طفولة مُزّمِنةْ

قراءة في مجموعة ناصر الريماوي القصصية

سامح عوده/ فلسطين

[email protected]

- جدار من طين

- عروق الدالية

- قطار المساء

- جدار مائل ..

تمهيد ..

ناصر الريماوي من كتاب القصة الشباب الذين تميزوا بالمتابعة والمثابرة، فاستطاعوا ان يقدموا شيئاً للقارئ العربي، يلامس واقعه، بعيدا عن التكلف، والتقليد، وقد قدم ناصر الريماوي العشرات من نصوص القصص القصيرة لقيت إعجاب كثيرين من الكتاب والمتابعين، ربما يكون هذا الحافز الأساسي لاستمرار الكاتب في إبداعاته المتتالية، فهو يعرف أين يكمن شغف القارئ وبالتالي فهو يتجه إلى جذبه بالمادة المقدمة، في كل مرة يفاجئنا بنص مختلف، وهذا ما يذهل كثيرين ممن يتابعونه – وأنا منهم -!! لا يبدأ الصباح حتى اهرع إلى أثيره متأملاً ما حاكه خياله الإبداعي، ربما يظن المتابع لما أكتب بأن الريماوي كاتبٌ من جيل المخضرمين وهنا اقتضى الأمر التوضيح بان الكاتب الذي أقدم قراءة في قصصه هو من جيل الشباب وهو يعترف بذلك، لكن غزارة الإنتاج الأدبي واستمراريته هي التي جعلتنا نعده كالمخضرمين، ربما كان هذا الأمر عنصر قوة يحسب للريماوي لا يحسب عليه، فهناك مشوار طويل بدأه واعتقد أن البداية كانت ناجحة بشهادة كثيرين، يبقى أن ننوه إلى أن الكاتب إذا ما استمر بالوتيرة نفسها من الإبداع سيقدم نصوصاً أخرى لها جمالياتها الخاصة تضاف إلى سجل ابداعاته، وأنا أميل إلى توجيه الكاتب منذ الآن كي يفكر جيداً في إصدار عمل أدبي مطبوع، علما بأنه لم يقم بذلك حتى الآن ..

فسحه ..

 النص الجميل يأخذك معه مسافراً كمن يمتطي الغيم ويعتلي سحبَ السماء، تغرق في تفاصيل التفاصيل، وتذهب بسرعة البرق كي تعبر إلى خياله الفسيح، قد يكون النص الجميل كزهرة ياسمين تدهشك رائحتها ويسلبك النظر منظرها، فتذهب إلى أصلها وفصلها، بل ربما يسعفك الحظ لتكتب عنها طبيعة إحساسكَ كيفَ رأيتها وكيفَ تتخيلها بعد ان تغادرها، فهي تترك معلقاً بحبال من الأسئلة كلم اقتربتَ من نهايته ازداد طولاً، النص الجميل هو ما يتركُ صداه في أذن القارئ، ويتركَ عطراً في سمائه حتى ينقش على الواح الذاكرة، النص الجميل يمنحنا فسحة من الجمل ويدخلنا في طقوس جديدة حينما نعيشُ جو النص، وهذا الأمر يتعلق بالكاتب أولاً فهو الأقدر على جذبك " بمغناطيسه " الأدبي تغادر النص ويبقى ناقوسُ الاسئله يلهثُ للإجابة عنه، لكل طريقته، ولكل أسلوبه، وأعتقد كقارئ أنه كان بارعاً في جذبي لأكتب عن نصوصه ..

 فضاء ..

 من العبارات التي جذبتني تلك العبارة التي قرأتها لِ " جان كوكتو " بأن الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة , بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة ، وهذا ما رايته فعلاً في نصوص ناصر ريماي فهو بأسلوبه الأدبي وبحنكته القصصية استطاع أن ينبهنا إلى قضيه مهمة هي " الطفولة المزمنة " في عالمنا العربي والتي مازال منا من يذكر أنماط التربية الخاطئة في التعامل مع الأبناء، سلطة أبوية مطلقة، على طفل لا يملك الإرادة، قسوة في الحديث، وبعدٌ عن التقرب منه، وإعطائه إحساساً بأنه كيان له قيمته في المجتمع الإنساني، كيان من حقه ان ينعم بأمان يكسبه الهدوء والاستمرار، وإشاعة الأمل، فطمس شخصية الطفل مبكراً يجعل شخصيته هشة قابلة للكسر أو التشويه أمام أزمات الحياة ومصاعبها.

