الأمل الأخضر في رواية "لخضر"

د. عبد الحكيم الزبيدي

الأمل الأخضر في رواية "لخضر"

للروائية الجزائرية ياسمينة صالح

د. عبد الحكيم الزبيدي *

[email protected]

تأتي رواية "لخضر" للكاتبة المتألقة ياسمينة صالح استكمالاً لروايتها السابقة "وطن من زجاج"، فهي ما زالت تصر على حمل هموم الوطن من خلال رواياتها، وتتخذ من فنها وسيلة لإعادة الأمل إلى الوطن الذي مزقته الحرب الأهلية لسنوات. واللافت في هذه الرواية، هو سيطرة الأمل عليها في مستقبل مشرق، يحمل الشباب بشائره، بعد سنوات عجاف من الاقتتال والفوضى. ومنذ الإهداء تطالعك الكاتبة بتفاؤلها إذ تهدي روايتها: "إلى الأمل.. نصدقك مهما يكن"([1]).

وقد استخدمت الكاتبة بذكاء تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) لتجعل أحداث الرواية مجرد استرجاع لأحداث مضت وانقضت، بينما بدأت روايتها بالأمل وهو تغير بطل الرواية "لخضر" بعد التقائه بابنه بعد سنوات من الفراق والأحداث الجسام.

وقد برعت الكاتبة في تصوير شخصية "لخضر" بطل الرواية، وتغلغلت إلى دخيلة نفسه، وعرضت لأسباب غرابة شخصيته وشذوذها، حين أرجعتها إلى نشأته البائسة والصدمة العاطفية التي تلقاها في مطلع شبابه من الفتاة التي أحبها ولكنها تركته لفقره وتزوجت ضابطاً. وكان قد نشأ يتيم الأم ولحقت بها شقيقته، وعاش حياته بائساً يعمل حمالاً في الميناء كي ينفق على زوجة أبيه وإخوته من أبيه، دون أن يسمح له والده حتى أن يشتري لنفسه حذاء جديداً بدل حذائه الذي تمزق من طول الاستعمال.

وهكذا تدرج لخضر من حمال في الميناء إلى حارس لمخزن السلاح، ثم وصل بفضل قدرته الفائقة على تلفيق التهم وإلحاق الضرر بالآخرين إلى أن اختير للعمل مخبراً في أمن الدولة. وهكذا بنى لخضر أمجاده عبر تلفيق التهم للأبرياء وكتابة التقارير عنهم، حتى وصل إلى أن يكلف بالقيام بعمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية لأشخاص لا ذنب لهم إلا أن المتنفذين والمسيطرين على مقاليد الأمور يريدون التخلص منهم لأنهم يشكلون خطراً على نفوذهم وسيطرتهم.

ورغم رغبة الكاتبة الواضحة في طي صفحة الماضي الدامي وإشاعة روح التسامح بين فرقاء الأمس المتناحرين، ليعود الأمل للوطن لفتح صفحة جديدة والالتفات نحو المستقبل بدلاً من تصفية حساب الماضي، أقول رغم هذه الرغبة الصادقة التي لا غبار عليها من أي وجه من الوجوه، إلا أن إبقاءها على "لخضر" حياً حتى نهاية الرواية دون أن يلقى جزاءه على ما اقترفت يداه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، دون أن تهتز له شعرة، أرى أن هذا أضعف نهاية الرواية، وجعلها غير متسقة مع منطق الأحداث ومع سنن الله في الكون التي تجعل المجرم يلقى جزاءه في الدنيا قبل الآخرة.

لقد كان "لخضر" –كما صورته الرواية- غاية في القسوة وتبلد الحس، يزهق الأرواح بكل بساطة وكأنه يحتسي قدحاً من القهوة. ولم يسلم من أذاه حتى "سي منصور" الذي كان "اليد الوحيدة التي ربتت على كتفه أيام كان وحيداً ومنبوذاً" (ص 271)، ذلك الرجل الوطني الذي كان يتقاسم خبزه مع الفقراء، وكان ابن شهيد، وهو الذي هيأ للخضر فرصة العمل كحارس لمخزن السلاح، فتضاعف راتبه بعد أن كان يعمل حمالاً حقيراً في الميناء، وكانت هذه الوظيفة هي الخطوة الأولى في ترقيه في سلم المجد حتى وصل إلى ما وصل إليه. وكل الذي استطاع أن يقدمه لخضر لسي منصور كرد لجميله نحوه هو أن يخاطب أحد رجاله الذين سينفذون أمر اغتيال سي منصور قائلاً: "لا تستعملوا السلاح الأبيض" (ص 272). وقد "كانت تلك العملية سبباً في ترقية لخضر الذي صار بعد شهر مدير المركز" (ص 272).

