سيميائيات الأهواء
سيميائيات الأهواء
دراسة قصة "أغنية هاربة"
للقاص صالح السهيمي مثالا
عبد المجيد العابد
"هذا قتيل الهوى، لا عقل ولا قود"
ابن حزم
تأطيـر
ساهمت المدرسة الفرنسية في السيميائيات بقيادة اللتواني الأصل ألجرداس جوليان غريماص بفاعلية في انفتاح المنهج السيميائي على علوم شتى، كما عملت أيضا على تجديد النظر إلى التجربة الإنسانية برمتها، وقد سار أتباع غريماص في هذا الاتجاه كجوزيف كورتيس وجون بتيتو كوكوردا وجون كلود كوكي وجاك فونتاني، الذي طور بمعية غريماص نظرية من صميم النفس الإنسانية، عرفت في التصور الباريسي بسيميائيات الأهواء، وهي منهج مستحدث في دراسة الأهواء، للانتقال من دراسة حالات الأشياء إلى حالات النفس، وهو نفسه عنوان كتاب أنجزه فونتاني بمعية غريماص صدر سنة 1991(سيميائيات الأهواء: من حالات الأشياء إلى حالات النفس)، قام الأستاذ سعيد بنكراد بترجمته أخيرا.
وقد تم الانتقال، بفعل هذا التصور الجديد، من البناء النحوي الصارم لمفهوم العامل، إلى بناء مرن يأخذ بعين الاعتبار النفس البشرية وهي تعمل، أي العامل بمختلف ميوله النفسية المتعددة، من مشاعر وأحاسيس ورؤى وجدانية مخصوصة، كشفا للبعد الانفعالي في تحديد الواقعة السردية، وتحليلها وتقويمها، تقويما ينسجم وطبيعة البنية النفسية للعامل وهو يعمل، ومن تم أصبح الاعتماد أساسا على الخطاب في أبهى تجلياته التداولية، التي تضع مختلف الشروط المقامية في التعامل مع الوقائع الإنسانية ومنها النفس.
فإذا كان غريماص قد اهتم في تصوراته الأولى بالعام، فبحث في السردية الموجهة لكل الأفعال الإنسانية، التي تشكل البنية العميقة لهذه التجربة أو القدرة الكامنة، فإنه في سيميائيات الأهواء، اعتمد الخطاب والتجلي، أي التفرد، وهو بذلك انتقل من البحث في العام، إلى الكشف عن المخصوص، وفق سيميائيات تلفظية تضع في الحسبان المحفل، أي الانتقال مما يجمع إلى الخاص المتفرد الكلامي، الذي يفرق الذوات بعضها عن بعض ويميزها.
سنعتمد مقتضيات هذا التوجه النظري في دراسة قصة "أغنية هاربة" لصالح السهيمي، وهي قصة وردت ضمن مجموعته القصصية، التي سميت بهذا الاسم، ضمن إصدارات النادي الأدبي بحائل، السعودية 2010.
التحليـل
يعظم البعد النفسي في قصة "أغنية هاربة"، من خلال التركيز على مجموعة من الثيمات الاستيهامية للنفس البشرية، التي تدل عليها الوحدات المعجمية الآتية:(الحنان، الحب، البكاء، الحزن، الألم، الشعور، الاغتراب، الكآبة، الإحساس باليتم، النفي)، مما يجعل القصة موضوعا لسيميائيات الأهواء، للبحث في الأبعاد الانفعالية التي يحبل بها النص، من خلال تداعيات الشخصيات وتفاعلها فيما بينها، ومن تم سنعتمد الثيمة الاستهوائية المهيمنة في النص، أي الحب وباقي الانفعالات الأخرى مرتبطة بها، وفق السلمية الآتية:
مقاطع النص الاستهوائية
يعتبر التقطيع، في التصور السيميائي عموما، عملية إجرائية يتمكن من خلالها الباحث القبض على الخيوط الناظمة للنص، ويعتبر المقطع وحدة حكائية استهوائية ضمن حكاية أكبر، تعد مجمل النص الاستهوائي الحاضن لعدة مقاطع وثيمات استهوائية؛ يمكن التمييز في هذا النص بين ثلاث حالات نفسية:
حالة بدئية: تعد وضعية استهوائية أولى، تربط بين عنصري الإقناع: المرسل من جهة، والذات المنفعلة من جهة أخرى، وهي مرحلة أولى تعد تحفيزا انفعاليا، دافعه البنوة والأمومة، حيث الذات المستهوية (المحب)، يعيش انفصالا عن الموضوع(دفء الأمومة)، وهو انفصال بالعمل لا بالنفس، فليس هاهنا البعيد عن العين بعيد عن القلب.