 في القصص الأربعة اختار الكاتب أربعة عناوين مهمة ذات طابع جذاب، جعلتها متوافقة ومضمون الكلام، والهدف العام الذي اختاره الكاتب كإطار نظري شامل هو " الطفولة " موجها بوصلته في أحداث القصص الاربعه ثم أمعن في التفاصيل، كمن اختار معزوفة شيقة يمتعنا بها وتنقل بين الأوتار في عزف باذخ، في كل مرة يعزفها على وتر مختلف عن الآخر بإيقاع خاص، مما يجعلنا نشعر بجمالية الأجواء التي نعيشها كلما انهينا فقرة وانتقلنا إلى أخرى ..

 القصص الأربع يجمع بينها تنظيم بنائي واحد وهو العنوان الشامل " طفولة مزمنة " مع اختلاف العناوين الأربعة الفرعية، إلا أن البناء الفني كنسق شامل يعتمد على المفارقة، فأسلوب الكاتب تنوع بين، التلميح لشخصية الأب، والتصريح لعوالم الزمان والمكان حيث أدخل عوالم الطبيعة وكل ما حدث بدقائق الوقت كي تساعده في الوصول إلى الهدف المطلوب وهو ان تكون مع القصص في هدفها العام، واعتماده على ال " الأنا " المفردة المشيرة لذاته والانا الجزء من كل كَمُشَكِلّ أساسي لشخصية النص ففي (جدار من طين ) -كنا صغارا - انا عني لم أصحُ - في قصته ( عروق الداليه ) بكيتُ بحرقه – وأضاف ال " هي " شخصية لارا ، وفي ( قطار المساء) أستفيق مصحوباً برغبة عارمة – و يشير الى الآخرين اسأل من حولي، وفي ( جدار مائل ) نستهلك الدقائق الباقية للفسحة، ربما تشابه الكاتب في بعض التلميحات الا انه اختلف في النهايات، فقد ترك للقارئ سؤالا يدهشه حتى وان ترك النص يبقى السؤال معلقاً ينتظر منه أن يمعن جيدا في فك رموزه، وهي حنكه أدبيه من الكاتب اختارها كي تبقي القارئ عالقاً في شباك النص ..

 شيء ٌ ما لفت انتباهي في بداية الأعمال الاربعه واظنني كنت ُ قارئاً جيدا للنصوص ألا وهو أن الكاتب رسم عالم الطفولة البريء بشكل تلقائي سهل وسلس بعيداً عن التعقيد فهو اختار كلمات جميله ، بليغة، بسيطة، تخدم النصوص باستعماله مفردات من الحياة العامة إذ ابتعد كل البعد عن " فذلكات " الكلام ورتوشه التي قد تفقد عالم البراءة جماليته، كما حاول التصريح أو التلميح لمكان الأحداث الذي هو الحارة التي تدور محاور القصص الأربع فيها، جو الحارة وعالمها التبسيطية ظهرت في بداية النصوص فأكسبت النصوص جواً دافئاً برغم ألم الأحداث .

 لا أنكرُ بأنه كان فذاً بارعاً، فقد استطاع أن يوظف مفردات كلام الناس البسيطة في نصوصه، وكأنه يعيدنا بذاكرتنا الآنية كي نعيش جو الطفولة كما هي، استحضار للماضي بكل تفاصيله، بكل عفويته، وبكل ما كان فيه من رموز وأشياء، بساطة الكلمات جعلت القاريء يعيش روح النص بحيث لا ينفصل عنه، يتوحد معه كروح في جسد لا تنفصل عنه ..

 في قصته الأولى جدار من طين - يقدم لنا الريماوي عملا متكاملاً درامياً، يتحدث فيه عن أحلام الطفولة ، فهي كانت تنهارُ أمام جبروت الآباء، والأهل، فموت فتاه يفهم منه انه انتزاع لتلك الفتاة من محيط ذلك الطفل الذي تعلق بها، دون أن يشعر، ودون معرفة ماهية الموت كالكبار، الطفل قد يدرك كذلك الجدار الذي توارت خلفه تلك الفتاه للمرة الأخيرة دون أن يعي لماذا؟! فيتعلق بذلك الجدار ظناً منه أنها هناك خلفه وستعود يوماً..!! وهو لا يدري أنه جدار لمقبرة، المشكلة أن الأهل يعملون على تهميش تلك المشاعر ، في هذه القصة حاول الكاتب أن يظهر شيئا بين عالم الطفولة البريء وعالم الآباء القمعي لكل شيء حتى لو كان حلماً، بسيطا عفوياً بريئاً ...

