مقدمة الشاطئ المجهول

مقدمة الشاطئ المجهول

سيد قطب رحمه الله

المقدمة

أعرفُ مؤلف هذا الديوان، معرفة وثيقة عميقة، قد لا يتأتى لأيّ سواي أن يعرفها! ولقد صاحبته زهاء سنوات عشر أو أكثر قليلاً، وراقبتُ خوالجه(1) وسرائره وخبرتُ اتجاهاته وميوله، وكونتُ لي رأياً عنه، أقرب ما يكون إلى حقيقته.

ولقد كان يَشْجُرُ بيننما الخلاف على كثير من الخوالج والقصائد، ولكنا كنا نلتقي عن قريب أو بعيد، إلا أمراً واحداً، لا نزال مختلفين فيه أشد الاختلاف.

ذلك أنه راض عن مجموعة هذا الديوان، أما أنا فلست راضياً عنه إلا بمقدار، وما أزال أتطلع إلى مثُلٍ عليا، كما آخذ عليه بعض أنواع الضعف والخطأ، وما يشبه الضعف والخطأ في بعض الأفكار وبعض الألفاظ!

وفي هذه المقدمة، سأستعرض آراء الشاعر واتجاهاته، ثم أذكر مآخذه وعيوبه، محاولاً ألا تؤثر صحبتي الطويلة له، والصداقة العميقة بيننا، في تحليلي لديوانه!!

الشعر والنظريات العلمية والفلسفية

في الفصل الأول من هذا الديوان، وفي كثير من قصائد الفصول الأخرى، تطالع القارئ، نظريات علمية وفلسفية كثيرة، ولكنها لم تحتفظ بسمتها(2) العلمي وشخصيتها المحددة، بل استحالت صورة من صور الشعر، فيها موسيقيته وعليها مِسحته، ولها سحنته(3).

وليس هناك عداء بين الشعر وبين الفلسفة والعلم، فليس الثلاثة أنداداً(4) حتى يَشْجُرَ بينها العداء!

إنما الشعر أوسع مجالاً من العلم، ومن الفلسفة أيضاً، ولن يعسر عليه، حين يبلغ حداً مناسباً من النضج، أن يلتهمهما جميعاً، ويعتصرهما دماً، ويتمثَّلهما غذاء، يقوي من بنيته، إن لم يحس بوجوده!.

ولن ننكر على الشعر إلمامه بالحقائق العلمية والفلسفية فيما يلمّ به من حقائق أخرى تناسب طبيعته، إلا إذا قصرنا طرق المعرفة على القوى الواعية في الإنسان، وهذا مبدأ لم يسلم من المآخذ، حتى في أكثف العصور مادية، وكثير من مدارس السيكلوجية(5) الحديثة، تحسب للقوى المجهولة في النفس الإنسانية حساباً كبيراً، وفي مقدمتها (مدرسة التحليل النفسي).

وهأنذا ألخص بعض هذه المسائل، التي تعرض للقارئ في هذا الديوان، والتي أدركها الشاعر بالإحساس والتأمل تارة، وبالاستغراق والتجرد تارة، فالتقت بعد ذلك بنظريات علمية وفلسفية مقررة، واتفقت معها، أو اختلفت، لأنها لم تتقيد بها، ولم تأت عن طريقها وحده.

الجسم والعقل والروح:

القول بالتباين بين الجسم والروح، قديم متداول في الفلسفة القديمة، والشاعر ميال إلى الأخذ بالروح العامة لهذه الفلسفة القديمة، وإن لم يأخذ بنصوصها في الفصل بين هذين العنصرين، لاعتقاده بوحدة الوجود.

وبالتحديد يرى أن هناك شيئين متميزين جسماً وروحاً ولكن بينهما اتصالاً..

أما ما يستحق الالتفات فهو أنه يفرق بعد ذلك بين القوى العقلية، والقوى الروحية في الإنسان، وبتعبير أدق بين القوى الواعية، والقوى الملهمة –وليست هي الغرائز- القوى المجهولة الكنه والوظيفة، والتي تعمل دون شعور بها، للسمو بالإنسانية.

