حكايتان شعبيتان من العراق وسوريا
دراسة في الأدب الشعبي المقارن
حكايتان شعبيتان من العراق وسوريا
جاسم محمد صالح
ورد في كثير من الحكايات الشعبية ذكر لتعاون الحيوانات بعد أن تتعرض لظلم واضطهاد من جهة قوية ويكون الحمار دائما في مقدمة قائمة المضطهدين ويأتي بعده الأسد والذئب والثعلب ...الخ , حتى أصبح مصطلح ( مزرعة الحيوان ) رمزا ذا دلالة عميقة في هذا المجال , فالكاتب الانكليزي ( جورج اورول ) بعد أن اطلع على الحكايات الشرقية ( وخصوصا العربية منها) كتب روايته ( مزرعة الحيوان ) وهي رواية شخوصها حيوانات مزرعة من المزارع , تثور بوجه الإنسان بعد ان تتعرض لظلمه وتؤسس مزرعة تديرها , وفضل( أخوان الصفا وخلان الوفا ) واضح وكبير على ( اورول ) في روايته هذه , فقد كتبوا قبله بألف عام ( الرسالة الثامنة من الجسمانيات الطبيعيات / الجزء الثاني / ص 178- 377 ) دفاعا عن الحيوان ضد الظلم الذي يتعرض له من الانسان , لهذا فإننا لا نتعجب حينما يتناول الراوي الشعبي هذا الموضوع ويصوغه بأسلوبه المبسط السهل القريب من أذهان الناس وتفهمهم .
ان المدلولات الفلسفية والحكمية التي اختفت وراء رسالة ( أخوان الصفا ) في دفاعهم عن الحيوان ربما لا يتمكن الانسان العادي من ان يكتشف كذبها ويصل الى مضمونها بسهولة الا بعد دراسة وتعمق , ولقد وقع اختياري على نصين في هذا المجال :
النص الأول :عراقي وتحديدا من منطقة الموصل .
النص الثاني :سوري ومن منطقة اللاذقية .
لاعتقادي ان هذين النصين هما بالأصل نص واحد أصله عراقي , وهذا الأصل ربما تعود جذوره الى عهود سحيقة سومرية او بابلية ومما يؤكد اعتقادي هذا ما وصل إلينا من ذلك التراث العراقي حكايات عن الانسان والحيوان مكتوبة على رقم طينية عمرها يمتد الى الألف الثالث قبل الميلاد , فهناك مناظرات بين الطير والسمك والشجر والقصبة والشعير والقمح والثور والحصان والنسر والحية والكلب والذئب , ومن المؤكد ان هذه الحكايات طورت فيما بعد وعدلت وأضيف إليها الشيء الكثير , لان الحكاية الشعبية وكما يعرف الجميع مسافر بلا جواز ولا تستطيع الحواجز ولا القيود ان تمنعها من السفر من مكان الى آخر, لكنها أينما ذهبت في النهاية تبقى محتفظة بخصائص الأصل وهذا ما سنعرفه من خلال مقارنتنا للنصين .
في كتاب ( حكايات الموصل الشعبية ) التي جمعها ( احمد الصوفي) توجد حكاية اسمها( القطاه والغزالة والحمار), رويت على الصفحات 118- 121 , وفي كتاب ( الحكايات الشعبية من اللاذقية ) التي جمعها (احمد بسام ساعي) توجد حكاية اسمها ( جحيش ) رويت على الصفحات 69- 71 , والمعتقد ان اسم هذه الحكاية في الأصل ( حمير ) كما ذكر الجامع في هامش الحكاية , والحكايتان في حقيقتهما حكاية واحدة لوجود تشابه كبير بينهما, رغم وجود الإضافات والحذف , ومن خلال جدول المقارنة نعرف ذلك .