حالة وسيطة: تعتبر وضعية استهوائية وسيطة، تجمع عدة انفعالات باعتبارها مرحلة الإنجاز الاستهوائي، الذي يكتنفه التقاطع والتوتر بين انفعالات متضادة، أساسها القلق الناتج عن البعد والنأي:
"كنت أنام وأصحو على هذا الشعور الحزين، أحد عشر عاما تجرعت فيها هموم الغربة" ص 9
حالة نهائية: مرحلة استرجاع التوازن إثر الخلل الانفعالي المحدث في الحالة الوسيطة المرتبطة بالغربة والبعد، غير أن هذا البعد لم ينف توترات الذات وانفعالاتها الوجدانية، بالنظر إلى الحب الجبلي، المتعلق بالأمومة حين الرجوع بعد ويلات الاغتراب والنأي.
معجمة ثيمة الحب في القصة
تقوم معجمة ثيمة الحب من خلال حقل معجمي، يعد المجموع المكون من اللكسيمات التي تصنفها اللغة العربية، لغاية تعيين التمظهرات المختلفة لفكرة أو موضوع ما، ويرتبط باستعمال الكلمة في النص بمختلف الحمولات الدلالية المرتبطة بها، نميز فيها بين جهة الإمكان، أي ما يمكن أن يتحقق، وجهة للتحقق، أي ما ندركه متحققا.
يحضر البعد الانفعالي في النص من خلال اللكسيم(الحب)، الذي يدخل في تشاكل معجمي مع ألفاظ أخرى سلف ذكرها، باعتباره هوى غير متحكم فيه، كما أنه محرك لا يتحرك، وتصدر من خلاله انفعالات أخرى، تعد نتيجة من نتائجه: كحزن الوالدة وبكائها وحنينها:
"(ارجع يا كل الحب) أغنية تهرب في الأفق المجهول" ص 9
فإذا أكدنا الحب، فإننا ننفي البغض بالضرورة، ونؤكد الود الذي ترغب فيه الذات المستهوية في علاقتها بالموضوع القيمي، كنتيجة انفعالية تربط بين الذات والموضوع، وهي رغبة مبنية على الميل بالإيجاب الذي تعمره الغبطة والسرور، أي إشباع الانجذاب الجبلي نحو الأم وفق المربع الاستهوائي الآتي:
الحب المسلوب تضاد الحب
اقتضاء تناقض اقتضاء
لا حب شبه تضاد لا حب مسلوب
إن هذه العلاقات نفسها خاضعة لطبيعة هذا الحب الأمومي، حيث نلاحظ من خلال المربع أن (الحب) يدخل في علاقة تضاد مع (الحب المسلوب)، وليس (البغض) في هذه الحالة المخصوصة واردا، كما يدخل في علاقة تناقض مع (لا حب)، والأمر نفسه بالنسبة لـ(الحب المسلوب). وقد اعتمد المسار الاستهوائي في النص على انتقاء مسار موجه وفق الترسيمة الآتية:
الحب المسلوب الحب
لا حب مسلوب
حيث يتم الانتقال بالضرورة من حالة الحب المسلوب (الكينونة)، وهي حالة بدئية، إلى حالة وسيطة (لا حب مسلوب)، تشكل مرحلة توتر انفعالي، إلى مرحلة أخيرة (الظهور)، وهي مرحلة إعادة التوازن الانفعالي:
"ارتد بصرها عندما ألقيت (ثوبك القديم) على وجهها" ص12
الكون القيمي للذات المستهوية
تختلف لفظة الحب من حيث المضامين الأكسيولوجية التي تحملها إلى الكون القيمي الذي أنتجها، فالحب في الثقافة العربية عموما، ليس كما في ثقافات أخرى، حيث يتجاذبه المقدس والمدنس، إذ نميز فيه بين ما هو رباني، وما هو جبلي فطري، وما هو شهواني مرتبط بالهوى الذي يعني فقدان العقل والحلم، واتباع الهوى قرين الضلال، غير أن للحب في ثقافتنا العربية سهام غير مخطئة، من لم تصبه اليوم أصابته غدا، فكل واحد متصل به بسبب، فهو مفتاح الشعر، لذلك تعظم المداخل المعجمية التي ترادف إلى حد ما هذا اللفظ (الحب)، كما أن للحب مراتب. وعند المتصوفة مقامات للسالكين ينتهي بالحلول، وتتجاذب الحب مشاعر متناقضة في ثقافتنا بين اللذة والألم، فالحب جنون والحب أعمى، ومن الحب ما قتل، وإذا أحبك الله كان أذنك الذي تسمع بها، وعينك الذي تبصر بها، ويدك التي تبطش بها، ونجاك من كل مكروه. وثقافتنا العربية الإسلامية مليئة بالمحبين والعاشقين والهائمين والمجانين من الشعراء والفقهاء والمتصوفة وعامة الناس وأذناعهم، حتى إنهم أفردوا رسالات في معرفة سيماء المحبين، وتفننوا في وصف من يحبون، وكلها قيم وصور تحبل بها لفظة الحب داخل الكون القيمي العربي...
