تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 47
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 47
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " رَسائِلُ الْجاحِظِ "]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
قالَ بُقْراطُ : يُداوى كُلُّ عَليلٍ بِعَقاقيرِ أَرْضِه ؛ فَإِنَّ الطَّبيعَةَ تَتَطَلَّعُ لِهَوائِها ، وَتَنْزِعُ إِلى غِذائِها . |
فلما وفد الناس بعضهم على بعض ، حدثت أدواء لا يعرفون لها أدوية ! ثم من هذا الباب حكمة حسن فتحي مهندس عمارة الفقراء العالمي الفذ : يَنْبَغي أَنْ يَبْنِيَ كُلٌّ بَيْتَه مِمّا تَحْتَ قَدَمَيْهِ . ثمت منه كذلك كلمة محمود محمد شاكر أستاذنا وكان هو وحسن فتحي نفسه صديقين - رحمهما الله ! - عندما أقبل ينشد زواره ملحمته " اعصفي يا رياح " ، وقد تزيا بحُلَّة عَجَمية ؛ فقد تَمَلْمَلَ قائلا : يَحْتاجُ إِلْقاءُ الشِّعْرِ الْعَرَبيِّ إِلَى الثِّيابِ الْعَرَبيَّةِ ! فيا لجلال هذا المعنى المستمر !! |
قالَتِ الْحُكَماءُ : أَكْرَمُ الْخَيْلِ أَجْزَعُها مِنَ السَّوْطِ ، وَأَكْيَسُ الصِّبْيانِ أَبْغَضُهُمْ لِلْكُتّابِ ، وَأَكْرَمُ الصَّفايا أَشَدُّها وَلَهًا إِلى أَوْلادِها ، وَأَكْرَمُ الْإِبِلِ أَشَدُّها حَنينًا إِلى أَوْطانِها ، وَأَكْرَمُ الْمِهارَةِ أَشَدُّها مُلازَمَةً لِأُمِّها ، وَخَيْرُ النّاسِ آلَفُهُمْ لِلنّاسِ ! |
ما أعجبَ أَكْيَسيَّةَ مبغضي الكتاب من الصبيان ! كأنها من نباهة ثورتهم على سفاهة معلميهم ! وما أكثر ما قرأنا لكبار علمائنا وفنانينا ، يذمون بعض أخلاق معلميهم في الكتاتيب ، وإن كانوا استفادوا منهم . ومن ذلك أنني لم أحب لا الكتاتيب ولا المدارس قط ، حتى انسلكت في جامعة القاهرة ، وارتحت لكلية دار العلوم ! |
قالَتْ أَعْرابيَّةٌ : إِذا كُنْتَ في غَيْرِ أَهْلِكَ ، فَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الذُّلِّ ! |
ولكنني لم أَحُلَّ في عُمان إلا أَهْلا ، ولم أنزل إلا سَهْلا ؛ فلم أجد إلا العز وإلا الأمن وإلا العلم وإلا الفن ، فسلام على عُمان والعُمانيين في العالمين ! |
أبا عثمان ، إِنَّ هذَا الْعُرَيْبَ في جَميعِ النّاسِ كَمِقْدارِ الْقُرْحَةِ في جِلْدِ الْفَرَسِ ، فَلَوْلا أَنَّ اللّهَ رَقَّ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهُمْ في حَشاةٍ ، لَطَمَسَتْ هذِهِ الْعَجَمُ آثارَهُمْ ! |