 ويرى أن العقل يستطيع أن يكفل للإنسانية حياتها اليومية وما يقرب منها، ولكنه يقصر عن اتصالها بالمثل العليا الغامضة، وبالعوالم المجهولة، كما يقصر عن إدماجها في الوحدة الكونية الكبرى، وبالحقيقة الثابتة المتصلة، التي تبعد عن الفواصل من أمثال (قبل وبعد.. ماض وحاضر ومستقبل أنا وغير).. إلخ.

وفي قصيدة الشاطئ المجهول، وهي أولى قصائد الديوان تفصيل لهذا البحث، كما أن فيها ظاهرة أخرى، وهي عدم ثقة الشاعر بالقوى الواعية، وشدة إيمانه بالروح وما يتصل بها من بداهة(6) واستغراق، وتجرد وصوفية.

لقد  حَجبَ  العقلُ  الذي  نستشيرُه        حقائق جلّت عن حقائقنا الصغرى

هنا عالم الأرواح فلنخلع الحجا(7)        فنغنمَ  فيه الخلدَ والحبَّ والسحرا

الجسم والزمن والوحدة:

القوى الروحية – عند الشاعر- هي التي تربطه بالوحدة الكونية الكبرى كما تقدم، في حين تقصر القوى العقلية عن ذلك، وهو يرى أن الشعور بالزمن، نتيجة لوجود الجسم والقوى الواعية، وأن الروح تحس بالوجود المطلق، لا يقيده الزمن، وبالبداهة لا يقيده المكان.

ولذلك فهو حينما خلع الجسم وخلع الحجا في الشاطئ المجهول رأى أن ليس هناك (حيث) ولا (أمس) ولا (اليوم) ولا (الغد) ولا (غير) ولا (أنا)... إلخ.

ولكنه رأى الأزمان كالحلقة الكبرى ورأى (الوحدة التي احتجبت سراً)، وكذلك في قصيدة الليلات المبعوثة حين تجرد لم ير للزمان معلماً ولا رسماً ورأى كل شيء كرمز للدوام.

وقد يكون لهذا الإحساس علاقة بنظرية النسبية لأنشتين، كما قد يكون له علاقة بنظريات التصوف الإسلامي، ولكنه الإحساس المستقل للشاعر، الذي يشعر به، ويكرره في كثير من قصائده.

ويبدو شعوره بالوحدة الكونية بشكل واضح في (قصيدة الإنسان الأخير) حين يستيقظ والكون قد خلا من الأحياء.

ففي نفسه ما يشبه الموت سكرة        ومن  حوله  صوت نمته المقابر

وفي نفسه  من  مثلها  كل  ذرةٍ        فهاتيك أشلاء وهذي خواطر(8)

وفي قصيدة (خبيئة نفسي)(9) إذ يقول:

خبيئة نفسي في ثناياك معرضٌ        لما   لقيته  الأرضُ  في  الجَوَلانِ

وإنك  طلسَم   الحياة   جميعها        وصورتها الصغرى بكل مكان(10)

ويبدو شعوره بوحدة الإنسانية، في مواضع كثيرة منها أن يجعل الإنسان الأخير يحاول كشف أسرار الغيب إكمالاً للجهاد الإنساني لهذه الغاية:

فيا ليته يدري بما خلف ستره    فيختم سِفْرَ الناس في الكون ظافرُ(11)

وفي قصيدة (التجارب) يبدو إيمانه بوحدة الشعور، فقد صور شقيّاً وهب ماضياً سعيداً، فلم يطق عليه صبراً، وعاد ماضيه الشقي توحيداً لشعوره!

الإحساس بالزمن، ومحاولة الخلود

تبدو ظاهرة، تستحق الالتفات في شعر هذا الديوان، فكثير منه، يدل على إحساس متيقظ بالزمن ومروره والأسف على انقضائه، والتنبه إلى قصر الحياة ومحاولة خلودها أو امتدادها على الأقل.

ويملأ الإحساس بالزمن كثيراً من فصول الديوان المختلفة، ففي فصل (الظلال والرموز) يبدو هذا الإحساس على أشده في قصيدة (البعث):

هكذا  عشتُ   كسكان القبور        في ربيع العمر، في العهد النّضرْ

آهِ لو أسطيعُ للماضي الحسير        رجعةً، من بعد ما جاء ومرْ(12)

كنتُ أحييه  كما يحيا الشباب        نابضاً  بالحب،  جياش  الأماني

ممسكاً أهدابه خوفَ الذهاب!        مستعزاً فيه  حتى  بالثواني(13)

وفي فصل (الصور والتأملات) تجده جازعاً أسفاً على أنه مر يوم من حياته.

