ماركيز ويوسا: رحمةً بنا
نمر سعدي
كثيرةٌ هي الروايات التي أمرُّ بها عرضاً, كما تمرُّ الريح الجنوبية في أغنيةِ الشاعر الإنجليزي شلي, وأكثرُ منها الدواوين الشعرية, المتأرجحةِ في مدىً من التلاشي والانسياحِ المتوَّهم, من دون أن أجنيَ منها قطرة رحيقْ.
كثيرةٌ هي الروايات التي لا تستحقُ منَّا أن نضيعَ ساعةً واحدةً في الوقوفِ على لا جدواها وعدمِّيتها,وقليلةٌ الروايات العصيةُ المخاتلة للذات.
ولكنني أجدُ دائماً الصنف الثاني منها وأفرحُ بهِ أيمَّا فرحٍ, محتفياً بفرادتهِ وعمقِ مغزاه وفلسفتهِ المؤَّسسةِ على أفكارنا وبداهتنا الإنسانيةِ .
لذلكَ أعلنُ أنهُ إذا ما إستمرَّ ضغطُ غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي وماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي على مخيَّلتي فسأستقيلُ من الحلمِ يوماً, ومن البحثِ عن الشعر ومنابعِ الجمال والمثاليةِ واستدعائها .
دائماً أحسُّ بأنَّ هناكَ ذاكرةً إيروسيَّة ملوَّنةً بألوانِ الطيفِ تولدُ فيَّ, في مكانٍ ما من وجداني, وتضغطُ عليَّ بيدٍ حريريةٍ خفيفةِ الندى, تمسُّ روحي وتزوَّجُ الجمالَ للحريَّةِ والثورة للعدالةِ الإنسانيةِ المطلقةْ .
في هذا الوقتِ بالذاتِ لا تستهويني إلاَّ الحدَّة المفرطة في إكتشافِ معنى الحياةِ وسرِّ جمالها وسعادتها, ولا أصلُ إلى الضالةِ النشودة من دونِ أن أركبَ على حصانِ هذين الكاتبينِ المُجنَّح .
كتابتهما لا ينقصها شيءٌ من لذعِ بهار أمريكا اللاتينية, لا تسبحُ إلاَّ في فضاءٍ من سحرِ الوقوفِ على أعلى قممِ النفسِ الشعوريةِ, ولا ترفرفُ إلاَّ بأجنحةٍ من نورٍ نسائيٍّ وتساؤلٍ وتفاؤلْ.
في حضرتهما لا تستطيعُ التفلَّتَ من تحرِّشِ الحقيقةِ بكَ, لا تستطيعُ إلاَّ أن تصرخَ معهما كالذئبِ في براري الشتاءْ .
هنالكَ إلمامٌ عبقريٌّ بخبرةٍ فرديةٍ قلمَّا نجدها في أعمقِ الرواياتِ الحديثةِ , وأكثرها احتفاءً بطبيعةِ المشاعرْ,هنالكَ حديقةٌ للحواسِ يانعةٌ .
ماركيز ويوسا جناحانِ أزرقانِ يحلِّقانِ في سماءِ الروايةِ اللاتينيةِ الإسبانيةِ ويرفعانها عالياً عالياً حتى الشمس, كثيراً ما أثقلا دمي بالنوارس.
في لحظاتٍ بلورِّيةٍ ثمينةٍ تقدسُّ مشاعركَ وترفعها كالقربانِ الأخيرْ, هما لا يدعاكَ تتنصلُّ من مهنةِ الحُبِّ الملازمةِ لأعضائكَ, ومن رائحةِ المرأة الموعودةْ, التي استقالتْ منكَ منذ زمنٍ بعيدٍ في فضاءِ نصٍ مفتوحٍ على التجلِّياتْ .
منذُ أن حملني ماركيز في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ, إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والإيحائيةِ, منذ أن أبحرَ بي في بحر يوليس , وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق, لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزولْ .
إستعنتُ بيوسا مرةً في دفاترِ دون ريغو بيرتو "التي كرَّستُ لقرائتها شهرين كاملين لكثافة إيحاءاتها مع أني عادةً ما أقرأ روايةً في يومٍ واحدٍ" ولكنني لم أذهبْ إلاَّ بعيداً نعو علاءِ الضبابِ, علاءِ التماهي في الروايةِ حتى النخاعْ.
كنتُ أقرأ وأعيد قراءة ما أقرأهُ ثانية ً , العمق في هذه الرواية عصيٌّ , والرهافة في تكثيف الأحاسيسِ عاليةٌ وتداعيات الحلم موجعةٌ هناكَ بعد فلسفي ورمزي للجنس والحبِّ, هناكَ إعتراف بخسارةٍ ما, أو غضبٍ مُبرِّحٍ " كتبها يوسا بعد فشلهِ في إنتخاباتِ رئاسةِ بلدهِ البيرو عام 1990".
