العنقاء أبدا
للدكتورة إلهام أبو غزالة
موسى أبو دويح
كتبت الدكتورة إلهام أبو غزالة سيرتها وسيرة عائلتها، عائلة (أبو غزالة) في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 2009 عن منشورات مركز أوغاريت الثقافي في رام الله / فلسطين في 262 صفحة.
ركّزت الكاتبة في هذه السيرة على المكان، كل الأمكنة التي عاشت فيها كالقدس ونابلس والقاهرة وغيرها، وخصّت من هذه الأمكنة مسقط رأسها (يافا) التي لها مكانة خاصة في قلب الكاتبة.
أول ما يلفت نظر القارئ صورة قديمة ليافا وشاطئها على غلاف الكتاب وتحت الصورة عنوان الكتاب (العنقاء أبداً). والغول والعنقاء والخلّ الوفي مستحيلات ثلاثة عند العرب. فلماذا سمّت الدكتورة إلهام سيرتها بالعنقاء أبداً؟!!
وبعد الرجوع إلى لسان العرب وجدت: (العنقاء: الداهية. وطائر ضخم ليس بالعقاب. والعنقاء المُغرب: كلمة لا أصل لها. وقيل سميت عنقاء لأنه كان في عنقها بياض كالطوق. وقال كراع: العنقاء فيما يزعمون طائر يكون عند مغرب الشمس. وقال الزّجاج: العنقاء المُغرب: طائر لم يره أحد. وقيل في قوله تعالى: "طيراً أبابيل" هي عنقاء مُغربة. ومن أمثال العرب: طارت بهم العنقاء المُغرب. وقيل: طائر لم يبق في أيدي الناس منها غير اسمها). ومن أراد الاستزادة فليرجع الى لسان العرب. مادة (عنق).
فإلهام عنقاء لأنها داهية، ويافا عنقاء لأنه لم يبق لنا منها سوى اسمها.
تحدثت إلهام عن طفولتها وبيت عائلتها وبيارتهم في يافا، ثم هجرتهم من يافا إلى القدس، ورحيلهم من القدس إلى نابلس. وأسهبت كثيرا في وصف الأمكنة التي عاشت فيها. وتحدثت عن نكبة 1948 ونكسة 1967، وأخيرا تحدثت عن اعتقالها وسجنها سنة 1976.
أفرطت الكاتبة بل بالغت كثيرا في الحديث عن نفسها وعن عائلتها: أبيها وأمها وأخوتها وأخواتها، وأخوالها وخالتها وأعمامها وعماتها. حيث ظهرت (الأنا) عند الكاتبة ظهورا زاد عن حدّه. ولو كان هذا الوصف (للأنا وللعائلة) من الآخرين لكان مقبولا؛ أما أن يكون من الكاتب نفسه عن نفسه وعن عائلته وأقاربه بهذه الصورة المبالغ فيها فلا يقبل أبدا.
أبدعت الكاتبة في وصف المكان، وذكر أسماء البلدات والقرى والمخيمات التي كانت تمر بها في طريقها إلى العمل، أو التي زارتها أو عاشت فيها. استمع إليها تقول في صفحة 144: "وكلما تقدّم الباص في رحلته من نابلس الى رام الله‘ كانت تطل علينا القرى الوادعة الجميلة. تطل علينا من على يميننا قرى نقرأ أسماءها على اللافتات المغروسة في بداياتها: (كفر قليل، عورتا، بورين، حوارة، بير قوزا، زعترة، ياسوف، الساوية، اللبن، سنجل، عين سينيا، جفنا، بير زيت).
أما على شمالنا، ونحن متجهون الى رام الله فكنا نستمتع بمشاهدة قرى: (روجيب، عورتا، حوّارة، بيتا، قريوت، يتما، قبلان، تلفيت، ترمسعيّا، سلواد، دورا القرع، ثم مخيم الجلزون على أطراف مدينة رام الله).
لغة الكاتبة لغة فصيحة سليمة سهلة سلسة واضحة، لا تعقيد فيها، علما أن الكاتبة درست اللغة الانجليزية وآدابها وليس اللغة العربية. فدراستها للعربية مقتصرة على دراسة منهج اللغة العربية في المدرسة أو المدارس التي تعلمت فيها، وعلى مطالعاتها الفردية وقراءاتها الشخصية لمختلف القصص والروايات والسير، ما أكسبها هذه الثروة اللغوية.
أما الأخطاء في الكتاب فقليلة بالنسبة للأخطاء التي نطالعها في الكتب في هذه الأيام. جاء منها على سبيل المثال:
صفحة 16: (يجيئون جميع الأطفال) والصحيح: يجئ جميع الأطفال. فلغة (أكلوني البراغيث) لغة ضعيفة رديئة. وذهب كثير من النحاة إلى أن هذه اللغة ضعيفة لقّّّلتها. ومن هؤلاء سيبويه، لذا لم يجوّز حمل شئ من القرآن على هذه اللغة. قال سيبويه: وأما قوله تعالى: "وأسرّوا النجوى الذين ظلموا". فسيبويه يحمل الآية على وجهين:
أولهما: أن يجعل (الذين) بدلا من واو الجماعة في أسروا.