جدول المقارنة بين الحكايتين
( النص العراقي " حكاية القطاه ") ( النص السوري " حكاية جحيش ")
1 |
اسمها القطاه والغزالة والحمار وهذا يعني ان أبطالها ثلاثة وقد ذكروا في العنوان وإنهم يعيشون في مكان واحد . |
1 |
أبطالها بطة إوزة حمامة عصفور جحش وهم يعيشون في مكان واحد , ويلاحظ التشابه في المكان في الحكايتين . |
2 |
سبب تعارفهم وتآلفهم هو تعرضهم لظلم الانسان |
2 |
لم تعط سببا لاجتماعهم وهو قصور في الحكاية وشكل ضعفا فيها |
3 |
هناك تفصيل في العذابات التي يقوم بها الانسان ضد الحيوانات |
3 |
لا توجد إشارة لهذا الموضوع في الحكاية إطلاقا , لهذا فإنها خلت من دافع الاجتماع والزراعة . |
4 |
يتعاونون لزرع ارض بعيدة ليعيشوا عليها |
4 |
يتعاونون لزرع ارض, دون ذكر للأسباب التي دفعتهم الى ذلك التعاون |
5 |
القطاه تجلب الحنطة والشعير لتزرع الأرض لمقدرتها على الطيران |
5 |
لا يوجد ذكر لتفاصيل العمل , وكل ما هناك ان الأرض قد زرعت . |
6 |
الغزالة تبذر الحبوب لمقدرتها على الجري |
6 |
لا يوجد ذكر او تفصيل للأحداث |
7 |
الحمار يحرث الأرض لقوته وتحمله |
7 |
لا يوجد ذكر او تفصيل للأحداث |
8 |
تم الزرع ونزل المطر وكبر السنبل |
8 |
لا توجد إشارة الى ذلك وخلت من التسلسل الزمني للفعل الخاص بالزرع |
9 |
الحمار يتحايل على صديقيه , طمعا في أكل الزرع , فيتمارض ويأكل الزرع لوحده , ويغادر المكان كي لا يعرف احد انه فعل ذلك |
9 |
الجميع يقررون ان يستحموا في الماء ,فحاروا فيمن يحرس الزرع , فيتطوع الجحش للحراسة وبعد ان يستحم الجميع يأكل الجحش الزرع كله ويتظاهر بالنوم حتى يبعد تهمة الأكل عنه ( هنا تشابه في الغاية واختلاف الحدث ) |
10 |
حدوث اتهام بين القطاه والغزالة والحمار في الفاعل الذي أكل الزرع , فيقررون ان يؤدوا يمينا على عدم أكل الزرع أمام بئر زمزم
|
10 |
حدوث الاتهام نفسه فيقررون ان يذهبوا الى بحيرة الله لأداء القسم وان يكون القسم بان يقفوا على مئذنة عالية قرب البحيرة ويقسمون بعد ذلك ويرمون أنفسهم في البحيرة |
11 |
القطاه تقسم : - قط... قط أنا القطيط , قط... قط اكلي الخيط , قط... قط يا بير زمزم , قط ...قط ان كان اكلته , ما اطلع ( وترمي نفسها في البئر وتخرج منه سالمة لقدرتها على الطيران ) |
11 |
البطة تقسم : - بط... بط أنا بطة , بط... بط زرعي حنطة , بط ... بط ان كان اكلته , بط... بط ان كان شربته , بط... بط يرميني الله ,بط... بط ببحيرة الله ( وترمي نفسها في البئر وتخرج سالمة ) |
12 |
الغزالة تقسم أمام البئر أيضا : - غز... غز... انا الغزيل , غز... غز... اكلي الزرير , غز... غز... يا بير زم زم , غز ...غز , ان كان اكلته , اطمس ما اطلع ( وترمي نفسها في البئر وتخرج منه بسهولة لقدرتها على القفز ) |
12 |
الحمامة تقسم : - حم... حم انا حمامة , حم ... حم زرعي قضامة , حم... حم ان كان اكلته , حم... حم ان كان شربته , حم... حم يرميني الله , حم ... حم ببحيرة الله ( وترمي نفسها وتخرج سالمة |
13 |
الحمار يقسم : - حم... حم انا الحمير , حم... حم اكلي الشعير , حم... حم يا بير زمزم , حم ...حم ان كان اكلته , حم ...حم اطمس ما اطلع ( ويرمي نفسه بالبئر ويموت غرقا) ( وتنتهي الحكاية ) |
13 |
الإوزة تقسم : - وز... وز... انا وزة , وز... وز ... زرعي ارزة , وز... وز, ان كان اكلته , ... الخ
( وترمي نفسها وتخرج سالمة ) |
|
|
14 |
