رحلة عبد الغني النابلسي إلى بيت المقدس
د. حسن الربابعة
قسم اللغة العربية
جامعة مؤتة
عنَّ لي أن ادرس ملامح عن رحلة عبد الغني بن اسماعيل بن عبد الغني النابلسي (10501143ه) إمام العلماء الصوفيين في عصره بعد أن نشرت وزارة الثقافة الأردنية مشكورة رحلته في كتاب ، عنوانه "رحلتي إلى بيت المقدس ،للشيخ عبد الغني النابلسي ،وزارة الثقافة (الأردنية)مطبعة السفير ،عمَّان ، الأردن ، ط1، 2009م " وقد ضمَّ الكتاب المذكور (92) ثنتين وتسعين صفحة من القطع المتوسط ؛ما يتسع لاثنين وعشرين بيتا من الشعر كما هو في نهاية كتابه، وقد ختمه بقصيدته الميمية الساكنة على إيقاع مجزوء الوافر التي بها وصف حركاته وسكناته، في رحلته من دمشق إلى فلسطين وخصَّ القدس بها لأنها أم المدن ورئيستها وسيدة بلدان بلاد الشام .
لقد أرَّخ لبدء رحلته معتمدا الزمان والمكان وأصدقاء له رافقوه في رحلته التي بدأت من دمشق إلى فلسطين واستمرت(44) أربعة وأربعين يوما ،فماذا كان في رحلته؟ وما أبرز ما اجتناه ؟وكيف يوثَّق هذا العالِمُ الفذُّ لرحلته ؟
أمَّا اعتماده على توثيق الزمن المتحرك فركنٌ أساس في رحلته،ذلك قوله في يوم الرحلة الأول "كان خروجُنا من دمشق بكرة نهار الاثنين السابع عشر من شهر جمادى الثاني سنة إحدى ومائة وألف "ص(5) ، ثمَّ يعتمد في رحلته توثيق أيام رحلته الأربعة والأربعين التي مضت من عمره في رحلته في ذهابه وإيابه؛ فها هو يذكر بدء رحلته من دمشق الشام، ويحدد منتهاها إلى القدس: (ص81)
فَسِرْنا من دمشقِ الشام سيرَ المُعْربِ المُعجمْ
إلى القدسِ الشريفِ القدر ذاتِ المنظرِ الأفخمْ
كما يحدِّد زمان عودته إلى دمشق يوم الأربعاء ؛ أول يوم من شعبان المبارك سنة إحدى ومائة وألف (ص81)وأرَّخها في حساب الجُمَّل وهو فنٌّ كان في عصره فيقول(ص87) :
ونلنا فضلَهُ أرِّخ "برحلة قدسه الأكرم "
وقد فرغ من تصنيف كتابه في اليوم التاسع من ذي الحجة سنة 1101ه(حاشية ص87)، وحساب الجُمَّل طريقة يستخدمها المنجِّمون إذ بها يستبدلون الحروف بالأرقام؛ طبقا لتركيب حروف أبجد هوز00، وقيمة كل حرف أبجدي رقم حساب يمكن أن يدرس في مادة الأبجدية "أ" وكان يقدَّم للتاريخ بقوله "أرِّخ" شان عبد الغني النابلسي رحمه الله ويؤرِّخ هجريا والتاريخ في مصراع بيته الثاني(الدكتور حسن الرَّبابعة "عائشة الباعونية شاعرة ،دار الهلال للترجمة، اربد 1997م ،بدعم من وزارة الثقافة( الأردنية )، ص223، حساب الجمَّل "
ويحدِّدُ هدفَ رحلته في شعره ،إذ لم يذكرها في بداية رحلته نثرا ، إذ كانت رحلته من شعره في سبيل الله، ولزيارة أنبياء الله وأوليائه فيقول )ص81)
وباسم الله سافرْنا وعُدْنا باسمه الأعظم
وزرنا الأنبيا والأوليا من جاههم يخدم
