حافظ إبراهيم والقصة الشعرية
حافظ إبراهيم
والقصة الشعرية*
أ.د/
جابر قميحةأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وخليل مطران هم فرسان الشعر الثلاثة في أواخر القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وانفرد كل منهم بلقب اشتهر به على مستوى الوطن العربي: فشوقي هو أمير الشعراء، وحافظ هو شاعر النيل، وخليل مطران شاعر القطرين، أو شاعر الأقطار العربية.
"وكان نبوغ حافظ من بدء أمره إلى نهايته كالمصباح الوهاج وراء ما مر به من حوادث خاصة، وعامة، فبرز نوره تارة في لون قاتم، وطورًا في لون زاهٍ ساطع، وكان مرمى أشعته آنا يقصر فلا يجاوز حد الأفق القريب، وآنا يطول حتى يعد أبعد مدى في آفاق الخيال تبعًا لبواعث نفسه"[1].
وما نقدمه في هذه الصفحات لا يمثل دراسة في حافظ إبراهيم، وشعره.
ـ فهذا ما لا يتسع له المقام ـ ولكنه بحث موجز غاية الإيجاز في علاقة حافظ إبراهيم بالقصص الشعري، وحظه من هذا اللون الفني، وتحديد موقفنا النقدي مما صاغه حافظ في هذا المجال إن وجد.
ولعل من أهم الدوافع التي حدت بنا إلى بحث هذا الموضوع في شعرها حافظ هو ما كتبه أحد النقاد المعاصرين[2]، من أن "حافظ" لو اتجه اتجاهًا إلى الشعر القصصي والمسرحي "لكان من شعره ثروة روائية باقية؛ لأنه تناول مآسي مصر الاجتماعية، وأمانيها القومية، وسعيها للحرية وجهادها في القضاء على الاحتلال وفوزها بالاستقلال؛ ولأنه على قدرة بارعة في دقة الوصف، والقصة والمسرحية تعتمدان على الوصف، وهما من الأدب الوصفي، لا الأدب الإنشائي"[3].
وهو رأي غريب حقًّا؛ لأنه يصطدم بالواقع الأدبي لحافظ إبراهيم. ومن السهل أن نناقش هذا الرأي من وجهين:
: الأول أن القصة والمسرحية ـ وإن اعتمدتا إلى حد كبير على الوصف ـ يعتمدان أساسًا على ملكة الخلق والابتكار، والقدرة على التركيب والتعقيد، والإ لجاز أن يكون كل شاعر بارع في الوصف قصاصًا وأو تمثيليًا.
والأغراض الاجتماعية والقومية، والسياسية، التي طرقها حافظ لا يمكن أن تتخذ دليلاً على قدرة الشاعر، أو استعداده للون القصصي أو التمثيلي.
أما الوجه الثاني: فهو أن الشعر القصصي والمسرحي يحتاج لثقافة واسعة، ودراسة عميقة، وتذوق رفيع للأدب الدرامي العالمي. وهذا ما لم يتوافر لحافظ، وما كان حافظ بإمكاناته الفكرية والثقافية المحدودة الضيقة ليستطيع أن يضرب بسهم وافر في هذا المجال. وهو على هذا الاعتبار أعجز من أن يجاري أحمد شوقي، في الشعر التمثيلي، أو يجاري خليل مطران في "القصة الشعرية"[4].
ولعل في انصرافه عن هذين الفنين خيرًا كثيرًا للشعر العربي، ولحافظ نفسه، فعاش فائقًا في الشعر القومي والشعر الاجتماعي، والمراثي.
وقد اعترف الناقد طاهر الطناحي نفسه بهذه الحقيقة إلى حد مناقضته مقولته السابقة: فهو يرى أن "حافظًا كان من طبعه الكسل، وكان يشكو عدم التشجيع، بل صادف في شبابه الكثير من التثبيط والإهمال ـ والاضطهاد ومعاكسة المحتلين الإنجليز، فكان يكافحهم بقصائده الوطنية والسياسية، وبكى واشتكى لحظه العاثر، ثم شغله رثاء زعماء الوطنية، والمجد الوطني عن أن ينصرف إلى أدب القصة والمسرح، الذي يحتاج إلى الوقت الكافي والنفس الهادئة المطمئنة"[5].