العصفور يقسم : - زء... زي انا عصفور , زء ... زي زرعي منثور , زء... زي ... الخ ( ويرمي نفسه ويخرج سالما ) |
|
|
15 |
الجحش يقسم : حاء... حاء ...انا الجحيش , حاء... حاء زرعي الشعير , حاء... حاء ...ان كان أكلته ...الخ ( ويرمي نفسه في البحيرة ويبقى بها ولا يستطيع ان يخرج منها, فتعرف الطيور انه الأكل فيتركنه ويذهبن )
|
|
|
16 |
الجحش يطلب النجدة وهو في الماء وهو يقول - يا مين أيشيلني... بياكل نصي فتسمع الضبع صراخه فتاتي لنجدته طمعا في أكل نصفه |
|
|
17 |
بعد ان تنتشله الضبع من الماء يبدأ حوار بينهما حول أي عضو في الجحش تبتدئ الضبع في أكله , الرأس ... لا , البطن ... لا , وبقية الأعضاء ... لا , وأخيرا يقبل الجحش ان يقدم رجله للأكل أولا, فتحاول الضبع ان تأكل رجله, فيرفسها الجحش رفسة قوية توقعها في البحيرة وتغرق |
|
|
18 |
الجحش يعود الى زملائه تائبا فيقبلون توبته بعد ان يعاهدهم على الأمانة والإخلاص والوفاء ( وتنتهي الحكاية ) |
بعد مقارنة السرد وسير الحوادث في الحكايتين نعرف :
1- ان حكاية القطاه العراقية هي الأصل وان الراوي السوري سمع الحكاية العراقية ودرسها وفهمها فهما جيدا وحولها تحويلا ذكيا بعد ان أضاف لها أشياء كثيرة وحذف منها أشياء أخرى , فالإضافات تكمن في زيادة أبطال الحكاية من ثلاثة : (قطاه , غزالة , حمار) , الى ستة أبطال :( بطة , إوزة , حمامة , عصفور , جحش , ضبع ), ولا تكمن هناك حكمة وراء زيادة شخوص الحكاية السورية إلا بالنسبة الى الضبع التي أضافت الى الحكاية الرئيسة حكاية ثانوية أخرى ضمن الإطار العام للحكاية العراقية , على الرغم من ان أبطال الحكاية الأولى أكثر دقة وتمثيلا للحدث , بينما نرى في الحكاية السورية (جحيش) أبطالا متشابهين : (إوزة , حمامة , عصفور ) , وكلهم من طيور, لكن الحكاية العراقية بررت لكل شخص عملا يتناسب مع طبيعته , بينما لا نجد هذا التبرير واضحا في الحكاية السورية , فهناك أشخاص كثيرون , ولكن لا توجد خصوصية لكل شخص ولا يوجد سبب مقنع إثناء الحوار يبرر اختيار هذه الشخصية دون غيرها ,
2- الحكاية العراقية أكثر وضوحا وإقناعا من حيث تبرير سبب الاجتماع بين الحيوانات ألا وهو ظلم الانسان للحيوانات , في حين ان الحكاية السورية لا تتطرق الى ذلك إطلاقا وهو ضعف جوهري في سبب الاجتماع , فالظلم مرفوض إطلاقا حتى عند الحيوانات , وهذا ما أكده الراوي العراقي من خلال حكايته وأغفله الراوي السوري .
3-الحكاية العراقية تضع الشخص المناسب في المكان المناسب من حيث العمل وأداء الدور , القطاه التي تطير تجلب الحبوب , الغزالة السريعة تبذر الحبوب , الحمار القوي يحرث الأرض , بينما هذه التفاصيل غير مذكورة في الحكاية السورية , ويبدو ان دور الأشخاص فيها كان باهتا , ولا تعرف كل شخصية ماذا تفعل او تريد .
4-في الحكاية العراقية الحمار يتحايل ويتمارض ليأكل الزرع سرا وبدون ان يعلم به احد , لكن الحكاية السورية كانت أكثر تفصيلا ووضوحا في هذه النقطة ( فالجميع يحبون ان يستحموا في الماء , فاحتاروا في من يحرس الزرع , الجحش يتطوع للحراسة ويستغل كونه وحيدا فيأكل الزرع ) .
هناك تشابه كبير في تحايل الحمار في الروايتين ( تحايل وتمارض عن قصد , حدوث تشابه في ان التهمة وجهت الى الجميع ولا يوجد هناك طريق غير الحلف , ففي الحكاية العراقية يكون الحلف أمام ( بئر زمزم) ومن ثم رمي الجسد فيه , ولكن في الحكاية السورية يكون الحلف قرب بحيرة الله والوقوف فوق مئذنة قريبة ورمي الجسد في البحيرة .