وما إن يبدأ رحلته من دمشق، حتى يذكر كثيرا من المواقع الأثرية والدينية في دمشق؛ ربما تصلح أنْ تدوَّن ذاكرة تاريخية لمدينة دمشق، ولا ادري إن كانت وزارتا الشؤون الدينية والسياحة في الجمهورية العربية السورية الحبيبة، قد وثقت هذه المواقع التي يذكرها النابلسي في يومه الأول في دمشق؛ منها الجامع الأموي وضريح سيدنا النبي يحيى في داخله ،وقبر بلال الحبشي ،ومقام السيدة زينب ،وقبر أحمد السروجي ،وقبر والد عبد الغني وجده عبد الغني ، مما يدلُّ على عراقة سكنه في دمشق ،وحدَّد موقع بعض قبور الصالحين نحو قوله "ثم ذهبنا إلى جهة الباب الشرقي يعنى من قلعة دمشق، (وفيها اليوم المسجد الأموي )،وزرنا قبر أبي كعب الصحابي "(ص5)ويقول وزرنا قبر ضرار بن الأزور الصحابي وقبر خولة بنت الأزور أخته"(ص56) مما يجدر بوزارتي المقدسات الدينية في كل من سوريا والأردن أن ينسقا في ما بينهما لتوثيق معارفهما الدينية في كلٍّ منهما ، ذلك أنَّ قبر ضرار بن الأزور في غور أبي عبيدة دير علا و يقع على بعد نحو كيلومترين إلى الجهة الجنوبية الشرقية من ضريح أمين الأمة عامر بن الجراح رضي الله عنه وعن جميع صحابة نبينا الكريم ، وإذا قرأنا في ترجمة ضرار رضي الله عنه فيقال عنه :"انه استشهد في اليمامة بعد أن قطعت ساقاه،ووطئته الخيل، كان ذلك سنة 11ه "انظر ترجمته عند الزِّركلي ، الأعلام ،دار العلم للملايين ،بيروت ،ط5،1980م ،مجلد3/215) وقيل استشهد أو مات في غيرها، وعلى ذلك فقبره ليس مؤكدا في ضوء ما أشرنا إليه، ولما كان النابلسي قد ذكر قبره في دمشق قبل ثلاثة قرون سلفت، فقد يؤخذ برأيه إلا أن يُبْطَلَ بدليل غيره ، وذلك لاهتمام النابلسي، وهو الولي لله في ما قيل فيه، ولاقتصاره رحلته على زيارة قبور الأنبياء والصحابة والأولياء والصالحين .. وما قصدي التهوين من إكباري وزارة الأوقاف الشؤون الدينية والمقدسات الإسلامية الأردنية، وهي ترفع قباب الصحابة بعمران ظريف، وهندسة شغوف ، يشهد له أهل الفن ، وتقام المساجد لله في مرافق له ، تنادي بالتوحيد وإكبار الله تعالى لكنَّ قصدي هو أن ينهض علماء جادُّون في البحث عن قبور الصحابة والشهداء في بلاد الشام الكبرى، وربَّما في غيرها ؛ لفحص المعلومات وغربلتها لتوثيق معلومات صحيحة يُطمأنُّ إليها ؛إذ إننا أصبحنا بأمسِّ الحاجة إليها، ولأجيالنا القادمة ، لانَّ مثل ذلك يعدُّ وثائق في ذاكرة الأيام وجداريات لا تمَّحي .،ولعل دعوة الأمير الحسن بن طلال قبيل أيام وهو العالم الفذ الموسوعي كما تشهد له مؤلفاته،ومحاضراته وفكره الخصب المتنامي ،بإنشاء كلية للعلماء في مختلف التخصصات أن تدخل في مجال البحث الدقيق في تراثنا هذا ،على أنّ هذا لا يعني عدم توافر العلماء اليوم في مجالات متعددة ؛يمكن إذا أطلق لأفكارهم العنان المعزز ماليا أن ينهضوا بالبحث والجمع والتدقيق والتمحيص والنقد والإبداع ، في جمبع مجالات المعرفة الإنسانية ومنها توثيق التراث ومثوى الصحابة الذين تشرفت بلاد الشام بفتوحاتهم ، ولكن فكرة الأمير الحسن شعلة تنطلق مؤذنة ببداية عمل منتج ومفيد ،على مستوى مؤسسي مقصود ؛ وهادف.