إن شخصاً بهذه القسوة والوحشية لا ينبغي أن يكون جزءاً من الأمل القادم، كما صورته الرواية. ولا يكفي أن تجعل الكاتبة ابنه يصاب بطلق ناري من إرهابيين ويرقد في المستشفى بين الحياة والموت، ليكون هذا جزاءً وفاقاً له على أن فجع الكثيرين من الآباء في أبنائهم والأبناء في آبائهم، فيذوق بذلك الكأس التي سقاها للآخرين. وإن كانت الكاتبة قد وفقت توفيقاً كبيراً –في رأيي- في إبقاء نهاية الرواية مفتوحة، حيث انتهت الرواية وحسين –ابن لخضر- راقداً في المستشفى بين الحياة والموت، ولم تبت الرواية في مصيره، ليبقى الأمل مفتوحاً على احتمال نجاته، ولكنه أمل مشوب بقلق وخوف، يتفق مع إهداء الرواية "إلى الأمل .. نصدق نورك مهما يكن".

وقد بررت بقاء لخضر في منصبه زعيماً للوضع الإصلاحي الجديد بقولها: "في ظرف سنة استطاع أن يوهم الجميع أنه انتصر على العنف الذي كاد يودي بالبلد إلى الهاوية، وأنه منذ تولى منصبه الجديد كجنرال مسؤول تحسنت الظروف الأمنية. استطاع أن يوهم الجميع أنه الأقوى والأصلح للبقاء في السلطة!" (ص 277).

وقد أحسنت الكاتبة إذ جعلت حسيناً رمزاً للأمل القادم في الشباب الجديد الذي سيحمي الوطن، فهو ضابط "يأتي من مكان تعلم فيه أصول العمل العسكري، ولم يأت من دهاليز المراكز السرية التي صنعها أصحابها لترويع البسطاء باسم الأمن القومي" (ص 279)، كما هو الحال بالنسبة للخضر الذي بدأ حياته حمالاً في الميناء ثم التحق بالمراكز السرية وتدرج في المناصب حتى وصل إلى رتبة جنرال بناء على كفايته في العمل السري وبراعته في إشاعة الرعب ونشر الموت. فلخضر قد "استطاع أن يفهم ما يريده الأسياد ليبقوا أسياداً، فبقاؤهم يستحيل دون أن يؤدي لخضر والآخرون العمل الذي عبره يقضون على مستقبل المئات من الأبرياء" (ص 136).

لقد كان لخضر وأمثاله يؤدون دوراً قذراً يهدف إلى زرع بذور الفتنة بين الشباب ليصرفوهم عن المطالبة بالتغيير، "فاليساري يظن أنه يؤدي دوراً والإسلامي يظن الشيء نفسه، لكن لا أحد منهما يعي أنه مجرد أداة بيد النظام. النظام هو الذي يحرك الخيوط يا عزيزي" (ص 214). وهكذا فإن "إبراهيم" الملتحي الذي قتل طالباً يسارياً، تشاجر معه في الجامعة وهرب، لم يكن إلا مخبراً، فعندما ذهب لخضر إلى المركز مساء ليسلم تقريره الجديد: "وجد إبراهيم يرتشف القهوة مع بعض الأشخاص" (ص 204). وهكذا عندما ينفذ لخضر وزملاؤه عمليات الاغتيال، تلصق التهمة بالإرهابيين، كما حدث عند اغتيال الباهي، الصحفي النزيه الذي كان يفضح الفساد في البلد، فبعد خطفه واغتياله أصدرت إحدى الجماعات "بياناً مليئاً بالآيات القرآنية تتبني عملية الاختطاف لتبرر طريقة القتل .. قتل الزنادقة والملحدين! تم العثور على رأسه بعد أسبوع غير بعيد من مقر بيته.. وقد كتب على جبهته بدمه: الله أكبر!" (ص 249). وهكذا تم خلق حالة من الفوضى و"صارت الأمور مأساوية في البلد، وصار الموت لا يفرق بين البسطاء وبين المذنبين، .. ثمة جماعات حقيقية صارت تستغل الفوضى لترتكب الجرائم التي تنشرها الصحف يومياً .. وطالت الاغتيالات النساء، بعضهن عاملات بسيطات قتلن بسبب غطاء الرأس" (ص 251).

