كأنّما غفوت

قراءة في المحدّدات الجمالية للمجموعة القصصية

سعيد بن الهاني

كأنّما غفوت وعتبة العنوان :

 يعتبر العنوان نصاً محاذياً paratexte ?، بتعبير جيرار جنيت، له وظائفه التي تجعل منه دالاً أكبرَ، تساهم معرفته في إضاءة بنية النصّ، وكشف بعض أسراره. ومن ثمّ، يراهن كلّ كاتبٍ على عنوانٍ كعتبة نصّية من شأنها أن تعين القارئ على إنجاز ترهيناتٍ يكتشف بها النص انفتاحه الدلالي. يقول رولان بارث: «لكلّ عنوان عدّة معانٍ متزامنةٍ، من بينها على الأقل هذان المعنيان: 1- ما يتمّ التلفظ به مرتبط بعرضية ما سيليه. 2- الإعلان أنّ قطعة الأدب ستليه (أي بالفعل سلعة). وبعبارة أخرى، للعنوان دائماً وظيفة مزدوجة تلفّظية وإشارية»(2). على هذا الأساس، يغدو العنوان إشارةً موجّهةً لجمهور القراء تستنفر نشاطهم التأويلي، كما لو أنّ العنوان يقدّم نظرة مجملة عن مضمونه وشكله، فيساهم في تشكيل نفسه، بلغة بارث- باعتباره سلعة- عادة ما تفترض التركيبة اللغوية للعنوان وحمولته الرمزية مسايرة هيرمينوطيقية للمتلقى حيث يتحول العنوان عادةً إلى لغزٍ يلزم العثور على طريقةٍ ما لتفكيكه واستخلاص ما يتضمّنه من أبعاد دلالية ورمزية من شأنها أن تعزّز فرضية الحضور الإيحائي للعنوان. وهذا ما يمكن أن تعقد له صلةً بإحدى الوظائف العنوانية التي اقترحها جيرار جنيت في كتابه «عتبات»(3) وهي الوظيفة الإغوائية séductrice fonction «كأنّما غفوت» بهذا الإعلان اللغوي الواصف ذو الوظيفة الفاتحة للشهية(4): ستفتح شهية القارئ (وهي طريقة منتسبة للإثارة والتشويق)، سيعرف محمد الهجابي كيف يجعل العنوان من الناحية الفنية عنصراً مؤسساً لبنيةٍ قصصيةٍ (بلاغة السرد) لها نسقها الذي تتحكّم فيه التجربة الجمالية لمبدعٍ متمرّسٍ له إلمام قويٍ بخيوط الإبداع السردي.

 جاء في لسان العرب لابن منظور: «غفا الرجل وغيره غفوة إذا نام نومة خفيفة، وفي الحديث: فغفوت غفوة أي نمت نومة خفيفة»(5). ما سرّ هذه الغفوة المقرونة في العنوان بأداةٍ من أدوات التشبيه «كأنّ»؟ غفوة سيعيشها بطل قصة «هذا الوجه من أين يأتيني؟» «في انتظار غفوة آتية لا ريب فيها»(6). كلمة وظيفتها الإيحاء لا التقرير، غفوة كاتب ينوب عن مخلوقاته الورقية في العبور إلى مقامات يتوقّف فيها الزمن العمودي، في ظلّ كتابة تبحث عن نسغٍ للحريّة ومكامنَ للجمال، في سلوكات ومواقف وبورتريهات. يغفو السارد من أجل شهوة اقتناص لحظات قصصيّة تخييليّة بعيداً عن الاستنماطية أو الاستسوائية التي تنتصب حاجزاً أمام الإنصات إلى جدلية الذات والآخر في الكتابة القصصيّة أو الروائيّة على حدٍ سواء.

التوليف السردي:

 يبدو أنّ الكتابة القصصيّة في نصوص محمد الهجابي مفتوحةٌ على إمكاناتٍ وآلياتٍ خاصة تضمن لها مقروئيتها. وتدعم تماسك عناصرها واتساق مكوّناتها. تتمتّع الحكايات التسع باستقلال ظاهري وبنائي. بينما طريقة تشخيص الحدث وتدبير كرونولوجية الوقائع المرويّة، أسهمت في تشييد علاقةٍ بين هذه القصص المبأرة تبئيراً داخلياً focalisation interne حيث يقدّم كلّ شيءٍ من خلال وعي شخصية هي الأنا الساردة ، يحتجب خلفها السارد، فيظهر معرفةً مطلقةً وكليةً بالأشياء، مستعملاً ضمير المتكلم،وكأنّنا أمام نمط حكائي متماثل Homodiégétique.