ما أشبه هذا بقولي في استحسان أن صارت الإنجليية لغة العالم لا العربية : لقد انقلبت الإنجليزيةُ إِنْجليزيّاتٍ ينكر بعضها بعضا ، وبقيت العربية واحدة ! قيل لي : ولكن القرآن الكريم حافظها . قلت : وما الآية والآيتان يحفظهما المسلم غير العربي ، حتى إذا سمع " الضالّين " ، قال : آمين ! وإن لم تكن في الفاتحة ! |
هؤُلاءِ الْمُلوكُ الْجَبابِرَةُ الَّذينَ لَمْ يَفْتَقِدوا فِي اغْتِرابِهِمْ نِعْمَةً ، وَلا غادَروا في أَسْفارِهِمْ شَهْوَةً - حَنّوا إِلى أَوْطانِهِمْ ، وَلَمْ يُؤْثِروا عَلى تُرْبِهِمْ وَمَساقِطِ رُؤوسِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْأَقاليمِ الْمُسْتَفادَةِ بِالتَّغازي وَالْمُدُنِ الْمُغْتَصَبَةِ مِنْ مُلوكِ الْأُمَمِ . وَهؤُلاءِ الْأَعْرابُ مَعَ فاقَتِهِمْ وَشِدَّةِ فَقْرِهِمْ يَحِنّونَ إِلى أَوْطانِهِمْ ، وَيَقْنَعونَ بِتُرْبِهِمْ وَمَحالِّهِمْ . |
وأين ذهب عنك ما تعرف من شوق رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - إلى مكة بالمدينة ، وقوله : " وَاللّهِ ، إِنَّكِ لَأَحَبُّ بِلادِ اللّهِ إِلَيَّ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خَرَجْتُ " ! ولقد بقي أنصاره يخافون أن يتركهم إليها ، حتى وعدهم ألا يفعل ! أَثَرٌ شريف ، ربما قوت الغفلة عنه نفي نسبة رسالة الحنين إلى الأوطان إلى الجاحظ ، فمثله لا يذهب عن مثله ! |
الْحاسِدُ مَخْذولٌ وَمَوْزورٌ ، وَالْمَحْسودُ مَحْبوبٌ وَمَنْصورٌ . وَالْحاسِدُ مَغْمومٌ وَمَهْجورٌ ، وَالْمَحْسودُ مَغْشيٌّ وَمَزورٌ . |
صدقت ؛ إذ كيف نزور من لا نستفيد من مجالسته إلا سوء الخلق وإلا كراهة الحياة والناس والكون ! |
إِنْ كانَ الْمَحْسودُ عالِمًا قالَ ( الحاسد ) : مُبْتَدِعٌ ، وَلِرَأْيِه مُتَّبِعٌ ، وَحاطِبُ لَيْلٍ ، وَمُبْتَغي نَيْلٍ ، وَلا يَدْري ما حَمَلَ ، قَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْحِيَلِ ، قَدْ أَقْبَلَ بِوُجوهِ النّاسِ إِلَيْهِ ، وَما أَحْمَقَهُمْ إِذِ انْثالوا عَلَيْهِ ؛ فَقَبَحَهُ اللّهُ مِنْ عالِمٍ ، ما أَعْظَمَ بَليَّتَه ، وَأَقَلَّ رِعَتَه ، وَأَسْوَأَ طُمْعَتَه ! |
قد رأيت ذلك من بعض أساتذتي في بعض أساتذته - فلما نعيته عليه رجع عنه ، وصار يحسن فيه ما كان يسيء - وفي بعض تلامذته ، ولكن يسر لي الحق - سبحانه ، وتعالى ! - من بعض أساتذتي ، من وضع الصفات مواضعها ، وأقام نصاب العدل ، فعسى الحق - سبحانه ، وتعالى ! - أن يجعلني عند حسن ظنه ! |