على أن قدرة حافظ على الوصف كانت محدودة المدى قريبة الأبعاد، فكان يعتمد في أغلب أوصافه على الرؤية البصرية اللاقطة، لا الرؤية الشعرية المستبطنة التي تعمق إلى ما تحت السطوح الممتدة. وهذا ما تنبه إليه الأستاذ أحمد أمين إذ حكم على خيال حافظ بأنه كان "خيالاً قريبًا، قلل حظه من الابتكار، وقلل حظه من التصوير، قصر خياله عن أن يغوص في باطن الشيء. فيصل إلى مكان الحياة منه، ثم يخرجه إلى الناس كما يشعر به، وقصر عن أن يحلق في السماء، فيصور منظرًا عامًا يجذب النفوس إليه"[6].
ولكن ديوان حافظ لم يَخْلُ من الشعر القصصي، وهو لا يشغل من ديوانه الضخم إلا صفحات قلائل؛ لأنه ـ كما ذكرنا آنفًا ـ لم يكن يملك الأداة التي تمكنه من أن يجعل من القصص الشعري غرضًا شعريًّا يقف على قدم المساواة مع أغراضه الشعرية الأخرى التي بَزَّ فيها كثيرًا من شعراء عصره.
ومن أشهر قصائده القصصية قصيدة رعاية الأطفال، وقد استهلها الشاعر بقوله:
شبحًا أرى أم ذاك طيفُ أمست بمدرجة الخطوب فما لها حـسرى تكاد تعيد فحمة ليلها ما خطبُها عجبًا وما خطبي بها | خيالِ لا، بـل فـتـاةٌ بالعراء حيالي راعٍ هـنـاك، وما لها من والي نـارًا بـأنـات ذكـين طوال مـا لي أشاطرها الوجيعة مالي؟ |
ويسألها الشاعر عن حالها فتخبره أنها حاملٌ لم تذق "طعم الغمض منذ ليالِ" بعد موت أبيها وأمها وعمها وخالهأ، فيحملها حافظ إلى دار "رعاية الأيتام" حيث تجدُ قومًا جبلوا على الرحمة والإنسانية والحنان. ويُسهب حافظ في الثناء عليهم في أكثر من عشرين بيتًا، ثم يختم قصيدته بقوله:
والمحسنون لهم على إحسانهم يوم الإثابة عشرة الأمثالِ
وجزاء رب المحسنين يجل عن عد وعن وزن وعن مكيال
وإذا استسغنا عشرة الأمثال فإن الذي يصعب استساغته هو "العد" و "الوزن" و "المكيال". هذه المعايير التي تصلح عنوانًا أو عناوين لدرس حساب في المرحلة الأولى من التعليم. ولنغض الطرف عن هذه النثرية الدارجة في الأسلوب لنرى هذه الصورة الغارقة في المبالغة المضحكة:
فحملتُ هيكلَ عظمها وك أنني حُمِّلتُ حين حَمَلت عود خلال
أمشي وأحملُ بائسين فطارقٌ باب الحيـاة ومؤذن بـزوال
نعم.. "عود خلال" مع أن المرأة كانت حاملاً في أيامها الأخيرة، ولا أدري كيف ستكون صورة المرأة بعد أن تضع عنها حملها، وينفصل عنها وليدها، فيخف "وزنها" عن ذي قبل. والبيت يذكرنا ببيت المتنبي المشهور:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجلُ لولا مخاطبتي إياك لم ترني[7]
ولا جرم أنه من الظلم الفادح للفن أن نقيم هذه القصيدة كـ "قصة شعرية": فالطابع الغنائي غالب عليها، والأفكار معروضة بأسلوب تقريري مباشر، والخيال تسجيلي سطحي بصري، ليس فيه تحليق يشدّ المشاعر. وإن لم تخل من بعض الطوابع القصصية الناصلة.
وفي نفس الفلك تدور قصيدة قصصية أخرى هي "ملجأ رعاية الأطفال"[8]. وكذلك محاورة شعرية بينه وبين خليل مطران في حفل أقامته جمعية "رعاية الطفل" بدار الأوبرا المصرية[9].
يقول أحمد أمين عن حافظ "لقد حاول أن يخلق بخياله قصة، ولكنها خرجت قصة عرجاء، تتخلج على الأرض، ولا تسبح في السماء، قريبة المنال، مضحكة التصوير"[10].