لم تكن فيه حياةٌ أو أمل=أو تمتُّعْ

وهو محسوبٌ علينا في الأجل= فهو أضيَع

وكذلك تجده ينادي ليلات الريف في لهفة (إيه ليلاتنا، اخلدي، لا تغيبي)!.

وفي فصل الغزل والمناجاة تجده يتحدث عن الحياة الغالية فيقول:

واليومَ  آسفُ للدقائقِ تنطوي        من عمري الغالي الثمين الطيبِ

واليومَ أرقُبها وأرقبُ خطوها        فأعيشها   مثلين   بعد   ترقبي!

وفي مواضع أخرى كثيرة.

وليس غريباً أن تلمح اعتزازه بالماضي وأسفه عليه متفشياً في معظم فصول الديوان، فهو تتمة لهذا الإحساس الغريب بالزمن.

 وهو لهذا يحاول الخلود، ويسلك إليه طرائق شتى فتارة يعتصم بالحب:

وغناءٌ عن الخلودِ غرامٌ        هو رمزٌ ووصلةٌ للبقاءِ

وتارة يلجأ إلى الريف، لأن مظاهر الدوام والاستقرار فيه، تخفف حدة الشعور بمرور الزمن:

يا ريفُ فيك من الخلود أثارةٌ    تنسابُ في خَلَدي وفي أوهامي(14)

فإذا أعياه ذلك، وأعيا طبيعة الخلق، فهو يتعزى بأخيه، ويهدي إليه الديوان لأنه امتداده في الحياة:

تمنيتُ  ما  أعيا  المقاديرَ إنما        وجدتُكَ رمزاً للأماني الصَّوادفِ

فأنت عزائي في حياةٍ قصيرة        وأنت امتدادي في الحياةِ وخالفي

المجهول:

يملأ الشغف بكشف (المجهول) والحديث عن (السر) حيزاً كبيراً من الديوان، ويمد جناحيه على حيز آخر، ومن هنا جاء اسمه.

ولعلها محاولة من محاولات الخلود، أو تعميق الحياة وتمديدها، بمعرفة عوالم ومصائر مجهولة، يضيق الجهل بها أفق الحياة.

أم لعلها نتيجة للفصل بين أجزاء الكون والحياة، لهذا الجسم الذي لابد له من الفواصل والحدود مع شوق القوى الروحية، إلى العوالم المجهولة، التي حجبها الجسم والقوى الواعية.

وعلى أي حال فالحديث عن المجهول يأخذ صوراً متعددة، ويشغل مكاناً كبيراً من اهتمام الشاعر، حتى لقد يلح عليه في فصل (الغزل والمناجاة) في قصائد كثيرة.

ملكة التصوير وروح القصص:

يتبين للناقد، أن الشاعر في هذا الديوان، يقف موقف المصور في كثير من القصائد، حتى لا تكاد تخلو قصيدة من تصوير.

وقد يزيد على الصورة الصامتة في كثير من الأحيان حركة نابضة، والأمثلة على ذلك في (الشعاع الخابي، وخراب، والصحراء، والإنسان الأخير، وخريف الحياة، والجبار العاجز، وناحت الصخر) لا بل الأمثلة هي هذا الديوان كله، فهو متحف صور، قبل أن يكون قصائد شعر!

ولكن أي تصوير؟

إنه التصوير الهادئ، الغامض، فالهدوء والغموض هما اللذان يثيران في الشاعر خاطر التصوير، بل خاطر التعبير، وهو يهرب من الضجة كما يهرب من الوضوح، فإذا اضطر لملابستهما، فهو يعيش فيهما، ولكن لا يعبر عنهما.

ولقد لاحظت أن ألوان ملابسه جميعاً تتفق مع هذا الميل، وكذلك ألوان الأزهار التي يألفها، والمناظر التي يفضلها.

وهو مصور حسّي في بعض الأحيان، كما قد يصور الحركات الفكرية ويجسمها، أو الخواطر النفسية، ومنها ما يحول في نفسه هو، فتعجب لهذا (الوعي الفني) الذي يستطيع مع تصوير خلجات نفسه تصوير (المنتبه) لها في حركتها الداخلية المستمرة كما في (خبيئة نفسي، والنفس الضائعة، والغد المجهول، وغريب) وسواها.