وفي القصة الثانية .. عروق الدالية بدأها بسؤال وانتهت بسؤال، صورت رغبات الطفولة من خلال سيطرة الأبوين ، ومحاولتهما العبث بعوالم الطفل الصغير، فحتى الحلم والتحليق في عالم ليس واقعاً ممنوع، كان الطفل متعلقاً بكل الأشياء في عالمه، فإليها كان يهرب من القسوة والقمع، كي يفرغ من غيظه، ظل الدالية والأرجوحة المعلقة بها، والعلب البلاستيكية التي كان يفرغُ جزءا من نشوته فيها، كل هذا لم يعد موجوداً في لحظات فلا المكان عاد موجودا ولا الدالية الخضراء التي تذكره بطفولته الخضراء موجودة، ربما وبطريقة التلميح اعتمد الإشارة إلي الطفولة الحزينة فشبهها بعنقود الدالية الحصرم الذي يعجز اللسان عن تذوقه، وطفولته السعيدة التي تشبه عنقوداً عذب المذاق ..

في القصة الثالثة قطار المساء – يبحر في عالم الطفولة الجميل المزركش ، ويرسم خيالاً شاسعاً عميقاً لعالم بريء ، لكن هذا الخيال يتوقف أمام شخصية الام القاسية وسلبية الاب بسبب انشغاله في أمور الحياة ، خاصة بعد فقد العائلة للابن الأكبر، هذا يظهر الاختلاف الشاسع بين عالمه وعالم والديه، فتبرز تلك العقد والهواجس بأشكال مختلفة منها التمائم والحرص الشديد على الطفل التالي ، مما ينعكس ذلك على حياة الطفل الثاني، وكيف انه سيكون مثل الأعمى ومثل المقعد وسيخرج للناس بلا خبرة، بسبب الحرص المرضي للأهل عليه، فالأنفاس معدودة عليه ومئات التساؤلات تدور حوله إن تصرف أي تصرف، وبالتالي لا يقدم على أي تصرف إلا قبل مراجعات، هذا الأمر يولد شخصيه ضعيفة مترددة، يرى العالم من حوله ذا رهبة وقسوة كالقطار المار على سكة حديد يدوس كل ما في طريقه، يدوس الذكريات الجميلة حتى تصبح كالحلم صعبة المنال، لقد أشار في تتابع الأحداث إلى الحاجز الذي يفصل بين الطفل وعالم والديه، لذلك كان اللجوء إلى الخرافة واحدة من الطرق للتعامل مع الطفل واحتياجاته ..

أما في القصة الرابعة .. فقد حاول أن يروي معالم الاضطهاد النفسي للطفل ليس من الأصدقاء بل من الأهل، الأب والأم، بعدم تقبل رغباته وميوله في التعليم، ربما يكون ذلك الاضطهاد غير مقصود، بإجباره على الدراسة في مدرسة غير التي يريدها ووسط زملاء ربما لا يرغب أن يكون بينهم، يمارسون هذا القهر النفسي بطريقة ما وهم لا يدركون بأنهم يقتلون ملامح تطور الشخصية في مهدها تهميش للمشاعر، عزل عن مجتمع الطفولة ليخرج الابن ضعيفاً في مواجهة أي تجربة له مع الوسط الخارجي وهو المدرسة..

قدم الريماوي أربعة مشاهد حقيقية لواقع طفولة برغم جماليته، ورومانسيته، وأحلامه، البريئة إلا انه يفتقد الحنان، أمام معتقدات الوالدين التي قد تكون خاطئة في بعض الأحيان، فهما يتجاهلان تلك العفوية المطلقة، ويمنعونه من الإبحار في عوالم نقية هادئة، لتمارس سلوكاً قمعياً غير مقصود، من خلالِ محاولة تشكيل الطفل حسب رؤاهم الخاصة، دون الأخذ بعين الاعتبار رغبات الطفل واحتياجاته، أو حتى مشاركته في اتخاذ أهم القرارات المصيرية التي تخص حياته ..

في الأعمال الأربعة التي قرأتُها بدى فيها واضحاً جمال الحبكة وروعة السرد، فالكاتب وضع أمامه هدفاً حاول إيصاله للقارئ فكان بارعاً في توجيه سهمه نحو الهدف الذي يريد، ولم يكن سهلاً في الإفصاح عن فكرة القصة إلا حتى ينتهي القارئ منها، فالمشهد لا يكتمل إلا بانتهاء النص، كمن يمسك حروف الكلام في معصمه فلا تهرب الفكرة منه، ولم يصرح بالفكرة العامة للقصة إلا عند الانتهاء منها، قناعتي التامة بان الريماوي لن يتوقف عند هذه النصوص الاربعه، فهطول حروفه سوف يمطرنا بنغم آخر على وتر آخر من " طفولة مزنه " لان طبيعة التحدي بارزة في نبرات كلماته..