النموذج الاستهوائي في النص
إن الانتقال الموجه الذي أشرنا إليه سالفا في البنية الاستهوائية للنص، تفرضه عوامل مؤنسنة قائمة بهذا الفعل الذي يجمع بين العمل والنفس(الوجدان)، وهذه الفواعل نجملها في ستة، لا أقل ولا أكثر، تسهم جميعها في بناء الواقعة الاستهوائية(الحب)، وتقوم بأدوار مختلفة بحسب علاقتها بالذات المستهوية، نميز فيها بين المرسل(البنوة)، الذي يقوم بدور تحفيز العامل الذات(المحب) في طلب الموضوع (دفء الأمومة)، والعامل المرسل إليه(الود والوصل)، وهو المستفيد من إنجاز العامل الذات المستهوي، ثم العامل الذات المستهوي الراغب في الموضوع، فالعامل الموضوع الذي يشكل موضوع الرغبة بالنسبة للعامل الذات، ثم العامل المساعد (الحنين)، والعامل المعاكس(الصرم والنأي)، الذي يعيق الذات في تحقيق الرغبة.
تجمع بين هذه العوامل ثلاث علاقات داخل البنية الاستهوائية(الحب): علاقة تواصل بين المرسل والمرسل إليه، وعلاقة رغبة بين الذات والموضوع، وعلاقة صراع بين الذات والمعاكس، وفق النموذج الاستهوائي الآتي:
المرسل الموضوع المرسل إليه
(البنوة) (دفء الأمومة) ( الود والوصل)
المساعد الذات المعاكس
(الحنين) (البعد والنأي)
الترسيمة الاستهوائية في النص
يقوم المسار الاستهوائي على الانتقال من حالة انفصال الذات عن الموضوع، إلى حالة اتصال به، يتطلب هذا التحول في الحالة من قبل الذات المستهوية برنامجا استهوائيا، وهذا يفترض أن يكون العامل الذات محفزا من المرسل، يقنعه فيقتنع بالإنجاز، نسمي هذه العملية تحفيزا أو فعلا للفعل، حيث قام المرسل المحفز(البنوة) بإقناع معنوي للذات(المحب)، ولابد بعد ذلك للعامل الذات المستهوي من تملك الشروط الضرورية لإنجاز الفعل، وفق قيم جيهية مجملة في أربع قيم: وجوب الفعل، والقدرة على الفعل، ومعرفة الفعل، وإرادة الفعل، وتسمى هذه الشروط والقيم الجيهية قدرة، أو كينونة الفعل، إذ نلاحظ أن العامل الذات ممتلك لهذه القيم امتلاكا جبليا (البنوة). وبعدما أصبح العامل الذات المستهوي قادرا، يمكنه أن يقوم بإنجاز الفعل، أو فعل الكينونة؛ والإنجاز عملية تحقق لحالة، فنحن ننتقل من الممكن(التحفيز) إلى المحين (القدرة) إلى المحقق( الإنجاز). وهذا الانتقال خاضع لبنية جدلية قائمة على الصراع(التوتر الانفعالي في الغربة)، وينتصب التقويم الاستهوائي الجزاء أو كينونات الكينونة كآخر مرحلة في الترسيمة الاستهوائية، فهو الحكم على الإنجاز(لقاء دفء الأم).
سميأة الفعل الكلامي الاستهوائي
لا يمكن للفعل أن يكون فعلا كلاميا بحسب فلسفة اللغة والتداوليات إلا إذا خضع لثلاثة معايير رئيسة، أن يكون مسندا إلى المتكلم لا إلى غيره، وأن يكون مصوغا في الزمن الحاضر، وأن يكون بمجرد التلفظ به يقتضي فعلا أي إنجازا، ولعل هذه المعايير ما يجعل الفعل الإنجازي يخضع للشروط والمقامات التواصلية التي تنتظمه، باعتبارها بنية تلفظية، وبما أن سيميائيات الأهواء تحتفي بالتلفظ، فإنا نجد في البنية الاستهوائية لهذا النص محفلا غالبا يتعلق بلا اندماج استهوائي، حيث تبقى الذات المستهوية بعيدة عن محفل الدفء الأمومي، وترغب في اندماج استهوائي. وهذا ما جعل النص من أوله إلى آخره يقوم على هذا اللااندماج، مما فرض على الذات المستهوية توترا انفعاليا بالغا:
المنفى هنا جميل، لا أشعر فيه بالألم، سوى أني أتدثر بهمي الذي غدا شبحا يفسر أحلامي الباردة، وكأن الطير تقترب من رأسي، لتشرب من كأس وحدتي الآخذة في صقيع مهول، حيث لا ماء هناك، وزمهرير المشاعر يطوح بالخوف عاليا" ص 10
إن هذا المقطع الطافح بالأفعال الكلامية، يبئر مدى توتر الذات جراء الغربة، مما يجعلها تهرب من الواقع الحقيقي إلى بناء واقع استيهامي أساسه الأمل، ولعل هذا ما جعل ثيمة الحب في النص لا تحيل إلى النكوص والتقهقر، بل ممتدة نحو المستقبل الأمل، الذي جعل الذات في الأخير تصل إلى مرحلة الإشباع والتوازن التام.