ما لَقيتَ حاسِدًا قَطُّ إِلّا تَبَيَّنَ لَكَ مَكْنونُه بِتَغَيُّرِ لَوْنِه وَتَخَوُّصِ عَيْنِه وَإِخْفاءِ سَلامِه وَالْإِقْبالِ عَلى غَيْرِكَ وَالْإِعْراضِ عَنْكَ وَالِاسْتِثْقالِ لِحَديثِكَ وَالْخِلافِ لِرَأْيِكَ ! |
إي وربي ! وإذا مد إليك يده فكأنما يمدها إلى النار الجاحمة ! ولكن نشأ الآن ما لا عهد للجاحظ به : حسدة يبارون الأصدقاء الأحباء تَوادًّا ومجاملة ، حتى " إِذا خَلَوْا إِلى شَياطينِهِمْ قالوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهونَ " ! |
دَعْهُ فَقَدْ أَشْعَلْتَ في جَوْفِه ما هاجَ مِنْ حَرِّ نيرانِه |
بيت مكسور ، ولو كان " ما هاجَه " ، لاتَّزن ! |
إِذا أَحْسَسْتَ - رَحِمَكَ اللّهُ ! - مِنْ صَديقِكَ بِالْحَسَدِ ، فَأَقْلِلْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنْ مُخالَطَتِه ؛ فَإِنَّه أَعْوَنُ الْأَشْياءِ لَكَ عَلى مُسالَمَتِه ! وَحَصِّنْ سِرَّكَ مِنْهُ تَسْلَمْ مِنْ شَرِّه وَعَوائِقِ ضُرِّه ! وَإِيّاكَ وَالرَّغْبَةَ في مُشاوَرَتِه وَلا يَغُرَّنَّكَ خُدَعُ مَلَقِه وَبَيانُ ذَلَقِه ؛ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ حَبائِلِ نِفاقِه ! |
صدق الحق - سبحانه ، وتعالى ! - : " إِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمينَ " ! |
رُبَّما كانَ الْحَسودُ لِلْمُصْطَنِعِ إِلَيْهِ الْمَعْروفَ ، أَكْفَرَ لَه وَأَشَدَّ احْتِقتادًا ، وَأَكْثَرَ تَصْغيرًا له مِنْ أَعْدائِه ! |
حفظت عن دعبل بن علي الخزاعي الشاعر الهجاء : " ما أنعم علي أحد بنعمة إلا تمنيت موته " ! فهذا يكره الناس جميعا ، وإلا فليجتهد أن يقابل النعمة بمثلها أو أكبر منها ، فإن أبى المنعِم افتضح ضِغْنه ، فليتمن موته متى شاء ، فإنا معه متمنون ! |
ما أَرَى السَّلامَةَ إِلّا في قَطْعِ الْحاسِدِ ، وَلَا السُّرورَ إِلّا فِي افْتِقادِ وَجْهِه ، وَلَا الرّاحَةَ إِلّا في صَرْمِ مُداراتِه ، وَلَا الرِّبْحَ إِلّا في تَرْكِ مُصافاتِه ؛ فَإِذا فَعَلْتَ ذلِكَ فَكُلْ هَنيًّا مَريًّا ، وَنَمْ رَضيًّا ، وَعِشْ فِي السُّرورِ مَليًّا ! |
صدق أبو المحسَّد ( أبو الطيب المتنبي ) : " وَاحْتِمالُ الْأَذى وَرُؤْيَةُ جانيهِ غِذاءٌ تَضْوى بِهِ الْأَجْسام " ! |
قَدْ أَحْسَنَ مَنْ قالَ : مُذاكَرَةُ الرِّجالِ تَلْقيحٌ لِأَلْبابِها ! |
عجبا ! كنت أحفظه عنك وأردده : " تَقْدَحُ الْأَلْبابَ " ، فخطر لي بما هنا أن أكون حرفته عن " تَلْقَح " ! |