ان (بئر زمزم) و(بحيرة الله) هما إشارتان الى البعد الديني وأثره في النفوس وهذا ما أكده الراويان العراقي والسوري عملا بقوله (صلى الله عليه وسلم ) : (( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر )) .
5-في الحكاية العراقية القطاه تنجو من الغرق وكذلك الغزالة , لكن الحمار الكاذب يسقط في البئر ويموت عقابا على كذبه وهذه عقوبة صارمة أراد منها الراوي العراقي أن يردع الكذب بموت الحمار , لكن الراوي السوري كان أكثر تفهما للظروف وربما كان أكثر واقعية , فالعقاب عنده لا يراد به إنهاء المخطئ بل لتوجيهه وإصلاحه وإفهامه بان الخطأ قد يؤدي إلى خطا آخر , وربما يكون أكثر عدوانية , فلم ينه الراوي السوري الجحش الكاذب بل تركه في الماء( يصيح ...ويصيح ) ولم يتمكن من الخروج من بحيرة الله , وهذه إشارة الى انه كاذب , وقد عرف جميع أصدقائه ذلك , فتركوه في الماء عقوبة له, في حين ان الراوي العراقي أنهى الحكاية بمقتل الحمار , لكن الراوي السوري ( وهذه إضافة استطرادية منه ) وضع الجحيش في مأزق آخر إمعانا منه في عقاب الكاذب , فصراخ الجحش المتوالي أدى به الى ان يكون من جديد في قبضة الضبع وهو إشارة إلى شر كبير آخر قد أحاط به من جديد.
هنا يضطر الجحش لاستعمال ذكائه في إنقاذ نفسه من الشر ( والذكاء هنا مقبول والقوة مقبولة أيضا لأنها مشروعة وفي مجال الدفاع عن النفس ) .
6- الحمار يتخلص من الموت حينما يرفس الضبع رفسة قوية ترميها في الماء فتموت , بعدها يشعر الحمار بالندم الكبير على عمله في سرقة حقوق أصدقائه في الحقل , فيقرر ان يعود إليهم تائبا ومعتذرا , وهي نهاية جميلة ورائعة تؤدي الهدف المنشود من ورائها , وما كان بإمكان الراوي السوري ان يتوصل الى هذه النتيجة إلا من خلال إضافة حكاية ثانوية مستقلة الى الحكاية الأصلية لتحقيق الهدف الذي يدور في ذهنه , في حين ان عقاب الخاطئ في الأسلوب القويم يؤدي الى إصلاحه في النهاية وهذا ما حدث فعلا مع الحمار حينما ندم وعاد الى أصدقائه من جديد .
من كل ما سبق نخلص الى نتيجة واحدة هي ان الحكاية العراقية أقدم زمنيا من الحكاية السورية وإنها انتقلت من العراق الى سورية ( خصوصا وان هناك صلات كثيرة وقوية بين سكان الموصل و أهالي سورية ) انتقلت بشكلها العراقي الى سوريا وأضاف لها الراوي السوري إضافات جزئية .
الهوامش :
1- قصص الحيوان في الأدب العربي - داود سلوم - ص 14 , بغداد 1979 .
( وهذا أيضا ما أكده المستشرق ( جب ) حينما اعترف في كتابه (تراث الإسلام) صراحة بان أوربا تأثرت في أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة بالمؤثرات الشعبية العربية ) . انظر :
أ- دفاع عن الفلكلور – عبد الحميد يونس – ص 24 .
-2نفس المصدر السابق- ص 149-271
-3لمعرفة المزيد يراجع :
أ- مقدمة في أدب العراق - طه باقر- ص 162 – 170
ب- قصص الحيوان – سلوم - ص 10 , 11, 49 – 52
ملحق: ( نص حكاية القطاه والغزالة والحمار)
كان ما كان وعلى الله التكلان كل من عنده ذنب يقول التوبة ، واستغفر الله ، يحكى ان غزالة وقطايه وحمارا قد اجتمعوا في البرية وبعد ان تم التعارف بينهم اخذ كل واحد منهم يشكو ظلم ابن الإنسان وقوته على الحيوانات خصوصا عليهم الثلاثة . فقالت القطاية :
- كلما رآني صادني وذبحني وأكلني من دون ان يرحم الأطفال ،
وقالت الغزالة :
- أما انا فلا يكتفي بأكل لحمي بل بسلخ جلدي ويستعمله بسطا .
