب الكبرى"11والتي يعرف مسبقا أنه الخاسر فيهامما يجعله في النهاية يحتمي كنوع من الهروب بالنسيان، عبرالسكر أحياناوعبراسترجاع ذكرياته "النوستالجيا"مع أوكتافيا وصديقه العجوز أحيان أخرى حتى لا ينتهي به الأمر إلى الجنون أو الإنتحار أو ردهات السجون،يقول السارد"ومع ذلك كان يعرف أن حصار السجن لا يختلف عن حصار الحرب في شيء"12
إن الإنتقال باللغة والحدث من مستوى واقعي إلى مستوى غرائبي"متخيل" هو انتقال من الكائن إلى الممكن،بانتقال أحداث الرواية بفضاءاتها وشخوصها من حدود العقل والتصورإلى "الغرائبي"بأحداثه وفضاءاته وشخوصه الهلاميةوذلك باستثمارالأسطوري"أسطورةالفنيق" و"المسخ "واعتماد تقنيةالمحاكاة"الساخرة "بقلب الحقائق والأحداث والفضاءات والملفوظات، حيث يتم في ظلهاإ فراغ اللغة من حمولتها الدلاليةالمتداولة،وملئهابحمولة لغة اللامنطق واللامعقول،لغة الهذيان،ولغة الكوابيس،والوهم،والجنون،وبالتالي الإنتقال من التعقل إلى الجنون.يقول السارد "مجرد اوهام وتهيؤات تحدث في ذهن كائن هو نفسه مجرد وهم" 13
فعبر السارد والشخصية الرئيسة عيسى نكتشف أن الرواية تدين هذا العنف المزدوج عنف الواقع بمظاهره المختلفة"التهميش،الفقر، البطالة، التخلف،..."وعنف الحروب"القتل،الدمار،النزوح ،التشرد..." وذلك بوعي عيسى كمثقف بالأسباب الخفية التي تؤدي إلى هذا العنف، وبرفضه وإدانته لها،ومن هذه الأـسباب التي تنضاف إلى الخوف بالفطرةخوف الحكام على عروشهم،وخوف الدول العظمى على مصالحها ،خاصة منابع النفط،،مما يؤدي إلى فرض الهيمنة والتبعية الإقتصادية ومعها السياسية بالقوة،وهو ماعبرت عنه بشكل جلي رواية سابقة عن رواية الخوف وهي رواية "سباق المسافات الطويلة "لعبد الرحمن منيف.وشخصية عيسى،شبيهة بالشخصيات الروائية لعبد الرحمان منيف،كشخصية رجب في رواية"شرق المتوسط" وشخصية علاء السلوم في رواية "عالم بلا خرائط "بالإشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا،فالأفكار والرؤى والأحلام والمواقف التي يتبناها عيسى ويدافع عنها بشراسة،ويضحي من أجلها هي نفسها نجدها عند شخصيات منيف،وكذا المآل الذي آلت إليه هذه الشخصيات في النهاية"الخيبة السياسية والعاطفية،والعودة إلى الكتابة والشعر والرواية،وهو نفس المآل الذي آل إليه عيسىفي رواية الخوف ،يقول رجب لأخته أنيسة في رواية "شرق المتوسط"أفكر أن أكتب أشعارا وروايات"14ونقرأفي رواية "الخوف"بل إنه صار واثقا أنه سيعود بعد سنتين أو ثلاث،لقول الشعر وإبداع الفلسفة،وسيخوض جدالات مسليةمع الأصدقاء والخصوم"15
فإيديولوجيةعيسى ذات المنحى الإشتراكي.الماركسي ،يقول السارد"حب يرتكزعلى مجموعة مفاهيم تمزج بين التحليل الماركسي والرؤِية الوجودية"16 والتي هي نفس إيديولوجية مثقف منيف،يدافع عنها عيسى حد التضحية وشن الحرب من أجلها،ذلك أن الإيديولوجية هي أقرب إلى الميثولوجيا في سحرها وامتلاكها لفكر ووجدان الإنسان بحيث تقود صاحبها إلى الإعتقاد الوثوقي وبالتالي اتخاد مواقف دفاعية عن هذا المعتقد والتضحية من أجله،كما أنها داخل الرواية تولد بالضرورة إيديولوجيات معاكسة لها،وعن هذا الصراع الإيديولوجي يتعدد الخطاب، ويصبح للرواية حبكة وللشخصيات صورة،وأثناء هدا الصراع وعبرالسارد والشخصية الرئيسة نجد عيسى يضفي على ذاته صبغة مثالية، وعلى الآخر صبغة شيطانية،فالاختلاف الإيديولوجي، الحرب ضد إكراهات الواقع ،الحرب ضد إيديولوجية الإمبريالية الإستعمارية،الحرب ضد تخلف المجتمع. يعد منبع الصراع داخال الرواية ومنبع المتعة والإثارة والتشويق فيها،وفي خضم هذا الصراع يقتل ويبعث عيسى ألف مرة (الحصار،الإعتقال،التعذيب،التهميش،القلق،الألم..."هذا القتل يأتي في الرواية كضريبة يؤديها عيسى" رمز النبوةوالرسالة والصبر والتحمل" المثقف العضوي بتعبير غرامشي على تمرده على الديكتاتور"سفيان الدوادي" .يقول السارد"حيث الدمار الوحيد الواضح للعيان هو دمار التهميش"17
إن رواية" الخوف" لرشيد الجلولي بتناولها للمسكوت عنه،من أحداث تاريخية، وباستشرافها للمستقبل "عربيا"،تسجل عبر السارد وعبر شخصياتها وعبر الرواية في كلتيها موقفهامن الحالةالمزريةالتي آل إليها المواطن العربي في ظل أنظمة استبدادية ،وتدين في نفس الوقت هذا الظلم والاستبداد ،في قالب حكائي"روائي" هادف وممتع في نفس الوقت.
الهوامش
1 " الكاتب والمنفى"عبدالرحمن منيف
المؤسسة العربيةللدراسات والنشرط2
2 رواية "الخوف"ص60
3 نفسهاص 220
4" شعرية دوستويفسكي" ميخائيل باخثينص111 ترجمة جميل نصيف التكريتي
5"هواجس في التجربة الروائية"حنا مينه ص95
6"رواية الخوف"ص 11
7نفسها 170
8نفسها ص173
9نفسهاص202
10 نفسها ص202
11 نفسها ص174
12نفسها ص91
13 نفسها ص222
14 رواية "شرق التوسط"عبدالرحمن منيف 134
15 رواية "الخوف"ص219
16نفسهاص193
17نفسهاص211