لقد ذكر عبد الغني النابلسي في رحلته ستَّ مدن هي دمشق(ص1) وسبسطية(ص6) ونابلس(ص8) ،والقدس الشريف(ص120) ،وحبرون الخليل(ص56) وبيت لحم(ص 70)وذكر (29) تسعة وعشرين من القرى والأمكنة،هي (سعسع ص2) والقنطرة (ص2و76)وجسر بنات يعقوب (ص3)وجب يوسف (ص3)وخان المنية (ص4و75)والناعورة (ص7)وجلمة (ص5)وجنين (ص5و75)ويعبد(ص5)وعرابة (ص6)والمخمسة (ص6)والرامة (ص6)والسيلان (ص6)واللاوية (ص6)وبرقة (ص6)وسامرة (ص8) وعورتا(ص10)وكفر حارس(ص11)وجماعين (ص11)ومردى(ص14) ،وعين يبرود (ص12)،وطور زيتا (ص43)،وطرطور فرعون(ص44) ، وسعير(ص68)وحلحول(ص69)، وبرج داوود(ص71)وقباطية (ص75).
وذكر مقامات الأنبياء وقبورهم التي زارها فبلغت (32) اثنين وثلاثين بدءا ب"مقام يحيى في دمشق"(ص1)وحزقيل (ص2و65)واعرابيل (ص6)وعجعج (ص6)وسيلان (ص6)ولاوين (ص6) ويحي بن زكريا في سبسطية(ص6)واليسع ان يحيى (6)واولاد يعقوب (9و11)والأنبياء الأربعون (9)ومصلى آدم (10)والعزير(10 و12)ويوشع بن نون 10)والفضل اخو يوشع(11)والنصور (11) وشمويل(12)وبنيامين (12) ومقام الخضر بالقصر(23)وإدريس (24)وداود النبي(39)وموسى النبي(39) وعيزار (51)وقبة راحيل (53)ويونس(53و69)ومقام إبراهيم الخليل(55)واسحق ويعقوب وليا وريقا(ص55)ويوسف الصديق (58)ويوسف النجار (63) ولوط وبناته (66) والعيص (68).
وزار النابلسي رحمه الله تعالى عددا من الجوامع والمساجد والمدارس منها مسجد جبُّ يوسف (3)وجامع نابلس (9)والمدرسة الجراحية (13)والحرم الأقصى(15)والمدرسة السلطانية (15)ومسجد الحنابلة (18)، والصخرة بالأقصى (19)وكاس الصخرة (29)ومحراب داوود(35)ومسجد عيسى بالأقصى(35)والمدرسة الصلاحية (45)والمدرسة القادرية (51)ومسجد الجلولية (55) وجامع إبراهيم الخليل (55)، والمدرسة الناصرية (63)ومسجد مهد عيسى (71)ومسجد الخضر(74).
وزار النابلسي أربع كنائس وديرا هي : كنيسة القيامة (22) وكنيسة العذراء ب"طور زيتا "(44) وكنيسة الصلاحية (45)وكنيسة مولد عيسى في بيت لحم (70) ودير ماركوص(ص53).
وذكر من الأنهر والعيون والآبار التي زارها (12) اثني عشر موقعا هي : نهر الأعوج (3) ونهر الشريعة (4) وعيون التجار (4) ،وبحيرة طبريا (70)وعين سلوان (42) وبئر أيوب (47)وبركة بني إسرائيل (46)وبحيرة لوط(49)وبرك سليمان (74)،وعين العسل (74)وبئر الحمام (74).
وزار غير ثمانين قبرا لصحابة رسول الله وأولياء الله والصالحين أدرجت أسماؤهم مفهرسين في نهاية كتابه المذكور. (ص9192).
