تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 46
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 46
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "رَسائِلُ الْجاحِظِ"]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
تَسْتَعيرُ الشُّعَراءُ بَعْضَ هذِه ( أسماء أعضاء الحيوانات المختلفة ) مِنْ بَعْضٍ ، إِذَا احْتاجَتْ إِلى إِقامَةِ الْوَزْنِ . |
بل قبل ذلك أو معه ، للإيحاء بالمشابهة ، وإلا تركت البيت المعجوز عنه إلى غيره ! |
رَوَوْا عَنِ ابْنٍ لِجَعْفَرِ بْنِ يَحْيى كانَ صَيْرَفيًّا . |
هو صيرف ، وما النسبة إليه إلا على جهة الدَّوّاريّ ، من التوسع في نسبة الدَّوّار إلى نفسه ، في قوله : " وَالدَّهْرُ بِالْإِنْسانِ دَوّاريّ " ! ثم شاع في كلامنا : رئيسي ، وفرعي ... . |
قالَ الْآخَرُ في عَيْبِ الْبَغْلَةِ : شَديدَةُ السَّوَسِ ( داء يصيب عجزها ) ، وَذلِكَ مِمّا يَنْقُضُ قُواها وَيوهِنُ أَمْرَها ، وَهِيَ في ذلِكَ أَهْيَجُ مِنْ هِرَّةٍ ، وَإِنْ كانَتْ لا تَصيحُ صِياحَها ، وَلا تَضْغو ضُغاءَها ، وَإِنَّما ذلِكَ لِأَنَّ الْحافِرَ في هذَا الْخُلُقِ خِلافُ الْبُرْثُنِ ؛ أَلا تَرى أَنَّ الْكَلْبَ وَالسِّنَّوْرَ إِذا ضُرِبا صاحا ، وَكَذلِكَ الْأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَالْبَبْرُ وَالثَّعْلَبُ وَالْفَهْدُ وَابْنُ آوى وَعَناقُ الْأَرْضِ . وَلَوْ أَخَذْتَ الْحافِرَ ، فَقَمَطْتَه ( شددت يديه ورجليه ) ، فَرَسًا كانَ أَوْ بِرْذَوْنًا أَوْ بَغْلًا أَوْ حِمارًا ، ثُمَّ ضَرَبْتَه أَنْتَ بِعَصًا لَمْ يَصِحْ ، وَإِنْ كانَ يَجِدُ فَوْقَ ما يَجِدُ غَيْرُه مِنَ الْأَلَمِ . |
يستعمل الحافرَ أبو عثمان مجازا عن ذوات الحافر . ثم أَعْجِبْ به لا يفلت من تأمله شيء ! ثمت رأيت في شارعنا بقريتنا حمارة استوقفت حمارا آيبا بحمله وخلفه صاحبه ، فمال إليها ، ونزا عليها بحمله ، وصاحبه يدافعه عنها لكيلا يوقع حمله ، فلا هو يرجع عن نزوانه ، ولا صاحبه يرجع عن ضربانه ، حتى لقد حمل عليه فأسه ، يضربه بسلاحها لا يتقي الله فيه ، والحمار كاسمه لا يأبه ، وكأنه لا يألم ! |
أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ يَعْلِفونَ دَوابَّهُمُ الْحَشيشَ ، وَقَدِ اسْتَمَرَّتْ عَلى ذلِكَ (...) ، وَقالَ الْآخَرُ : وَخَيْلُكَ بِالْبَحْرَيْنِ تَعْتَلِفُ النَّوى وَلَلتَّمْرُ خَيْرٌ مِنْ حَشيشٍ وَأَنْفَع ! |
اعتمدت في النُّقْلة ، أواخر مقامي بعمان ، على سائق كريم أمين خبير ظريف لطيف ؛ فكنا في أثناء التنقل مساء الأربعاء من كل أسبوع ، نتذاكر كل شيء ، فذكر لي مرة ، أنهم ربما علفوا أضاحيَّهم التمر ، حتى يطيب لحمها ! ولو قد اطلعنا على صاحب البيت ، لربما كان عمانيا ؛ إذ أهل البحرين وأهل عمان قريب من قريب ! |
زَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنَّ النِّساءِ فِي الْجُمْلَةِ آكَلُ مِنَ الرِّجالِ ، لِأَنَّ أَكْلَ النِّساءِ يَكونُ مُتَفَرِّقًا ، وَمِنْ غُدْوَةٍ إِلَى اللَّيْلِ ، وَالرَّجُلُ أَكْلُه فِي الدَّفْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ هذا فِي الْجُمْلَةِ ! |
ومن ظلمي البين وبغيي على النساء ، أنني أُنَزِّهُهُنَّ عن الأكل ، ولا أحب أن أرى أيا منهن تأكل ، وكأنهن خلق آخر ، خلقه الله - سبحانه ، وتعالى ! - غنيا بالهواء والنار ، عن التراب والماء ! |
وَفَدَ الْمُغيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الرِّياحيُّ عَلى مُعاوِيَةَ في وَفْدٍ ، فَقالَ : يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ، وَلِّني خُراسانَ ! قالَ : ما هِجاءُ ما لا هِجاءَ لَه ؟ قالَ : فَشُرَطَ الْبَصْرَةِ ! قالَ : انْظُرْ غَيْرَ هذا ! قالَ : فَاحْمِلْني عَلى بَغْلٍ ، وَمُرْ لي بِقَطيفَةِ خَزٍّ ! فَلامَه أَصْحابُه ، فَقالَ : أَمّا أَنَا فَقَدْ أَخَذْتُ شَيْئًا ! |