 يمكن القول إنّ المحكي في أغلب قصص المجموعة ذو تبئير داخلي ثابت، حيث يمرّ كلّ شيءٍ ويتقرّر في وعي واحدٍ هو الأنا الساردة المشخّصة في المحكي في قصة «تبا لبائع التصاوير!» ساردٌ ملمٌ بكلّ شاذة وفاذة يترصّد أهواء وتحركات وصفة الشخصيات الأخرى، وكأنّنا أمام صورة الانكفاء على الذات الساردة التي تقوم بتصوير أفكار وأحاسيس الشخصيات واستيهاماتها كما تطرأ في تلقائيتها بما هو انعكاس لرؤية ذاتية عزيزة على محمد الهجابي، وأثيرة لديه. فهو يفضل أن يسرد قصصه بضمير المتكلّم لتحقيق نوعٍ من الملاءمة الفنّية بين هوية السارد ونوعية الأحداث الموصوفة، ولإيهام القارئ بواقعية الأحداث خصوصاً عندما نتأمّل العنوان وبعض القصص ك«أرنب السباق»، حيث يعود اسم محمد وبعض العلامات والمؤشرات المكانية الدالة على مدينة القنيطرة كشارع محمد الديوري مطعم هايفونغ...إلخ.

 لقد نهج الكاتب أسلوباً سردياً ذاتياً، أعطى فيه الأولويّة للتذكّرات والتفاصيل والاستيهامات من خلال بناء قصصه في دوائر مفتوحة داخل بناء تنضيدي(7)، تجتمع فيه عدّة أجزاء من المحكيّات المستقلّة عن بعضها البعض كما يبدو، ولا تؤطرها سوى شخصية الأنا الساردة مثل قصة «فوارق» التي تضمّ بين طياتها: و«لرجلي الممددتين حدود»، «وبذلك أنبأني الهاتف»، «الواحد والكل»، «الزجاج». لكلّ قصة استقلاليتها الشكلية، لكن بناءها الدلالي واحد تصل بين أجزائه شخصية تصف وضع ساقيها الممددتين بين الطاولة والكرسي، كما تصف انخراطها وسط جمعٍ غفيرٍ من الناس تبحث فيه عن الصفوة القائدة له. و تصف فيه أيضاً بنوعٍ من الولع الصوفي إحساسها بالكآبة؛ أمّا الوضع الأخير فسيكون فيه الزجاج وسيلةً ستتأمّل بها الذات المتلفّظة نفسها والعالم من حولها. إنّها إلماعاتُ الأنا الساردة وهي تصف اعتمالات نفسها وعشقها. لقد جعل الهجابي صياغته النصية لهذه القصة موحية من خلال عملية توليفٍ تتحقّق فيها عمليةٌ لتراكب الأزمنة وتداخل الفضاءات. بالجملة ، إنّ كتابة الهجابي توليفٌ سينمائيٌ يصف المشاهد واعتمالات النفس في سياق يحقّق تكثيف المشاعر، ويفتح المجال للاستطراد الفنّي. ضمير المتكلم هو صوت الأنا الساردة التي تضطلع بدور الشخصية -البؤرة الرابطة- بين مختلف المشاهد والأحداث والذكريات. إنّها المصفاة التي تمرّ إلينا بواسطتها الأحداث والوقائع لتصل إلينا في شكل آثارٍ شعوريةٍ. ففي قصة مقام الظلّ يقول السارد: «هذا الصباح، عندما أفقت شعرت بالخاطر يهرب منّي. كنت منقبضاً وقلقاً. لا تستقيم لي شريدةٌ، ولا يهنأ لي تفكيرٌ»(8). بطل القصة محمد ينقل إحساسه بالغبن والدونية مع رئيسه المباشر في روتين مكاتب المؤسسات، حيث يتضخّم الإحساس بالمفارقة، وتصطلي الذات بصراط الغياب والحضور. يا لروعة التفاصيل وتدبيرها نصيا! مشاهدٌ مبثوثةٌ بسخريةٍ باروديةٍ تستفزّ في القارئ غريزة المعارضة والنقد بمعرفة لا تكرّر نفسها.