ويعني مقدم الديوان "القصة" التي استهل حافظ بها مدحته للبارودي[11]. وفي مستهلها يقول:
وفـتانةٍ أوحى إلى القلبِ تـيـمـمتها والليلُ في غير زيه سريتُ ولم أحذر وكانوا بمرصد | لحظُهافراح على الإيمان بالوحي واغتدى وحاسدُها في الأفق يغري بي العدا وهل حذرت قبلي الكواكب رصدا؟ |
واستطاع العاشق أن يتخطى الأحراس من قوم حبيبته، وقد شعروا به، ولكنهم تظاهروا بالنوم حفاظًا على حياتهم أن يوردها موارد الهلاك، وتعجب حبيبته من شجاعته الخارقة، وتزيد إعجابًا به وحبًّا له، فتميل عليه لتغريه بفتنتها:
فمالت لتغريني ومالأها الهوى فحدثت نفسي والضمير ترددا
وهنا يلتفت حافظ بشعره إلى "أستاذه" محمود سامي البارودي فيقول:
أهمّ كما همت فأذكر أنني فتاك هداك إلى الهدى
وينطلق بعد ذلك إلى مدح البارودي بعشرات من الأبيات:
ونلاحظ على هذه القصة الشعرية ـ أو بتعبير أدق: هذه القصيدة القصصية ـ عدة ملاحظات أهمها:
1 ـ أن الشاعر لم يقصد بها "القصة" لذاتها، ولكنه اتخذ من ذلك "توطئة" لمدح البارودي، فهي أشبه ما تكون بالغزل الصناعي الذي كان القدامى يستهلون به أشعارهم.
2 ـ أن الشخصيات التي عرض لها الشاعر غريبة على الفكر والذوق، فأي نوع من الرجال هؤلاء الذين يتظاهرون بالنوم خوفًا من سيف الشاعر، ويفرطون في أعراضهم بهذه السهولة؟.
ناهيك بصورة "الحبيبة" التي تعرض نفسها بهذه الطريقة المبتذلة، فمثل هذا اللون من النساء لا يستأهل ركوب الأخطار وتعريض النفس للنكبات.
3 ـ وفي النهاية نجد الشاعر متأثرًا بقصة يوسف، وامرأة العزيز مقتبسًا قوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (سورة يوسف: 24).
4 ـ وواضح أن "حافظ" قد تأثر بـ عمر بن أبي ربيعة، فهي تذكرنا بحكاياته ومغامراته، في تخطى العقبات والأحراش، وصولاً إلى محبوباته، وخصوصًا رائيته المشهورة التي مطلعها:
أمن آل نُعم أنت غاد فمبْكرُ غَداة غدٍ أم رائح فمهجِّر[12]
وإن كان عمر يفوق شاعر النيل في هذه الرائية فنًا وصياغة، وتصويرًا، كما أنه صاغ قصيدته "قصة" من أولها لآخرها، ولم تكن تمهيدًا لمدح أو غرض شعري آخر، وبلغ إعجاب كثير من النقاد بهذه "الرائية" إلى حد أن رأوا فيها ما يدانيها من القصائد الروائية التي ذاعت في أوروبا لا سيما ألمانيا في القرن الماضي..، وأنها سبقت زمانها من ناحية بنائها القصصي، وموقفها الدرامي، وخاتمتها الباهرة[13].
ولحافظ كذلك قصيدة قصصية بعنوان (خنجر مكبث)[14].
وهي قصيدة مترجمة عن "شكسبير" نظمها على لسان مكبث يخاطب خنجرًا تخيله، حينما هم باغتيال ابن عمه "دانكان" الملك ليخلفه في ملكه، ويصف تردده أولاً، ثم تصميمه بعد ذلك على تنفيذ ما أراد.
وله "منظومة تمثيلية"[15]، نظمها الشاعر عقب ضرب الأسطول الطلياني لمدينة "بيروت" انتقامًا من الأتراك، وذلك في عهد نشوب الحرب الطرابلسية بين الإيطاليين والترك سنة 1912م.
والحوار في هذه "المنظومة" يدور بين جريح من أهل بيروت، وزوجته "ليلى" وطبيب، ورجل عربي.