أَمَّا النَّحْوُ فَلا تَشْغَلْ قَلْبَه مِنْهُ إِلّا بِقَدْرِ ما يُؤَدّيهِ إِلَى السَّلامَةِ مِنْ فاحِشِ اللَّحْنِ ، وَمِنْ مِقْدارِ جَهْلِ الْعَوامِّ في كِتابٍ إِنْ كَتَبَه ، وَشِعْرٍ إِنْ أَنْشَدَه ، وَشَيْءٍ إِنْ وَصَفَه ! وَما زادَ عَلى ذلِكَ فَهُوَ مَشْغَلَةٌ عَمّا هُوَ أَوْلى بِه ، وَمُذْهِلٌ عَمّا هُوَ أَرَدُّ عَلَيْهِ مِنْهُ ، مِنْ رِوايَةِ الْمَثَلِ وَالشّاهِدِ وَالْخَبَرِ الصّادِقِ وَالتَّعْبيرِ الْبارِعِ . وَإِنَّما يَرْغَبُ في بُلوغِ غايَتِه وَمُجاوَزَةِ الِاقْتِصارِ فيهِ ، مَنْ لا يَحْتاجُ إِلى تَعَرُّفِ جَسيماتِ الْأُمورِ ، وَالِاسْتِنْباطِ لِغَوامِضِ التَّدَبُّرِ وَلِمَصالِحِ الْعِبادِ وَالْبِلادِ ، وَالْعِلْمِ بِالْأَرْكانِ وَالْقُطْبِ الَّذي تَدورُ عَلَيْهِ الرَّحى ؛ وَمَنْ لَيْسَ لَه حَظٌّ غَيْرُه وَلا مَعاشٌ سِواهُ . وَعَويصُ النَّحْوِ لا يَجْري فِي الْمُعامَلاتِ وَلا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ شَيْءٌ - هكذا ولو قال : يَضْطَرُّ ، بفتح الياء ، كان أحسن ، أي لا يحمله عليه شيء من المعاملات . |
لكن هذا فهم جائر ! أما إذا فهمت أن النحو نظام أطوار اللغة والتفكير العربيين ، الذي يقوم على عِقْدها أن ينقطع سِلْكُه ؛ فتنفرط حَبّاتُه لُغاتٍ وتَفاكيرَ شَتّى ؛ فلن تجد عن الاشتغال به أي غنى ، ولرأيته وعمود جسم الإنسان سواء ؛ " فَالنَّحْوُ لَيْسَ مَوْضوعًا يَحْفِلُ بِهِ الْمُشْتَغِلونَ بِالْمُثُلِ اللُّغَويَّةِ وَالَّذينَ يَرَوْنَ إِقامَةَ الْحُدودِ بَيْنَ الصَّوابِ وَالْخَطَأِ ، أَوْ يَرَوْنَ الصَّوابَ رَأْيًا واحِدًا ؛ النَّحْوُ مَشْغَلَةُ الْفَنّانينَ وَالشُّعَراءِ ، وَالشُّعَراءُ أَوِ الْفَنّانونَ هُمُ الَّذينَ يَفْهَمونَ النَّحْوَ ، أَوْ هُمُ الَّذينَ يُبْدِعونَ النَّحْوَ ؛ فَالنَّحْوُ إِبْداعٌ " ، أو كما قال أستاذنا الدكتور مصطفى ناصف ، رحمه الله ! ولقد ذكرني فهمك هذا الجائر ، كلمة قالها أستاذ نحوي جامعي ، في مجتمع لغويي دول مجلس التعاون الخليجي العربية ، فكان سخرة الساخرين - قال وكأنه يفصل في القضية ويقسم بالسوية : يا جماعة ، لم هذا الاختلاف كله ؛ ألسنا نعلم النحو لوقاية الألسنة من اللحن ؟ |
وَبِالْجُمْلَةِ إِنَّ لِكُلِّ مَعْنًى شَريفٍ أَوْ وَضيعٍ ، هَزْلٍ أَوْ جِدٍّ ، وَحَزْمٍ أَوْ إِضاعَةٍ - ضَرْبًا مِنَ اللَّفْظِ هُوَ حَقُّه وَحَظُّه وَنَصيبُهُ الَّذي لا يَنْبَغي أَنْ يُجاوِزَه أَوْ يَقْصُرَ دونَه . |
من ثم كان عد الجاحظ في أنصار اللفظ وخصوم المعنى ، خبطا من القول ! وكان عده في سلف الجرجاني الصالحين ، الذين وطؤوا له أكناف نظرية النظم ، صوابا من القول وسدادا . |