نونية ابن القيم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 في هذا المقال نعيش ـ ومعنا قراؤنا ـ مع قصيدة واحدة من قرابة ستة آلاف بيت، والرقم صحيح نعم القصيدة من قرابة ستة آلاف بيت.

وأغرب من العدد أنها جاءت على بحر واحد هو "الكامل".. ورَوىّ واحد هو النون.. إنها نونية ابن القيم.

 وابن القيم هو شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي الشهير "بابن قيم الجوزية" الذي عاش ستين عامًا (من سنة 691هـ ـ إلى سنة 751م) وهو أشهر تلاميذ الإمام المجاهد ابن تيمية.

**********

 وهذه القصيدة التي بلغت قرابة ستة آلاف بيت على بحر واحد، وقافية واحدة، جاءت معرضًا طيبًا حافلاً بكثير جدًّا من أصول العقيدة والتوحيد، والقيم الإنسانية والخلقية، وتعظيم الوحي والحديث الشريف، وصفات أهله المشتغلين به، وأحوال الدنيا والآخرة والحساب، وحياة الأنبياء، ومكانتهم، وما أعده الله لعباده الصالحين في الجنة.

 ويحمل ابن القيم ـ في قصيدته ـ حملات صاعقة على الزنادقة والملاحدة، والفرق الضالة المضلة، والبدع والخرافات التي يأخذ العوام أنفسهم بها.

**********

 يستهل ابن القيم مطولته بما يمكن أن نسميه "الغزل الرمزي" وتكثر فيه المصطلحات "القضائية والشرعية ليخلص بعد ذلك إلى مسائل العقيدة والأخلاق، وما دار في هذا الفلك. يقول ابن القيم في مستهل قصيدته:

حُـكْـمُ  المحبةِ ثابتُ iiالأَرْكَان
أنَّي؟ وقاضِيِ الحسْن نَفذ حكمها
وأَتَـتْ شهودُ الوصل تشَهدُ أنه
فـتـأكَّد الحكم العزيز فلم iiيجد



مـا لـلصَّدود بفسْخ ذاكَ iiيَدانِ
فَـلَـذا أقـرَّ بـذلك الخَصْمان
حق  جَرَى في مجلس iiالإحسان
فَـسـخُ الوشَاة إليه من سُلطانِ

وكأنما شعر ابنُ القيم بجفاف هذه الكلمات الاصطلاحية، فشرع يوظف حاستهُ الجمالية في استكمال معزوفتِه الغزلية.

فيقول:

واهـا لقلب لا يفارقُ طيرُهُ iiالْـ
ويـظـلُّ يـسجع فوقها iiولغيره
ويبيت يبكي، والمواصل ضاحك
هـذا، ولو أَنَّ الجمـال iiمعـلق



أغـصـانَ قـائمةً على iiالكثبانِ
مـنـها  الثمارُ وكلَّ قَطْفٍ iiدَانِ
ويِـظَـل يشكو وهو ذو شكران
بـالنجـمِ هـمَّ إليه iiبالطيـرانِ

ومن ركائز الإيمان الاعتمادُ ـ بصفة أساسية ـ على كتاب الله وسنة نبيه، مصدرًا، ومرجعًا، والتزامًا في القول والعمل، وهذا ما سماه ابن القيم "بالهجرتين" إذ يقول:

واجـعـل لقلبك هجرتين، ولا iiتَنَمْ
فـالهجرةُ  الأولى إلى الرحمن iiبال
فـالـقـصدُ وجهُ الله بالأقوالِ وال
والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالـ
فَـيَـدوُرُ مـع قولِ الرسولِ iiوفعله




فـهـمـا  على كل امرئ iiفرْضَانِ
إخـلاص فـي سـرٍّ، وفي iiإعلانِ
أعـمـال  والـطاعات iiوالشكران
ـحـق الـمبينَ، وواضحِ iiالبرهانِ
نـفـيًـا  وإثـباتًا بـلا iiرَوَغـانِ

**********

ويؤكد ابن القيم ذلك في بيان حدود العلم الصحيح الذي يطمئن إليه المؤمن، وينفي عنه دَعاوَى المتعالين من الزنادقة والمتأولين تأولاً فاسدًا:

الـعـلـمُ قاَل اللهُ، قال iiرسولُه
ما  العلمُ نصْبُكَ للخلاف iiسَفَاهة
كـلا،  ولا جَحْدُ الصفاتِ iiلربنا
كـلاَّ  ولا التأويلُ والتبديلُ وال
كلا، ولا الإشكال والتشكيك وال




قـال الصحابةُ هم أولو العرْفانِ
بـينَ  الرسولِ وبين رأى iiفُلانِ
فـي  قـالب التنزيه iiوالسَّبَحَانِ
تـحـريـفُ للوحْيينِ iiبالبهتانِ
والوقفُ الذي ما فيه من iiعرِفانِ