وقال الحمار :
- أما انا يشغلني من الصبح الى المساء حتى إذا أنهكت قواي شدني ووضع أمامي قبضة من الحشيش والتبن لاتسمن ولا تغني من جوع ، آكل منه الضرب الموجع ويخزني أحيانا بالمخاط فيخرج الدم مني وأنا صابر على هذا الجور ، فأي حياة هذه التي نحياها مع الانسان ؟.
وبعد اخذ ورد وشرح وبكاء وتوجع قرورا ان لا عيشة لهم مع بني البشر بعد الآن وان عليهم ان يجدوا محلا بعيدا لا تصلهم يده ليعيشوا يا من حتى يأتيهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وقرروا ان يختاروا محلا بعيدا يزرعون فيه ويفلحون ويأكلون على ما يشتهون , فتطير القطاية الى القرى تلتقط الحب من بيادرها حنطة أم شعيرا وتأتي بها الى أرضهم لتنذرها .
أما الغزالة فتولى مهمة بذر الحبوب لسرعتها وكثرة جريها أما الحمار فيقوم بحراثة الارض وهي مهنته بالأصل ، وبعد ان تم العهد والميثاق على ذلك ذهبوا الى المحل الموعود واختاروا لهم بقعة خالية بعيدة عن العمران بمسافة شهر ، فقام الأخير وهو الحمار يحرث الارض وعزقها وطارت القطاية الى القرى والبلدان والحقول لجلب البذور ، وقامت الغزالة بالبذر ، وانتهت أعمالهم خلال شهرين من الزمان وسقطت الأمطار الغزيرة على مزرعتهم وطلع الزرع وكبر السنبل وكانوا يجتمعون كل يوم في المزرعة للسمر والحديث حتى إذا تأخر الوقت بهم قام الكل ، فآوت القطاية الى عشها والغزالة الى كنها والحمار الى أخوره .
وفي احد الايام تمارض الحمار وانضجع على الارض وتلوى ويتألم متحايلا ، وبعد ان غادرت القطاية والغزالة الحقل انتصب على رجليه ودخل الحقل واخذ يلتهم الزرع ، دخل فيه من راس وخرج من راس ولم يبق شيئا وعاد الى محله الاول ونام كما هي عادته واخذ يشخر حتى اقبل الصباح فاتت الغزالة والقطاه الى الحقل كعادتهما فوجدتا ان لم يبق من الزرع شيء وقد خلا من سنبلة واحدة , فأخذهما العجب وقصدا الحمار وايقضاه واخبراه بالموضوع كله فقال :
- إني مريض ولم أقم من مكاني , ولم اعرف ماذا جرى ؟ منذ تركتماني البارحة .
وبعد جدال وعراك اخذ الواحد منهم يتهم الآخر , وأخيرا اتفقوا فيما بينهم ان يحلفوا يمينا على عدم أكله الزرع أمام بئر زمزم فتوجهوا إليه يحثون الخطى , وكان أول من تقدم الى البئر لأداء القسم القطاية فبعد ان استغفرت الله على ما تقدم من ذنوبها وما تأخر قالت بصوت رقيق :
- قط… قط… انا القطيط , قط…قط… أكلي الخيط , قط… قط… يا بير زمزم , قط… قط… ان كان أكلت, اطمس ما اطلع .
قالت هذا وقفزت الى البئر من جانب وطلعت من الجانب الثاني , وبعدها تقدمت الغزالة من البئر واستغفرت الله على ما تقدم من ذنوبها وما تأخر ثم قال بصوت رخيم :
- غز… غز… انا الغزيل , غز غز… أكلي الزرير , غز… غز… يا بير زمزم , غز… غز… ان كان أكلت , اطمس ما اطلع .
ثم قفزت من جهة من البئر وغطست وخرجت من الجهة الثانية , ثم تقدم الحمار الى البئر وصلى واستغفر على ما تقدم من ذنوبه وما تأخر , ثم قال بصوت غليظ :
- حم … حم انا الحمير, حم… حم أكلي الشعير , حم
- … حم… يا بير زمزم , حم… حم, ان كان أكلت ,حم… حم… اطمس ما اطلع.
قال هذا وقفز الى البئر قفزة عظيمة فسقط في الأسفل ومات .
( كنا عدكم وجينا لو كان عندي حمل زبيب لوزعته على المستمعين).