وقد خلت المنظومة من مقومات الشعر التمثيلي الأصيل، فالحوار فيها بطئ عليل، كما أنه عجز عن أن يبرز الخوالج النفسية لشخصياتها. وهي أشبه ما تكون بتمثيليات الأطفال التي تهدف ـ في بساطة وسهولة ـ إلى غرس قيمة وطنية أو أخلاقية سهلة مباشرة في نفوس الناشئة.
**********
وفي رأيي أن (غادة اليابان)[16]، هي أجمل قصائده القصصية، وقد حكى فيها الشاعر غرامه بغادة يابانية، وأشاد بالشجاعة التي ظهرت بها أمة اليابان في حربها مع روسيا، وقد صدرها الشاعر بهذه الحكمة:
لا تلم كفي إذا السيـف نبا صح مني العزم والدهر أبَى
رُبَّ ساع مبصر في سعيه أخـطأ التوفـيقَ فيما طلبا
ويصور الشاعر موقف "الوداع الأخير" بينه وبين الغادة اليابانية التي أزمعت الرحيل إلى وطنها لتقوم بواجب الدفاع عنه:
قلتُ والآلامُ تفري مهجتي ويك ما تصنع في الحرب الظبا؟
فكان جوابها:
أنـا يـابـانـية لا أنا إن لم أحسن الرمي ولم أخدمُ الجرحى وأقضى حقهم | أنثنيعـن مرادي أو أذوق العَطَبا تـستطع كفاي تقليبَ الظبا وأواسي في الوغى من نُكبا |
ونجح حافظ ـ إلى حد كبير ـ في رسم الملامح الحسية لفتاة اليابان، ومن ذلك ما أجمله في هذا البيت من أنها:
ذات وجه مزج الحسن به صفرة تنسى اليهود الذهبا
وأبرز كثيرًا من ملامحها النفسية بطريقة مباشرة أحيانًا، وبطريقة الإشارة والتلميح أحيانًا أخرى، من ذلك قوله:
قطبت ما بين عينيها لنا فرأيت الموت فيها قطبا
والقصيدة ذات هدف وطني واضح، وقد ساقها الشاعر ـ كما قال ـ لأمته لتأخذ منها درسًا وعبرةً، في وقت كانت أحوج ما تكون فيه للجد والعمل والكفاح، وسواعد الشعب شيبًا وشبانًا، فتيانًا وفتيات.
و "غادة اليابان" تذكرنا بقصة "فتاة الجبل الأسود" لخليل مطران[17]، ولا نستبعد أن يكون "حافظ" متأثرًا فيها بمطران في الموضوع، والتناول، مع اختلاف في التفاصيل وبعض المواقف، وإن كان مطران أبعد من حافظ خيالاً، وأعمق فكرًا، وأدق تصويرًا.
على أن "فتاة الجبل الأسود" تمثل قصة استوفت كل عناصرها، وخصوصًا "العقدة" التي تكونت بتصاعد المواقف وتأزمها، وانتهت بحل طبيعي لا افتعال فيه.
في حين تبقى "غادة اليابان" أقرب إلى "القصيدة القصصية" منها إلى "القصة الشعرية" وإن كانت ـ في نظرنا ـ أرقى ما نظمه حافظ من شعره القصصي، كما ذكرنا آنفًا.
وخلاصة ما نراه في شعر حافظ القصصي:
1 ـ أن أغلب ما نظمه حافظ من هذا اللون يفتقر إلى المقومات الفنية للقصة الشعرية، إذ يعوزه دقة العرض، والتعقيد، وتعمق المشاعر الإنسانية، زيادة على أن الخيال فيه ساذج مقصوص الجناحين.
2 ـ أنه يغلب عليه الطابع الغنائي، وأغلب هذه المنظومات يمكن أن تنسب لشعر المناسبات، إذ اتخذها الشاعر ـ كما رأينا ـ تقدمات يخلص منها إلى مدح شخصية أو الثناء على مشروع اجتماعي، أو توجيه وطني بمناسبة حدث معين.
3 ـ أنه في كثير من هذه المنظومات كان تقليديًّا بحتًا إلى "حد الامتصاص" الكامل ـ كما يقول علم النفس، وقد رأينا في القصة الغرامية المفتعلة التي خلص منها إلى مدح البارودي، فإن عمر بن أبي ربيعة يطل برأسه في كل بيت من أبياتها.