**********

وهناك تجارة كاسبة لا تبور، تقود المؤمن إلى الجنة، والثمن هو العمل الصالح والتقوى وحسن الخلق.. وفي ذلك يقول ابن القيم:

يـا من تريد تجارة تنجيه iiمن
وتـفيده الأرباحُ بالجنات iiوال
فـي جنة طابتْ، ودامَ iiنعيمُها
هيئ لـها ثـمنًا يبـاع بمثلها



غضب  الإله وموقـَدِ iiالنيرانِ
حور الحسانِ ورحمةِ iiالرحمنِ
ما  لـلفناءِ عليه من سُـلطانِ
لا تـشتري بالزيف من iiأثمان

وفي شفافية روحية، وبحاسة إيمانية متوهجة يناجي ابن القيم الجنة أو "سلعة الرحمن" كما يسميها:

يـا سلعة الرحمنِ لستِ iiرخيصةَ
يـا  سـلعة الرحمن ليس iiينالُها
يـا  سـلعةَ الرحمِن ماذا iiكفؤها
يـا  سلعة الرحمن أين المشتري
يا  سلعة الرحمن هل من iiخاطب
يا سلعةَ الرحمنِ كيف تصبَّر الـ





بـل  أنـت غاليةُ على الكسلان
فـي  الألـف إلا واحدُ لا iiاثنانِ
إلا أولـو الـتـقوى مع iiالإيمانِ
فـلـقد  عرضت بأيسر iiالأثمان
فـالـمهر  قبل الموتِ ذو إمكانِ
خـطـابُ عنكِ وهمْ ذَوُو iiإمكان

**********

ويوظف ابنُ القيم كثيرًا من الأفكار والقيم التي عالجتها الأحاديث النبوية الشريفة، كما نرى في قوله إذ يصف الدنيا:

وإذا  أردتَ تـرى حـقيقتها iiفخذ
أدخل بجهدك إصبعا في اليم وانـ
هـذا  هُـوَ الدنيا كذا قال iiالرسو
وكـذاك مـثـلها يظل الدوح iiفي
هـذا ولـو عدلت جناح iiبعوضة
لـم  يـسق منها كافرًا من iiشربة





مـنـه مـثـالا ًواحـدًا ذا iiشانِ
ظـرمـا تـعـلـقـه إذا iiبعيانِ
ل مـمـثـلاً، والـحق ذو iiتبيان
وقـت الـحرور لقائـل iiالركبانِ
عـنـد الإلـه الحق في iiالميزان
مـاء، وكـان أحـق iiبـالحرمانِ

 (القائل: المستريح وقت القيلولة ).

***

 ومن قبيل الترغيب يفصل ابن القيم في عرض مشاهد النعيم في الجنة، وما فيها من مظاهر العظمة، والجمال، والجلال، فيتحدث عن بنائها، وأرضها، وحصبائها، وتربها، وصفة غرفاتها، وأرائكها، وسررها، وأشجارها وثمارها، وظلالها، وطعام أهلها، وشرابهم، وملبسهم، وفرشهم، وحليهم، وهو في كل أولئك يعتمد على ما جاء من آيات القرآن الكريم، وما جاء في الأحاديث النبوية الصحاح.

.. ففي طعام أهل الجنة يقول ابن القيم:

وطـعامهم ما تشتهيه iiنفوسهم
وفـواكه  شتى بحسب iiمناهم
وصحافهم ذهب تطوف عليهم


ولـحـوم  طير ناعم iiوسمان
يـا  شبعة كملت لذي الإيمان
بـأكـف  خـدام من الولدان

**********

وفي شراب أهل الجنة يقول:

يسقون فيها من رحيق ختمه          بالمسك أوله كمثل الثاني

مع  خمرة  لذت لشاربها بلا         غول ولا داء، ولا نقصان

**********

ومما قاله في ملابس أهل الجنة:

ولباسهم من سندس خضر ومن
بيض  وخضر ثم صفر ثم iiحم
لا  تقرب الدنس المقرب iiللبلى


اسـتـبـرق نوعان iiمعروفان
ر  كـالـرباط بأحسن iiالألوانِ
مـا لـلـبلى فيهن من سلطان

***

 وما قدمناه يعد قليلاً جدًّا، من كثير جدًّا، من نونية ابن القيم التي بلغت قرابة ستة آلاف بيت على وزن واحد، وقافية واحدة، وواضح أنه من شعر الفقهاء، وهو الشعر الذي يكون للفكرة فيه المقام الأول، ويتأخر فيه الجانب الجمالي والجانب الوجداني إلى المقام الثاني.

 وما أردت بهذا العرض إلا فتح الباب ـ بدراسة وافية لهذه النونية ـ يقدمها النقاد والباحثون , وخصوصا الشباب.