 اللّغة القصصيّة:

 أهمّ المداخل الجماليّة في كتابة محمد الهجابي هي اللغة الفصيحة المشرقة الشفافة التي تجسّد نوعاً من الوعي بخصوصية اللغة العربية وإمكاناتها الأسلوبيّة في تشخيص المتخيّل المتحرّر من كلّ أشكال القيود والرقابة. لغة الهجابي في مجموعته القصصية تكاد تخلو من كلّ أشكال اللّهجة العامة أو الدراجة التي من شأنها أن توهم في بعض النّصوص بنوعٍ من التصور المرآوي الآلي الذي قد لا يتمخّض سوى عن نصوصٍ ضحلةٍ وبائسةٍ؛ وهو تصور «ينبني على فكرة تلوية النص بالنسبة ل «الواقع»، أي كون الأشياء سابقة للكلمات»، والحال أنّ الواقع إنّما يشرع في الوجود في أثناء الكتابة ولا يصبح ناجزاً إلاّ بعد الانتهاء منها. وإنّ معناه لا يتشكّل إلاّ ضمن السيرورة النهائية للقراءة(9).

 ومن ثمّ ، فقد أصبحت اللّغة في كتابة الهجابي القصصية والروائية مشروع تجربة جمالية فريدة: معجم قصصي يتمّ انتقاء مفرداته بعنايةٍ خاصةٍ. عباراتٌ مسبوكةٌ بكلّ العناية والدقة المطلوبتين. وصورٌ تبرز بجدّتها ورشاقتها كفاءة الكاتب في رصد التفاصيل والتساؤلات المضمرة عن الشهوة والحب وكلّ العناصر المتصلة بالإيروس والمشاعر الملتبسة والقيم الإنسانية. لقد أثبتت لغة الهجابي القصصية عن كفاءة نصيّةٍ عجيبةٍ في نقل اعتمالات النفس، وسط ملاحقة الأحلام والاستيهامات والتحولات الداخلية بمعجمٍ يلمح أكثر ممّا يصرح، وبمخيلةٍ تتيح للقارئ حرية ابتداع التفاصيل المغيّبة المفتوحة على رحابة التأويل.

 لا يمكن أن نغفل خصوصية الوعي اللّغوي المؤسلب للكاتب محمد الهجابي، وقدرته العجيبة على استبطان المشاعر والتركيز على التفاصيل، ونفث اللمحات الساخرة قصة «جاء في الخبر» وقصة «(وهذا) مقام الظل». فلا زوائد جملية غير الحضور المتوهّج للّغةِ. ولن نجد أحسن من شهادةٍ لأحمد بوزفور وهو يتحدّث عن القصة باعتبارها: «مجرد بصلة لا لبّ لها، هويتها في قشورها، وفنّها في لغتها، وليس في جبتها إلاّ جبتها، وقائعها لغة، وشخصياتها لغة، وفضاؤها لغة، وزمانها لغة، وبناؤها الفني لغة، وبدون امتلاك اللغة التي نكتب بها لا نستطيع ممارسة اللّعب السردي أو بناء التناصات أو تشكيل الرموز، ولا نستطيع تفجير أرهف الإحساسات في نفس القارئ إلاّ بامتلاك أرهف الأدوات اللّغوية (حروف المعاني مثلاً: تلك التخوم التي يتداخل فيها النحو والبلاغة واللسانيات والأسلوبية) تركيب الجملة مثلاً: ذلك المعمل الذي تتمّ فيه صناعة الصمت بأدوات الوصل والفصل، بالتقديم والتأخير، بالحذف والإيجار)، بدون امتلاك هذا المعمل السحري (التركيب)، لن نستطيع أن نصنع باللّغة ذلك الشيء القصصي (الصمت)، لن نصنع إلاّ الثرثرة أو السكوت، ولا علاقة لهما بالقصة(10).

عوالم حداثية:

 تستغني قصة محمد الهجابي عن البنية الحلزونية للقصة التقليدية .قصةٌ لا تفرط في الحكاية، بل تضيف إليها أبعاداً أخرى دلاليةً تعطي الاعتبار لما هو رمزي في لحظة قصصية منتقاة بعناية فائقة. قصةٌ ترصد التفاصيل التي تعتبر الأهمّ في شعريّة هذا الجنس الإبداعي؛ و تسعى إلى تحقيق حداثتها النصية انطلاقاً من حسن تدبيرها الجمالي لمكوّناتها البنائية التي تقطع مع الابتذال والإسفاف الذي يسمُ الكتابات التقليدية ويتحولُ التجريب إلى أداة فعّالة لإدراك هذه الحداثة النصية المنشودة. قصصٌ منفتحةٌ دلالياً ، تتيح للقارئ مساحاتٍ واسعةٍ للتأويل. ولنأخذ على سبيل المثال قصة «فوارق» التي تتكرر فيها اللازمة «قبل حين فقط». إلحاح الكاتب كبير على إطلاق الخيال القصصي لقارئه. ومن ثمّ، لن نجد أفضل من وصف ينبوع الحداثة في قصص الهجابي غير تلك المتعة الجمالية المتصلة من عالم الكلمات وعلاقاتها الخفية في المجموعة، وكأنّنا أمام نص - بلغة أحمد بوزفور- بأعماقٍ بعيدة الغور تسكنها حيتانٌ وجواهرٌ وجنّياتٌ. نصٌ تتصارع فيه احتمالات الكتابة التي تدفعه إلى تجربة الحدود كما تدفع الكتابة القصصية إلى الاشتغال كأداة لعبٍ يختبر فيها الكاتب كلّ الممكنات التناصيّة والميتاسردية ؛قصة «جاء في الخبر»، وقصة «للورد أشواكه أيضاً!»، حيث ينفتح أفق مشاكسة المتلقي ومحاورته بقوالب حكائية مخصبة في محاولةٍ للابتعاد عن الماضوية والتكراريّة، واستدعاءٍ لروح التجريب باعتباره «سيرورة لا تتوقف أبداً متطلبة باستمرار البحث عن الجديد والمجهول. فهو إذن عامل تطور حقيقي للكتابة»(11).

 خاتمة:

 إنّ( كأنّما غفوت) مجموعةٌ قصصيةٌ في حاجةٍ ماسةٍ إلى قراءاتٍ عديدةٍ تستكنه مضمراتها الجمالية. قصصٌ موغلةٌ في متاهاتِ غوايةِ فنّ القصة. اختارت بمنجزها النصيّ تنويع أسئلة الكتابة، فلا تفريط في الحكاية، ومرحباً بالمعرفة الزناد «التي تقدم في نفسك شرارة الابتكار، حين تدفعك إلى التأمل، وتحرّضك على التفكير، وتستفزّ فيك غريزة المعارضة والنقد، كما تستفزّ في أعماقك كلّ قدراتك ومواهبك لتبدع شيئاً جديداً كلّياً، وخاصاً جداً، لا يكرّر المعرفة المتلقاة ولا يحاكيها، لأنّها لم تكن إلاّ زناداً لقدح النار الكامنة في نفسك (...) المهمّ أن يوقف آلية الحياة اليومية في أدمغتنا ، ويجعلنا نتأمّل أو نحلم أو نتخيّل، يجعلنا نبدع هذا النوع من المعرفة، هو الذي يعطي للقصة وراء كلّ كلمة حوشية، خلفية من الدلالة المرهفة لا يتقن غرسها فيه إلاّ الكاتب (الرقايقي)»(12) . تلك هي قصة الهجابي؛ تزاوجٌ جميل بين ممكنات الكتابة وممكنات القراءة. نصوصٌ بصور يتخيّلها الذهن وتلتقطها العين؛ ويتّسع فيها حضور الذات المتلفّظة للتفاصيل الكاشفة عن وعيٍ بالأشياء. شكراً محمد الخيميائي، عفوا الهجابي، وإلى غفوةٍ أخرى.

               

 هوامش:

1- محمد الهجابي: كأّنما غفوت، المطبعة السريعة، ط.1،2007، القنيطرة،المغرب.

 Roland Barthes : Analyse textuelle 2-d’un conte d 'Edgar poe in : l’aventure Sémiologique Seuil,Paris,1985,p.334-335

3-Gérard Genette : Seuil 1987,Paris, p.88.

4- Roland Barthes, opcité ,1985, p.335. 5- ابن منظور: لسان العرب، المجلد 6، دار صادر، بيروت، د.ت ص 130-131

 6 - محمد الهجابي، المرجع السابق، ص.33.

 7 – أنظر: نظرية المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان، ط.1، 1982، ص.146-147.

8- محمد الهجابي، م.س، ص. 89.

 9- رشيد بنحدو، بعض رهانات الرواية العربية، العلم الثقافي، السنة. 38، 7 فبراير 2008، ص.6

 10- أحمد بوزفور، كعوب أخيل في تجربتي: اللغة، المعرفة، البناء، m.a http : //www.alitthad press

11- رشيد بنحدو، المرجع السابق، ص.7.

12- أحمد بوزفور، م.س.