4 ـ وإذا أردنا أن نحدد مكان حافظ بين شعراء عصره في مجال "الشعر القصصي" فإننا نظلمه ظلمًا فادحًا إذا وازنا بينه وبين عميد القصة الشعرية في العصر الحديث: خليل مطران، ونظلمه بعد ذلك إذا وازنا بينه وبين أحمد زكي أبي شادي منشئ "جماعة أبولو" (1892 ـ 1955م) الذي نظم عددًا من الأوبرات الشعرية مثل: "إحسان" و "أردشير" و "حياة النفوس" و "الزباء" و "الآلهة" ونظم عددًا من القصائد القصصية مثل "مملكة إبليس ـ أو جولة يوم" وأشهر من ذلك قصتاه:
"مها" و "عبده بك"[18]. وكلها أنضج مما نظمه حافظ بكثير.
ولكننا نجد أن أشبه الشعراء بحافظ في الشعر القصصي موضوعات ومنهجًا وفنًا شاعر العراق الكبير معروف الرصافي (1875 ـ 1945م)، فله من القصائد القصصية: أم اليتيم ـ اليتيم في العيد ـ الفقر والسقام ـ الأرملة المرضعة ـ أم الطفل في مشهد الحريق. ولكن الرصافي ينفرد دون حافظ بلون من الشعر القصصي الساخر الهادف، كما نرى في قصته الشعرية "أبو دلامة والمستقبل"[19].
5 ـ ولكن في غمار هذا النقد يجب أن نذكر شاعر النيل بالفضل في مطولته التاريخية عن "عمر بن الخطاب"[20] ـ رضي الله عنه ـ وهي لا تخلو من الطوابع القصصية. فقد راح يتقصى المعاني الإنسانية خلف رجل من أبطال المسلمين هو ثاني الخلفاء الراشدين.
ومع أن "حافظ" بإجماع الباحثين ـ كان متواضعًا في خياله قليل الالتفات إلى التجارب الإنسانية الماضية، فقد سبق وحلق في التاريخ الإسلامي، ولو استمر في هذا الاتجاه، وتعمق درس التاريخ، والرجوع إليه لراش التاريخ جناحيه، فطار كل مطار[21].
ولكن "حافظ" لم يلتفت للتاريخ لفتة طويلة إلا في هذه القصيدة، مع أن الناس استقبلوا هذه المطولة استقبالاً طيبًا، ووعدهم الشاعر أن يقدم لهم قصائد من طرازها[22].
وللأسف لم يبر حافظ بوعده، فهذا اللون يحتاج لقراءات طويلة مستوعبة، واطلاع واسع المدى، مما لا يتفق مع طبيعة حافظ واستعداده كما أشرنا من قبل.
ومن الفضل الذي يسجل للمطولة العمرية أنها كانت واحدًا من أقوى الحوافز لكي ينظم محمد عبد المطلب مطولته عن "علي بن أبي طالب" ـ كرم الله وجهه ـ[23] وأن ينظم عبد الحليم المصري مطولته عن "أبي بكر الصديق" رضي الله عنه[24].
وعودًا على بدء نقول إن "حافظ إبراهيم" قد منح العربية عطاء ضخمًا بشعره الوطني القومي، وشعره الاجتماعي، ووجدانياته في الرثاء بصفة خاصة، ولا يعيبه ألا ينظم "القصة الشعرية" بأبعادها وملامحها الفنية الدقيقة، فالشاعر ـ أيًّا كانت مكانته وبراعته الشعرية ـ غير مطالب ـ ضربة لازب ـ أن ينظم في كل الأغراض الشعرية، أو يكون كل إبداعه الشعري في الأغراض المختلفة على قدم المساواة في القوة والبراعة والإتقان.
(*) ولد حافظ إبراهيم بالقرب من (ديروط) بصعيد مصر، وكان أبوه مهندسًا وأمه سيدة تركية، مات أبوه وهو في الرابعة، فعاش حياة مضطربة في كفالة خاله، وبعد تخرجه في المدرسة الحربية بالقاهرة، عين ضابطًا بالسودان، ثم أحيل إلى الاستيداع، وبقي فترة طويلة بلا عمل اقترب في أثنائها من الوجدان الشعبي، وعبر عن آلام الشعب المصري وآماله، ثم عين بوظيفة في دار الكتب المصرية، فقل إنتاجه الشعري، وأو ما ينشر منه.