ولذا لم يكن مقنعاً –لي على الأقل- أن يتحول لخضر فجأة إلى إنسان يحس ويشعر لمجرد عثوره على ابنه الذي تخلى عنه وتركه مع جديه لأمه بكل نذالة. ولن تقنعنا عبارات من قبيل: "الجميع لاحظ كم صار الجنرال اجتماعياً مع الضباط، يحيطهم بعناية بدت لهم أبوية خالصة" (ص 287)، و"لقد تغير قلبه! هل ينكر أنه تغير فعلاً؟ لقد غيره الحب كما يغير المطر لون الأرض" (ص 300). وحتى لو أمكن أن يتغير فعلاً، فإن تغيره لا يشفع له ما ارتكبه من جرائم: و"فكر أنه تغير فعلاً، وأن تغييره يشفع له كل ما حدث من قبل! فكر أن قلبه لم يعد يصلح للكراهية بعد أن دخله ابنه وفتح شبابيكه على مصراعيها" (ص 305).

ومن الناحية الفنية، أرى أن الكاتبة قد نجحت في تخطي كثير من المآخذ التي شابت عملها السابق (وطن من زجاج)([2])، التي كان البطل فيها غفلاً من الاسم، فهي هنا تختار له اسماً وتجعله عنواناً للرواية كلها "لخضر". ولا أدري إن كان لهذا الاسم مدلول معين في الثقافة الجزائرية، أما في الفصحى فالاخضرار يرمز للخصب والنماء والخير، جاء في (تاج العروس) مادة (خضر): "والخَضْرَاءُ: الخَيْرُ والسَّعَةُ والنَّعِيم، والشَّجَرَة، والخِصْب... وفُلانٌ أَخْضَر: كَثِيرُ الخَيْر". وكل هذه الصفات منافية لما عليه "لخضر" بطل الرواية. فإما أن الكاتبة أرادت المفارقة بإطلاق اسم ينافي ما هو عليه من صفات، وإما أنها–وهذا ما نرجحه- أرادت أن تشير به إلى الأمل في المستقبل، فرغم ما هو عليه من صفات الشر، إلا أن الأمل قد خرج من صلبه ممثلاً في ابنه حسين.

ومن المآخذ التي تجاوزتها الكاتبة في هذه الرواية، أنها شرحت الألفاظ العامية القليلة التي استخدمتها، وكانت قد تركت ذلك في رواية (وطن من زجاج)([3]). فمن ذلك قولها: "سيقول الجميع "عاش ما كسب ومات ما خلى" (عاش لم يكسب شيئاً ومات دون أن يترك شيئاً)" (ص 116). وقد يأتي التفسير جزءاً من السرد غير مستقل عنه بأقواس، كما في المثال السابق، ومن ذلك قولها: "علاقة تبدأ ب"كيف حالك" وتنتهي "اتهلى في روحك"، يقولها المدير لكل شاب ناصحاً إياهم بأن يعتنوا بأنفسهم" (ص 145).

وبالإجمال، فالرواية رائعة في بنائها وفي فكرتها، وهي تشي بكاتبة تمتلك أدواتها جيداً، وتحتفظ لنفسها بطابع خاص يميزها من حيث الأسلوب ومن حيث الانشغال بهموم الوطن.

               

*كاتب وناقد من الإمارات

[1] - ياسمينة صالح: لخضر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2010، ص 7

[2] - انظر مقالنا: وطن من زجاج

[3] - انظر مقالنا: رواية وطن من زجاج: عشق الوطن إلى حد الموت، موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب، 22/6/2007، على هذا الرابط:

http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=3804