ونلحظ من خلال قرأتنا للكتاب أمورا منها :
أولا: إنَّ طباعة الكتاب غيرُ مشكولة وهي مهمة لضبط أسماء الأمكنة التي زارها ، ويقال عن الرحلة كلها ، و مثله الشعر فيها .
ثانيا:كان يتنقل من مكان لآخر،ويكتب عنه أبرز ما يشاهده فيه ويدِّنهُ تدوين العالم الباحث ؛فشمل أمورا موسوعية كثيرة ، كوصفه نبات أحمر"لم يسمه" بالقرب من جسر بنات يعقوب (7) كما يصفُ جسر بنات يعقوب بأنَّه كان مبنيا بالأحجار، وعلى جانبيه نبات في اخضرار بأسلوب السجع (7) وكان يصف مجاري النهر فيقول "وقطعنا ذاك الجسر "جسر بنات يعقوب "الذي فوق النهر وأصلُ هذا النهر من جهة قرية الحولى" ولعلها الحولة " إذ تظهر في لغته الإمالة وقلب هاء الحوله "ياء" ثم يمرُّ إلى بركة المنيه ثم يخرجُ منها ويمر في بلاد الغور ويسمى حينئذ بنهر الشريعة،وعليه جسر المجامع ، حتى يدخل بركة لوط "(7) على أن جسر المجامع اليوم غربي مدينة الشونة الشمالية حنوبي مجمع" النهرايم " عندما تجتمع أمواه نهري الأردن واليرموك ، وقد كان من قوس مسؤولية كاتب المقالة عام (1980م)يوم كان قائد سرية في كتيبة أبي عبيدة عامر بن الجراح 24الآلية .
ثالثا:يحدد بلاد الشام من الفرات إلى العريش ومن معان إلى ملطية طولا وعرضا (اليوم العاشر ص11) ويدرج رأي الهروي في هذه المسألة .
رابعا : عزا نسبة بعض الأماكن إلى مسمياتها من الأنبياء نحو عرابة إلى نبي الله "اعرابيل"ونسبُهُ إلى يمتد إلى يعقوب عليه السلام (ص10)كما نسب بلدة "عجة "إلى نبي الله "عجعج" وقرية السيلان إلى نبي الله" سيلان "(ص10).، "يعبد" لأنها كانت معبدا لإبراهيم الخليل عليه السلام(ص9).
خامسا :كان يحدِّد مسافة بعض البلدان بمسير الراكب المجدِّ حينا ،كتحديده مسافة فلسطين طولا من رمح "و تصحيفها الصحيح رفح"(ص11) إلى حدِّ اللجون ،للراكب المجدِّ يومان "(11)، كما كان يميِّز بين السير المجدِّ والسير بالأثقال"ضعفه" فيقول :"وأما بسير الأثقال فأكثر من أربعة أيام "يعني المسافة المذكورة من رفح إلى اللجون (11)كما يتوقف عند عرضها من يافا إلى أريحا مسافة يومين (11) ، وكتب في التغييرات العمرانية فجامع سبسطية كان كنيسة (12)كما وقع خطأ إملائي في رسم" زخريا "والصحيح هو زكريا (12سطر5)، وقدَّر المسافة بين نابلس وبيت المقدس بيومين، بمسير الأثقال ، ونابلس تقابل القدس من جهتها الشمالية (ص12).
خامسا :كان يعطي رأيه في بعض ما يعرض له من افتئات في الدين، فقد ذكر السَّامرة في نابلس بانَّ القدس جبل نابلس فقال معقِّبا " قد كذبوا "(ص12).
