جمال الغيطاني واعتزال الكتابة
جمال الغيطاني واعتزال الكتابة
من خلال قصة
"نوم"
محمد يوب
تدخل قصة نوم للأديب العربي جمال الغيطاني ضمن القصص التي تحكي واقعا اجتماعيا متدهورا ومتأزما،على المستوى الشخصي و على المستوى العام،هذا الواقع الذي تتقاسمه فئات كثيرة من المجتمع،لدرجة أنه بدأ يحدث فينا قلقا أبعد عن جفوننا لذة النوم الجميلة،إنه واقع العالم العربي المتأزم،الذي اعتاد المثقفون على نعته بالعالم العربي المنهزم،مقابل نجاحات عوالم أخرى أحدثت المفاجآت بسبب النقلة النوعية التي حققتها هذه الشعوب في عالم الاقتصاد و السياسة و المجتمع .
وكان الكاتب جمال الغيطاني واحدا من الكتاب الذين سجلوا عن قرب هذه الأزمة، حيث تابع كل المتغيرات التي عرفتها الساحة الأدبية والثقافية طيلة ستين سنة،من خلال كتاباته المتعددة وعلى رأسها كتاب التجليات. لقد كان كاتبا ماهرا في تتبع حقيقة الواقع العربي المتأزم ونقله بأسلوبه الترميزي،خوفا من قمع السلطة التي كانت لا تحترم الحريات الفكرية،حيث كانت هي القاضي وهي الجلاد تحكم بمزاجية الحاكم المتجبروالمتسلط واقفا بسيفه على أعناق العباد.
وعلى مستوى الفكروالثقافة كانت تتيح فرصة النشر والكتابة لمن يكرس الثقافة الرسمية والأيديولوجية السائدة البائدة،التي تعمل على طمس الأصوات المتعددة و تتيح الفرصة للصوت الواحد،صوت القهروالظلم والإبادة الفكرية و الجسدية .
وتعتبر قصة نوم ضمن القصص المايكروسيرة ذاتية،التي تحكي مقتطفات من حياة الأديب جمال الغيطاني في صراعه مع النوم،الذي غاب عن جفنيه إما بسبب تفكيره الدائم والمستمرفي هذا الواقع المتأزم، الذي ساهم في تأزمه و إدخاله في هذه الحلقة المفرغة وفي هذه اللعبة، مجموعة من الجهات، التي تعتبر في نظرالمثقفين أعداء الأمة وأعداء الوطن.
أو أن هذا القلق النفسي طبيعي، يعتبر مؤشرا لبداية نهاية الكاتب الأدبية والفكرية لما يعكسه هذا النص القصصي،من انهيارعلى مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون.
فالقارئ المتمعن في هذه القصة يشعر وكأن الخيال الأدبي أصبح عقيما عندما يتناول الكاتب هذا الموضوع السلوك/ نفسي، بهذا التبسيط و بهذه السطحية ، لدرجة أننا إذا حذفنا اسم جمال الغيطاني عن القصة نشك في نسبتها إلى هذا الكاتب الكبير المعروف بكتاباته القوية والدسمة.
عندما نتحدث عن القصة فإننا نتحدث عن عمل أدبي له خصائصه و آلياته،ينبغي احترامها،واتباع الضوابط التي تجعل من القصة عملا قصصيا بعيدا عن الاختلاط بالأعمال الأدبية الأخرى.
وقصة نوم لا تحترم معايير الكتابة القصصية حيث ينعدم فيها السرد القصصي،فيشعر القارئ وكأنه يقرؤ مقالا أدبيا لا يمت بشكل من الأشكال إلى الكتابة القصصية،كما تنعدم فيها جماليات الكتابة القصصية التي تسرح بخيال القارئ وتدفعه إلى إنتاج عمل أدبي آخر قد يقارب أو يفوق العمل الأصلي الذي ينعته النقاد بالرسالة الأدبية.
فالرسالة الأدبية في هذا العمل انطلقت ضعيفة وبالتالي فإن المرسل إليه سيستقبلها بنفس المستوى،ويتعامل معها على نفس النحو،فينتج رسالة أضعف، لا تمت إلى العمل الأدبي بأية صلة.
كما أن الأصوات في القصة تبدو خافتة لأنها أحادية المصدر ، يتحكم فيها القاص بشكل انفرادي يقطع عنها حبل التفكير والاسترسال في التعبير، فيكون صوت الكاتب جمال الغيطاني هو نفسه صوت البطل الذي يحتكر المعرفة ولايترك مجالا للأصوات الشابة للتعبير عن نفسها.
إن حالة الاضطراب النفسي و القلق الوجودي أحدثت لدى الأديب قلقا على مستوى الاسترخاء والاستمتاع بلدة النوم الذي غاب عنه سنوات طويلة،وقد وصف الغيطاني النوم و كأنه إنسان يحضر ويغيب و يعرف الأوقات التي يحضر فيها، والأوقات التي يغيب فيها.
والنوم على هذا الحال يكون كائنا حيا يتلاعب بمشاعر الكاتب ويعذبها بالشكل و بالطريقة التي يريد،إلى درجة أن هذه الحالة أصبحت عادية و روتينية، استأنس بها الكاتب نظرا لكثرة حدوثها وتكرارها الدائم،رغم الأدوية الكثيرة التي وصفها له الطبيب.