وثانيهما: أن يجعل (الذين) خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هم.
وفي نفس الصفحة أيضا: (ليعودوا ويملأونها) والصحيح: ليعودوا ويملؤوها و(يملأوها).
وفي صفحة 18: (سهام وأنا) وهاتان الكلمتان تكررتا أكثر من خمسين مرة في الكتاب. والاستعمال الصحيح: (أنا وسهام) فلا يقدم المخاطب ولا الغائب على المتكلم عند العرب، فنقول: (أنا وأنت) ونقول: (نحن وهم) ولا نقول: (أنت وأنا) أو (هم ونحن).
وفي صفحة 45: (فقد شكلت تلك الجلسة مفصلا هاما) والصحيح: مفصلا مهمّا. ومثلها في صفحة 94 (المواقع التاريخية الأثرية الهامة) والصحيح: المهمّة. وهاتان الكلمتان هام وهامة تكررتا في الكتاب كثيرا والأصوب: أن نستبدل (مهم ومهمة) ب(هام وهامة). واعلم ان الباء تدخل على المتروك. قال تعالى: "اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" فطلب يهود الذي هو أدنى وتركوا الذي هو خير.
وفي صفحة 45 أيضا: (وباسطينها الى الأمام) والصحيح: وباسطيها إلى الأمام لأن نون جمع المذكر السالم ونون المثنى تحذفان عند الإضافة.
وفي صفحة 67: جاء قولها: (والصدق والتواضع والاهتمام بالآخرين صفات تجذبني كثيرا في الناس) والأفصح أن تقول: والصدق والتواضع والاهتمام بالآخرين صفات في الناس تجذبني كثيرا.
وفي صفحة 80: (ليفرق بين عائلة النمر وعائلة طوقان عندما كانوا يتقاتلون) والأحسن: ليفصل أو ليصلح بين.
وفي صفحة 84: (وقد اهتممت أنا) والأحسن: وقد اهتمّيت أنا.
وفي صفحة 100: (اللتان أتيتا) والصحيح: اللتان أتتا.
وفي صفحة 101: (سرعان من قامت الخالتان) والصحيح: سرعان ما قامت الخالتان.
وفي صفحة 103: (إذ لم تمض اشهر على انتهاء الحرب إلا وولدت (شادية) في 8/1/1948) والأحسن: حتى ولدت شادية.
وفي صفحة 107: (ابن السنوات الثمان) والصحيح: السنوات الثماني.
وغير هذا...
وأعجب ما في السيرة قول الكاتبة صفحة 108 عن موت والدتها: "أما أنا، ومع أنني أشعر بالذنب الآن لدى كتابتي هذه السطور، إلا أنني، فرحت كثيرا لوفاة الوالدة. فقد تركت وفاتها عندي إحساسا بالحرية، وبأن جدارا كبيرا من القيود انزاح من أمامي". وهذا أمر عجاب.
الكاتبة مخدوعة بالرئيس جمال عبد الناصر كغيرها من الملايين العربية، وبخاصة في فلسطين؛ حيث خرج الناس يوم الجمعة في 25/9/1970 في مظاهرة جابت ساحات المسجد الأقصى وشوارع القدس يهتفون ضد عبد الناصر لأنه صافح وعانق الملك حسين بعد حرب أيلول الأسود. ولما مات عبد الناصر بعد ثلاثة أيام من مظاهرة الجمعة أي في يوم الاثنين 28/9/1970 صار الناس -الذين تظاهروا ضده- يلطمون.
وصفت الكاتبة حكم الدولة العثمانية العلية لفلسطين وغيرها من البلاد بأنه احتلال. حيث قالت في صفحة 133: "والتحولات التي عشناها مع الاحتلال التركي ثم البريطاني ثم الاسرائيلي..." أي جعلت حكم العثمانيين لبلادنا احتلالا واستعمارا مثل الاستعمار البريطاني والاحتلال الاسرائيلي. وهذا ظلم ما بعده ظلم، وجهل ما بعده جهل؛ بل جهالة جهلاء وضلالة عمياء.
وأخيراً، كثيرة هي المواضيع التي تحتاج إلى نقاش في هذه السيرة، ولكن البحث يطول، ويكفي أن يشار إليها إشارات سريعة.
منها: زيارة العائلة إلى بيتهم وبيارتهم في يافا، ووقع ذلك على الوالد.
ومنها: لقاء الشاعر الراحل محمود درويش والرئيس الراحل ياسر عرفات في القاهرة وما دار في ذاك اللقاء من حوار.
ومنها: لقاء الناشط من أجل السلام البروفيسور اسرائيل شاحاك في بيت صخر الخطيب وموقف كاتبة السيرة منه.
ومنها: رجوع أخيها وائل إلى نابلس وزواجه في عمان وتركه للضفة.
ومنها: صراخ الكاتبة وصياحها في وجه ضابط المخابرات اليهودي.
ومنها: سجنها ووضعها في الزنزانة النتنة.
وغير هذا كثير.