سادسا:وكان يعتمد في تنقلاته على المبيت في التَّكايا المخصَّصة للأكل والمنامة بدليل قوله في اليوم الثاني "ثم ذهبنا نحو قرية سعسع حتى دخلنا تكيتها"(ص6)شأنه في اليوم الثالث عندما وصل إلى القنيطرة ،وقت المساء ونزلنا ب"تكيتها"(ص6).، وفي اليوم العشرين من رحلته يدخل تكية الخاسكية في تلك الديار القدسية (44)
سادسا:كان يسير مع رفقته على الخيول والدواب بدليل قوله:"ذهبنا نقطع الفلاة بالسير ، ونصافح كفوف القفار بأقدام الخيل المعقود في نواصيها الخير حتى وصلنا إلى قرية البيرة (ص16)
سابعا :وفي مدينة القدس تتداعى المعاني للنابلسي فيتذكر قول البوصيري في ميميته وهو يمتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم(19) :
سريتَ من حرمٍ إلى حرم ِ كما سرى البدرُ في داجٍ من الظًّلَمِ
ويستذكر قول ابن حجر العسقلاني رحمه الله(ت852ه)(ص 16):
إلى بيت المقدس قد أتينا جنان الخلد نزلا من كريم
قطعنا في مسافته عقابا وما بعد ا لعقاب سوى النعيم
ثامنا : ويحدثنا النابلسي عن أوراد كانوا يقرؤونها من نحو حزب البحر للشاذلي(19)، كما يصف قناديلَ المسجد الأقصى ، ووصف مقاييس الصخرة فهي عشرة اذرع طولا ،و خمس عرضا (24ص)، ويصف أعمدة من الرخام فيها، يحيط بمحراب الخضر ، ويذكر مسميات قديمة من نحو "بيت طهارة"يقصد الحمامات اليوم ،( ص 20)، وتحدث عن أذى النصارى للصخرة بان القوا عليها قمامة،وتحدث عن مكان صلب الرجل الذي شُبِّه بالمسيح ، وجعل اليهود مكانه قمامة، واستوقفته صفحات عديدة وهو مغرق في وصف بيت المقدس واسماها رحلة إليها فأطلق البعض على الكل للأهمية (ص20)وذكر بان الملكة هيلانة لما رأت القمامة في كنيسة القيامة ، أمرت بان تلقى القمامة على المسجد الأقصى(21) وذكر بانَّ تسمية كنيسة القيامة كما يرد بالقمامة باعتبار ما كانت تسمى به (27) وتوقف عند أثار الأنبياء نحو أثر قدم سيدنا إدريس (28) وأثر قدم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الصخرة المشرفة (27)، وذكر عبد الملك بن مروان بانيا قبة الصخرة المشرفة ، نقلا عن الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" (29) وعزا سبب بنائه له لمنع حجاج الشام من مبايعتهم لعبد الله بن الزبير الثائر (29)وفي بيت المقدس قال النابلسي شعرا في بركة قبالة الأقصى (34)) البحر الكامل (ص34) وفي الشطرة الثانية من البيت الثاني خلل وزني ونحوي
لله بالبيت المقدّس َجامع بهر النواظرَ نورُهُ وبهاؤه
منه الجوانب واسعات تنجلي وزهت بطلعة قبته سماؤه
حيث المدارس حوله قد أشرقت تمتدُّ من أشجاره أفياؤه
والمسجد الأقصى المبارك فاتح كفًّا وفيه الكأس يدفق ماؤه
وأدرج شعرا للشيخ محمد الباعوني في منظومته عند ترجمة السلطان قايتباي فيه (ص34) :
فمن جليل خيره المؤسس سياقه قناة بيت المقدس
تعرف بالعرُّوب كانت درست ومن تعاقب السنين اندرست
فظهرت بسعده وعمرت وبمعين مائها قد غمرت
قد بلغت منهلا منشره في العدَّ نحو بضعة وعشره
وغلبُها على الدوام يجري طوبى لمن فاز بهذا الأجر
من بعد ما كان الوضوء يشترى والماء كان ربَّما تعذرا
صار على طول المدى مبذولا يجري سبيلا قل وسلسبيلا