وكذلك تجد روح القصص واضحة ومتفشية في كثير من المواضع، وهو يرمز للفكرة بقصة صغيرة، أو حوار كما في (التجارب) وفي (الصحراء) أو يجعل بعض القصيدة قصصاً، لتصوير موقف من المواقف.

موسيقية الديوان:

منذ عهد قريب جداً، كشفت عن ظاهرة تستحق التسجيل، ذلك أن لوناً من ألوان الموسيقا، يتفشى في هذا الديوان كله، على اختلاف أوزانه وموضوعاته.

ويجب قبل الحديث في هذا، أن أذكر أن موسيقا القصيدة، غير وزنها.

فالوزن يتحقق بأي الألفاظ، ولكنّ الموسيقا، كما تعتمد على الوزن، تعتمد على الألفاظ والتراكيب الخاصة.

هذه هي الموسيقا السمعية، ولكن هناك موسيقا أخرى أرقى، وهي الموسيقا الفكرية، ثم الموسيقا الروحية.

وتتحقق الأولى بالوزن والألفاظ، والثانية بتسلسل الفكرة وتلاؤم أجزائها، والثالثة بالجو العام الذي يحس به القارئ للقصيدة، وما من شك في أن جواً نفسياً خاصاً يحف بالقارئ دون أن يحدد أسبابه.

وهذه الموسيقا الروحية هي التي أعني أنها واحدة في الديوان، وهي من لون واحد، لون الموسيقا الصعيدية! موسيقا أولئك (الصعايدة) الغرباء، وهم يرتلونها في نغم رتيب، فيه شجو(15)، وفيه ألم، وفيه حنين، ولكن فيه كذلك رجولة وخشونة وروعة.

وتعليل هذا من الوجهة العلمية سهل، ونظرية (العقل الباطن) تفسره فقد اندست(16) هذه الألحان في نفس الشاعر وهو طفل في (موشا) وهي قرية من قرى أسيوط وهو يقول عن هذا الريف:

إني  فقدتكَ  في  الطفولة غافلاً        عما حويتَ من الوجود السامي

لكن وجدتك إذ كبرتُ بخاطري        رمزاً  أحيط   بغمرة   الإبهام

التعبير:

تبدو في هذا الديوان صورة واضحة للتعبير الدقيق المصور للأفكار، وأضرب مثلاً لذلك بقصيدة (في الصحراء) فهناك نخلة ملت الحياة التي لا تعرف سرها (يرمز بها إلى الأحياء جميعاً) فهذه النخلة تقول لأختها:

منذ ما أُطلعتُ في هذا الخرابِ     وأنا أسألُ: ما شأني هنا؟

ولو قال: (منذ ما طلعتُ) لذهبت قيمة التعبير المصور لحالة هذه النخلة التي أرغمت على الحياة (فأطلعت) دون إرادتها ولم (تطلُع) هي بمشيئتها.

ومثل هذه الدقة كثير في الديوان إلا أن هذا لا ينفي أن هناك ضعفاً في بعض التراكيب، وخطأ في بعض الألفاظ وإن تكن معدودة.

والذي يستحق التنبيه أن هناك جرأة في الاشتقاق، قد تؤدي إلى الفوضى، وقد يستغلها العاجزون في اللغة استغلالاً..!

خاتمة:

وبعدُ: فهناك مباحث طويلة عن بقية فصول الديوان لا تتسع لها المقدمة ولاسيما فصل (الغزل) وفصل (الوطنيات) أتركها للقراء.

                

الهوامش

(1) خوالجه: خواطره ونزعاته.

(2) السمت: الطريقة.

(3) السحنة: الهيئة واللون.

(4) النِّد: المثل والنظير.

(5) السيكولوجية: علم النفس.

(6) البداهة: أول شيء، وما يُفحأ منه.

(7) الحجا: العقل.

(8) أشلاء: مفردها شلو، والأشلاء: أجزاء الجسم بعد الموت والبلى.

(9) خبيئة: المخبوء.

(10) الطلسم (في علم السحر): الشيء الغامض.

(11) السّفر: الكتاب.

(12) الحسير: المنصرم.

(13) أهدابه: أطرافه.

(14) الأثارة: البقية.

(15) الشجو: الحزن.

(16) اندست: دخلت في خفاء واستتار.