نتساءل معا هل الكاتب جمال الغيطاني تعب من التفكيروأراد الخلود إلى النوم و الراحة الأبدية ، و الاستراحة من التفكير الوجودي القهري الذي يلاحقه طيلة ستين سنة(أنني لم أعرف النوم طوال ستين عاماً) في حله و ترحاله؟
كما نتساءل هل جمال الغيطاني لا يميز بين الكتابة القصصية و الخاطرة،وأعتقد أن هذا النص يجمع بين الخاطرة و المقال ، فأحيانا يسبح في عالم من الكلمات الأدبية العذبة،وفي أحايين أخرى تشعروكأنك تقرؤ مقالا أدبيا بأسلوب إنشائي بسيط،خال من المحسنات البلاغية التي ترفع من قيمة ومستوى المقال الأدبي.
يظهر لي و كأن الغيطاني يعلن اعتزاله من عالم الكتابة الذي يحتاج إلى قراءات كثيرة و متعددة في أمهات الكتب،والمتابعة الدائمة و المستمرة لكل ما هو جديد في عالم الفكروالأدب. والكاتب لم تعد له القدرة على الاستمرار فقررالاعتزال،لكنه لم تكن لديه الجرأة على التعبير صراحة على ذلك والإعلان أمام القراء عن هذا الاعتزال( لذلك لا بد من التقاعد، غير أنني لم أجرؤ على تنفيذ ما نويته لأسباب يطول شرحها) .
نتساءل مرة أخرى هل مرض التشبث بالمنصب انتقلت عدواه من كراسي الحكام إلى كراسي الكتاب ؟
بالفعل إنها عقدة الإنسان العربي يريد الزعامة واحتلال المناصب و الكراسي الأمامية و لا يريد التواري إلى الخلف،وفتح الباب على مصراعيه،وإفساح المجال للأصوات الشابة القادمة من هناك ، من عالم الإبداع و التعبير الجميل.
لقد حان وقت الاعتراف بهذا العجز الفكري الذي يصيب الذاكرة فلم تعد لها القدرة على التفكير السليم والدقيق الذي يتعمق في تفاصيل الأحداث ويشرع في إعطاء رؤية إلى العالم،رؤية تساهم في تجديد الفكر وتنقله من مرحلة الغفوة إلى مرحلة اليقظة الفكرية،التي تنير الطريق للأجيال القادمة ،( بدأت أتنبه إلى دخولي حال لم أعرفه من قبل)، إنها حال الركون إلى الراحة و الرضوخ إلى النوم العميق الذي يحتاجه الفكر بعد قضائه مدة طويلة من العناء الفكري و الجهد الذهني التي تجعل الكاتب من أثقال الفكر(أحمل أثقالا فوق رأسي).
إن الكاتب أعلن بملئ فيه عدم قدرته على متابعة هذا الواقع المليئ بالمتناقضات،وقد أصبح عاجزا عن ملاحقته، نظرا للسيرورة التاريخية التي ازدادت وتيرتها وارتفعت حدتها،وأصبحت متغيرة ومتجددة في كل حين.وبالتالي أصبح جمال الغيطاني غير قادر على متابعتها أو غير معني بها (لأستقبل ضيفاً جاء يستفسر عن بعض آرائي في الأحوال السارية التي لم أعد معنياَ بها. أطالع ما كان يستنفرني من قبل وكأني أقرأ أو أرى من وراء زجاج خفي فلا صلة ولا رابط إلا ما يبدأ من الدم وينتهي إليه)
إن الوقت أصبح يمر بسرعة البرق لما تعرفه الحياة المعاصرة من جديد على مدار الساعة ،فالناس في العالم يعيشون في غرفة واحدة لاتسع من يريد قراءة ما فاته من الصحف(اقرأ ما فاتني من الصحف) أو من يريد الدخول إلى هذه الغرفة متأخرا، إنه زمن الشباب اليقظ الذي يستيقظ مبكرا لتناول وجبة الفكروالمعرفة و هي طازجة (استيقظت على نداءات طالبتين دخلتا الغرفة ويبدو أنهما لاقتا صعوبة في إيقاظي).
بالفعل لا زمن للتراخي لأن الوقت ضيق لايرحم، والمواعيد أصبحت صارمة لاتقبل الانتظار( قالت إحداهما إن الوقت ضيق جداً، والمواعيد صارمة).
إن الكاتب جمال الغيطاني يريد إفشاء سر اعتزاله عالم الكتابة،لكن حب التفرد يمنعه من الإعلان عن ذلك صراحة،(كأنني اخشي أن أفشي سراً ائتمنني عليه من أجهل، من لا أعرف، بل انتبهت فجأة إلى توقي للقائه عند بدء شموله لي، وتزايد أوقات التوالج والانسحاب) حيث إن هذه الرغبة قد خرجت دون قصد منه، من خلال قصة نوم التي تؤكد للقارئ والمثقف العربي ضرورة الإيمان بفكرة التجديد،وضخ دماء جديدة في عروق كثير من المثقفين العرب الذين شاخوا بل هرموا، وآن الوقت لإزاحتهم وفسح المجال واسعا لمثقفين جدد يواكبون الأحداث وينامون نوم الذئب،يغلقون عينا ويفتحون الأخرى لمتابعة ما يجري في العالم من مستجدات .