كم من وفود من جميع الأرض توسعوا في الشرب والتوضِّي
ووردوا منهل هذا المشرب من عرب وعجم ومغرب
هذا هو الظل العميم السابغ في ضمنه النفع العظيم البالغ
***
ويفاد من النص السابق أمور أولا إنَّ النابلسي رحمه الله لم يُعرِّف ب"محمد الباعوني "وهما اثنان محمد بن أحمد الباعوني؛ شمس الدين اخو كل من يوسف الباعوني وإبراهيم "شيخ الديار الشامية " ومحمد الباعوني هذا هو عم عائشة الباعونية، وليس المعني (780870ه) انظر (الدكتور حسن الربابعة وزميله : أسرة ناصر الباعوني العلمية في العصر المملوكي دراسة في سيرهم وتواليفهم مؤسسة روعة للخدمات الاكاديمية ، اربد، ط1،2008م ، صص46 51)أمَّا الثاني فهو محمد بن يوسف بن أحمد الباعوني شقيق عائشة الباعونية (857910ه)، عاصر السلطان الأشرف قايتباي (815901ه)وسيرته من أطول السير وله آثار عمرانية خالدة منها قناة العرُّوب ( الزركلي : الأعلام / مرجع سابق ، ج5/،188)، وثانيا هاهو يشيد بانجازات الأشرف قايتباي في مدِّهِ قناة ماء من العرُّوب كانت درست من قبل إلى بيت المقدس بغية الأجر ، فحلَّ مشكلة وضوء المسلمين في ساحة الأقصى الشريف،ورفع عن المصلين كلفة شراء الماء ، وقد عانوها من قبل وعدَّه أجرا عميما لهذا القائد المسلم .، وحدَّد مكان جري الماء من جنوب بيت المقدس من جهة العرُّوب ، وقدَّر المسافة بينهما بمرحلة (35)، وتحدث عن حراسة عيون الماء وبركه من العدو (ص3536)، وأشار إلى نظافة المياه الجارية إذ كانت مغطاة بالأحجار، واحتج بما ذكره الباعوني عن قايتباي رحمهم الله جميعا (36)، ويتوقف طويلا عند وصفه المسجد الأقصى؛ إذ يحسن بالمهندسين المعماريين خاصة بان يصيخوا بأسماعهم إلى ما وصفه قلمه لهم، ليتأكدوا بأنفسهم ما بقي من الأقصى وما اندرس منه (صص3543اليوم السادس عشر)وتشكك في مكان دفن سيدنا داوود عليه السلام، أهو في القدس أم هو في ذيل جبل لبنان؟ وكان زاره من قبل (ص44)، وذكر زيارته له في رحلة أخرى متكئأ على مرجعه في رحلته الموسومة "حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز "، وذكر اختلاف آراء العلماء في موقع دفنه (ص44)، وفي اليوم الحادي والعشرين يصعد إلى طور زيتا، ويحدِّد موقعه شرقيَّ بيت المقدس، ويصفه بأنه جبل عظيم، ومشرف على الأقصى وحرم الصخرة ، وقد صعد عيسى عليه السلام منه إلى السماء ،وهناك كنيسة يزعم قسيس أنَّ قبر مريم ابنة عمران فيها ، وقد بنتها هيلانة، وقد مر ذكرها ، وقد نزل النابلسي خمسا وخمسين درجة بقصد زيارة قبر العذراء، وهي لا شك دقة الرحالة العالم المدقق في ما يشاهده(انظر ص48)، ولمَّا وصل إلى قرب القبر رآه معقودا من الأحجار، عليه قناديل كبار نحو العشرة (48)ويشكُّ في مكان القبر هناك لأنه في ما يروى دفنت العذراء في جبل لبنان، بالقرب من قبر الشيخ عبد الرحم الرمتاني(ص44)
ويسمِّي بحيرة لوط ب"بركة لوط"(49)ويعرض لخسفهم في زُغَر ويضبطها شأن أصحاب معاجم البلدان فيقول "بضم الزاي وفتح الغين المعجمة والراء (49) وزُغَر اسم لابنة لوط، وهو في عهده اسم لبركة لوط (49)ويترسَّم مجرى نهر الأردن "الشريعة"فيصبُّ في بركة لوط أو زعر ، ويعرِّف بحرة طبريا بأنها بحرة المنية ، ويعرف بحيرة الحولة بأنها بحيرة قَدَس (49) ،وأدرج شعرا للشيخ إبراهيم بن زقاعة في ديوانه يذكر مجرى بحيرة قدس إلى كل من بحيرة كبريا ثم إلى بحيرة لوط ، وقد ضبطها بفتح القاف الدال بقوله"(54)