لوكريثيا هنا وهي بطلة رواية يوسا تحركُّ مجرى الأحداثِ بهدوءِ كما يحرِّكهُ عجوز ماركيز "الذي تستيقظُ غريزتهُ وبقوَّةٍ مفاجئةٍ في نهاية الشوط" في ذاكرة الغانيات الحزينات, وفونتشيتو يلتقي لقاءً عفويَّاً مع ديلغادينا بطلة ماركيز أيضاً .
ولا أدري ما هو سبب التهويم على أيغون شيلي الرسام النمساوي الخليعْ , أهو من بابِ الاحتفاءِ بموتيفِ الجسدْ والذوبانِ في هيولى الجنسِ ؟
هناكَ مكانٌ فسيحٌ في الروايةِ لهُ وكأنها كُتبت من أجلهِ وحدهُ, ولتقصِّي رغباتهِ وشهواتهِ وتفكيكِ غموضِ رسومهِ وموديلاتهِ .
ولكنني لا أعرفُ بالضبطِ أين يلتقي كلا الكاتبين وأين يفترقانْ وما هيَ أوجه الشبهِ بينهما بالرغم من أنَّ أحدهما يتقاطع معِ الآخر بصورةٍ خفيَّةٍ, ويتداخل معهُ في تآلفِ وتناغمٍ مدهشٍ, وفي أنبلِ وأعلى تضحيةٍ للإبداع, " أن تكتبَ بحبرِ روحكَ ".
كلاهما يرتكزُ في أعمقِ أعماقهِ على نقطةِ ضوءِ إيمانهِ وتبتلِّهِ لما يصنعُ, لينجزَ عملهَ على أتمِّ وجهٍ وفنٍ ودهشةٍ وغرابةٍ, وهنا أستذكرُ سفَرَ ماكيز إلى القريةِ النائية في بلدهِ كولومبيا ليستحضرَ أحلام وتخييلاتِ كتابهِ الرائعِ أو ملحمتهِ الخالدة "مئة عامٍ من العزلة "وهناكَ انقطعَ عدة شهورٍ ليكتبها بعدَ أن إمتلأ بها وعاشها روحياً .
لن أذهب إلى ما ذهبَ إليهِ البعض بأنَّ ماركيز متأثرٌ ببعضِ كتاباتهِ وخصوصاً هذه الروايةِ الفذَّة, بألف ليلةِ وليلة " سفر العرب" أو هو مشتبكٌ بصورة أو بأخرى في رواية ذاكرة غانياتي الحزينات بعناقٍ واضحٍ وجليٍّ بالكاتب ياسوناري كاوباتا الذي يوردُ في مستهلِّ روايتهِ الآنف ذكرها مقطعاً افتتاحياً لهُ, الحقيقة أنني لم أقرأ بعد ياسوناري لأحاول الربط بين الاثنينْ, واختزال المسافةِ بين بطلة ماركيز "ديلغادينا" وبينَ بطلةِ ياسوناري كاوباتا في روايتهِ " بيت الجميلاتْ النائماتْ ".
أظنُّ أن يوسا وكاوباتا وماركيز يلتقون جميعهم تحت جسر واحدٍ, هو جسر توظيفِ الجنسِ في الأدبِ وفلسفتهِ بلغةِ الحلمْ .
النص الحقيقي هو في رأيي ذلك النص الذي يأتي من حنايا الطفولةِ, من أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران .
هو ذلك الطفل الأبدي الذي يعيشُ في الطفولةِ, مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ والهشِّ الذي يحتفي بهِ يوسا في دفاتر دون ريغو بيرتو, عبث عاشقي الكواكبِ والجبال ووعدِ المواطنين بالقمرْ.
الرائعِ في أعمالهما أنها تأتي في أغلبِ الأحيانِ من المُتخيَّل, كما يقولُ ماريو فارغاس يوسا في حوارٍ معهُ بأنَّ الرواية هيَ مملكةُ الكذب, بينما الشعر هو عاطفة الإنسانيةِ الحقيقية .
ثمَّةَ اندفاعٌ نحو الحلمِ البريء, والفراشاتِ الصفراءْ , يجعلكَ تلمسُ هذهِ الطاقة البالغة القوَّةِ والهائلةَ الساكنة المفردات بحركةٍ وانفعالٍ عجيبْ .
في الروايات التي ذكرت هنا لم أتخيَّل نفسي لحظةً واحدةً أقرأ نثراً عادِّياً أو ما يقارب النثر , هو نمطٌ فريدٌ جديد, شعرٌ وأجملٌ من الشعر , تجربة لا محدودة ومفتوحةُ التأويلْ على الاحتمالاتْ.
تذويبُ الكلامِ هنا يعطينا أشجاراً ونساءً دائراتٍ وخارجاتٍ عن مدارِ الرتابةْ, أشياءً غامضةً, واضحةً , تكتظُ فينا بالزهورِ , حتى لننزفَ شذى ومخلوقاتٍ من وهجٍ وأقواسِ قزحٍ وبياضٍ وياسمينْ .
ها أني أكتظُ بالعبارةِ والمعنى , بالإشارةِ واللمحِ .
لم أكن أحسبُ أنني سأتلاشى مع كلِّ هذه الجماليات المتقنةِ حدَّ اللعنةِ والهذيانْ.