طبع ديوانه في حياته في ثلاثة أجزاء صغيرة (1901م ـ 1922م) ثم طبع طبعة أوفى وأشمل بعد وفاته، له كتاب (ليالي سطيح) كتبه على طريقة المقامات، وترجم (البؤساء) عن "فيكتور هوجو" [انظر: الموسوعة العربية الموسعة 685].
[1] محمود بن الشريف: خليل مطران، شاعر الحرية 76 (دار الكاتب العربي، القاهرة 1952م).
[2] طاهر الطناحي في كتابه: شوقي وحافظ 150 (دار الهلال، القاهرة 1967م).
[3] من الأمور غير المقبولة، والتي أساءت إلى النقد والأدب قديمًا وحديثًا، تحمس الناقد ـ أي ناقد لاشعره، ظنًا منه أن "ماله الشعري" لا يتحقق إلا بالنظم في كل الأغراض، والأجناس الشعرية ـ بالفعل، أو بالإمكان ـ وهي نظرة أفقية تسطيحية إذ لا يعب الشاعر أن يفوته غرض أو أغراض.. فالكم لا يمكن أن يكون معيار أفضلية، ولكن المهم أن يتوافر في الشاعر شرطان: أصال الشاعرية من ناحية، والبراعة الفكرية والفنية فيما ينظم، ولو كان ذلك في غرض أو غرضين.
[4] لخليل مطران أكثر من خمسين قصة شعرية ناضجة، يطول نفسه في بعضها حتى يبلغ مئات الأبيات.
[5] طاهر الطناحي: السابق 150.
[6] أحمد أمين في تقديمه لديوان حافظ 40 (بيروت 1969م).
[7] ديوان المتنبي 2 / 292 (دار الزهراء، بيروت، 1978م).
[8] ديوان حافظ 1 / 283.
[9] ديوان حافظ 1 / 292.
[10] مقدمة الديوان 1 / 40.
[11] الديوان 1 / 7.
[12] ديوان عمر بن أبي ربيعة 99 (بيروت، 1968م).
[13] انظر محمد مفيد الشوباشي: القصة العربية القديمة 64 (القاهرة، كتاب رقم 106 من المكتبة الثقافية).
[14] ديوان حافظ 1 / 234.
[15] الديوان 2 / 29.
[16] ديوان حافظ 2 / 7.
[17] ديوان الخليل 1 / 179 (دار الهلال، القاهرة، ط2، 1949م).
[18] انظر: د. جمال الدين: خليل النيل، وشاعر الشرق العربي 40 (الدار القومية، القاهرة، 1971م). ومحمد مندور: الشعر المصري بعد شوقي: الحلقة الثانية 18 (معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1957م) وأحمد زكي أبو شادي: ديوانت: الشفق الباكي 123 (القاهرة، المطبعة السلفية 1926م) وانظر له كذلك قصة مها (القاهرلاة، المطبعة السلفية، 1926م) وقصة "عبده بك" (القاهرة، المطبعة السلفية، 1926م).
[19] راجع في ذلك ـ زيادة على ديوان معروف الرصافي ـ مصطفى علي: "محاضرات عن معروف الرصافي" 1 ـ 1 (معهد الدراسات العربية ـ القاهرة 1953م)، ومصطفى السحرتي وعبد المنعم خفاجي: معروف الرصافي شاعر العرب الكبير 306، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1971م). ومجلة أبولو المجلد الثاني: يناير 1934م، ص 422.
ورفائيل بطي: الأدب العصري في العراق، 69 (المطبعة السلفية، القاهرة، 1923م).
[20] ديوان حافظ 1 /77
[21] د. كامل جمعة: حافظ إبراهيم، ماله وما عليه 308 (مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1960م).
[22] انظر السابق 315.
[23] ديوان محمد عبد المطلب 230 ـ 250 (مطبعة الاعتماد، القاهرة، د. ت) وقد أنشدها الشاعر يوم الجمعة 8 من فبراير 1918م، في حفل عام. بمدرج وزارة المعارف بالقاهرة.
[24] صحيفة "الأفكار" (القاهرة، 24 من مايو 1918م) وقد أنشدها الشاعر كذلك في حفل عام مساء 23 من مايو 1918م.