قدَسٌ بحيرتُها تصبَّبُ ماؤها من بانياس من قريب الحولة
يسري إلى مستنقع من أرضها وقريب منها بحرة الطبرية
تسعى بحيرة لوط قد سمينها من قبل ذا زاغرا و بحرة سوفة
ويذكر أن مكان قبر موسى حينا بأنه في غور أريحا، شرقي بيت المقدس على كثيب أحمر ، وكانت وفاته بعد أخيه هاروت بأحد عشر شهرا لمضي سنة 1626من الطوفان (51)، ثم َّيشك النابلسي حينا في مكان القبر المذكور ومرجعه رسالة للشيخ محمد بن طولون الصالحي المسمَّاة "تحفة الحبيب في ما ورد في الكثيب " إذ ذكر فيها أنَّ قبر موسى عليه السلام في مسجد القدم قبالة الكثيب الأحمر في دمشق الشام. (ص52)
وكان يفسر معنى ألقاب الصحابة منهم أبو ثور لما مرَّ بقبره في اليوم الخامس والعشرين فقال في تسميته لأنه كان يركبُ ثورا ،ويقاتل عليه في فتوح القدس (56)،وذكر راحيل أم النبي يوسف عليه السلام (26)، وذكر من العادات الاجتماعية دقَّ الطبل رمزا إلى توزيع الطعام على الواردين والمجاورين، وهو من سماط السيد الجليل المسمى بالدشيشة (58)ووصف مقامات الأنبياء في مدينة الخليل وصفا دقيقا وذكر أسماء المدفونين في الخليل من الأنبياء والنساء نحو سارة وربقة زوج اسحق عليها السلام وروى للهروى نحو (589ه) مشاهدات عن كرامات الأنبياء في مسجد خليل الرحمن ومدنهم عليهم السلام ، (ص62)، وذرع مساحة مسجد الخليل فكان نجو (80) ثمانين ذراعا بذراع العمل، وعرضه نحو واحد وأربعين ذراعا ( ص63)وشاهد ضريح أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام) ووصف الأعمدة الرخامية والقناديل المدلَّاة في المسجد، وفي الغار أيضا ،وتبركوا بذلك المكان (62 ثم رجع إلى قرية حلحول لزيارة قبر يونس بن متى عليه السلام (ص73) وزار بيت لحمَ وغالبُ سكانها ليسوا نصارى كما قال الهروي بل كانوا مناصقة مع المسلمين كما يذكر النابلسي مما يدل على تجديده المعلومة والإشارة إليها شاهدا على أحداثها ،ووصف كنيستها؛محكمة البناء،وذكر اسم من امر ببنائها وهي هيلانة أم قسطنطين ،وزار مغارة مهد عيسى عليه السلام و رأى فيها قناديل من الذهب ،ومكان جذع النخلة منقور في الأرض صغيرة مزمكة بالذهب فيها (74) ويذكر بعض الصناعات كالمسابح حين كانوا يصنعونها في بيت لحم، فاشترى النابلسي مسبحة منها تأكيدا (ص75)
وفي رحلته أجاز لبعض العلماء منهم الشيخ أمين الدين افتدي في اليوم الثالث والثلاثين ، وفي اليوم الرابع والثلاثين إلى الرابع والأربعين عزموا على الخروج من البلاد المقدسة إلى دمشق ، بدءا من باب العمود بوداع حافل واتجهوا إلى خان البيرة ،ثم إلى مدينة نابلس، إلى رأس العين منها ، وفيها قال النابلسي رحمه الله (78):
انزل بنابلس برأسِ العين وانظر خمائلها برأسِ العين
مجتسا وموريا ، ومن مدينة نابلس عادوا إلى دمشق في اليوم الثامن والثلاثين من بداية رحلتهم المباركة ، ثم عرض رحلته في قصيدة بلغت أبياتها مائة وخمسة وعشرين بيتا ،ختم رحلته فيها .