من سنة رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - ألا يُوَلّى الولاية مَنْ يطلبها ! ولقد ذكرت أحد منتخبي أعضاء مجلس الشعب المصري بالباطل فيما مثل الفنانون ، يفد على مُرَشَّحِه بعقب فوزه ، فيطالبه بمسكن وسيارة وعمل - وربما طالبه بزوجة ! - فيأمر صاحب سِرِّه ( سكرتيره ) ، أن يطعيه خمسة جنيهات ، فيقول : " أنا برضو شايف ان كدا أحسن " ! |
لَمّا أُهْدِيَتِ ابْنَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ إِلى يَزيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ عَلى بَغْلَةٍ ، قالَ يَزيدُ : (...) مَنافيَّةٌ غَرّاءُ جادَتْ بِوُدِّها لِعَبْدِ مَنافيٍّ أَغَرَّ مُشَهَّر |
نسبها على الطريقة ، ونسب نفسه على غيرها ، وكأنه عبد شخص منافي ، عفوا ! |
إِذا لَمْ تَكُ ذا رَأْيٍ وَذا قَوْلٍ وَذا عَقْل (...) تَرَى الْفِتْيانَ كَالنَّخْلِ وَما يُدْريكَ مَا الدَّخْل وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْوَصْلِ وَلكِنْ يُعْرَفُ الْفَضْل |
خرجت قافية الشعر عن راء الروي المكسورة إلى المضمومة ثم رجعت إلى المكسورة ، وهو عيب الإقواء . وقد مرت أمثلة منه كثيرة لم ينبه عليها أبو عثمان ، وكأنه لم يحب مآخذ العروضيين - كما روي عنه - أو لم يرو الأمثلة من أصلها على الإقواء ! |
هذا شَيْءٌ لَمْ أَحُقَّه . |
ما زال أهل الفيوم من صعيد مصر ، يقولون في السؤال عن إدراك الشيء الماضي : حَقَّيْتو ؟ ، أي أدركته ؟ وهم أصلا يقولون : حَقّ ! فيما يقول فيه القاهريون : معقوله ! |
قَدْ يَكونُ هذَا الَّذي نَسْمَعُه مِنَ الْيَمانيَّةِ وَالْقَحْطانيَّةِ ، وَنَقْرَؤُه في كُتُبِ السّيرَةِ ، قَصَّ بِهِ الْقُصّاصُ ، وَسَمَروا بِه عِنْدَ الْمُلوكِ . وَزَعَموا أَنَّ بِلْقيس بِنْتَ ذي مشرح - وَهِيَ مَلِكَةُ سَبَأٍ ، ذَكَرَهَا اللّهُ فِي الْقُرْآنِ فَقالَ : " وَلَها عَرْشٌ عَظيمٌ " - زَعَموا أَنَّ أُمَّها جِنّيَّةٌ ، وَأَنَّ أَباها إِنْسيٌّ ، غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْجِنّيَّةَ وَلَدَتْ إِنْسيَّةً خالِصَةً صِرْفًا بَحْتًا ، لَيْسَ فيها شَوْبٌ ، وَلا نَزَعَها عِرْقٌ ، وَلا جَذَبَها شَبَهٌ ، وَأَنَّها كانَتْ كَإِحْدى نِساءِ الْمُلوكِ ! |
قد تعلم - يا سيدنا - وأنت به أعرف وأخبر ، أن العرب إذا استعجبت الشيء واستغربته ، نسبته إلى الجن ، عملا كان أو عاملا ! ثم نحن هذه الايام نعيد الاطلاع على سيرة بني هلال ، فنجدهم جعلوا الزناتي ملك تونس العربي ، لإنسي من جنية ! وما زال أهلنا يصيحون على العجيب : شوفوا ابن الجنيه ! ثمت لكن أطرف ما هنا أن المزعوم فيه ذلك ، يفرح بهذا الزعم ، ويروجه ، ولا سيما الفنانون والرؤساء ! وما زلت أذكر كيف غزا رونالد ريجان رئيس أميريكا الأسبق - لعنة الله على الأميركيين الظالمين ! - المعسكر الشرقي بأفلام رامبو المنتصر وعليها وجهه بدلا من وجه سيلفيستر ستالون ، بطل الفيلم ، وإن كان ذلك الرئيس في أصله ممثلا وسطا ! |
مِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَزْعُمونَ أَنَّما تُصْرَعُ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ واحِدًا مِنَ الْجِنِّ عَشِقَها ، وَأَنَّه لَمْ يَأْتِها إِلّا عَلى شَهْوَةِ الذَّكَرِ لِلْأُنْثى ، أَوْ شَهْوَةِ الْأُنْثى لِلذَّكَرِ ! وَقيلَ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ : أَيَكونُ أَنْ يَصْرَعَ شَيْطانٌ إِنْسانًا ؟ قالَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ ذلِكَ لَما ضَرَبَ اللّهُ بِهِ الْمَثَلَ لِآكِلِ الرِّبا ، حَيْثُ يَقولُ : " الَّذينَ يَأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومونَ إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ " . فَهذا شَيْءٌ واضِحٌ . قالَ : ثُمَّ وَقَفْنا عَلى رَجُلٍ مَصْروعٍ ، فَقُلْتُ لَه : أَرَأَيْتَ هذَا الصَّرْعَ ، تَزْعُمُ أَنَّه مِنْ شَيْطانِه ؟ قالَ : أَمّا هذا بِعَيْنِه فَلا أَدْري أَمِنْ فَسادِ مِرَّةٍ وَبَلْغَمٍ ، أَمْ مِنْ شَيْطانٍ ؟ وَما أُنْكِرُ أَنْ يَكونَ خَبْطَ شَيْطانٍ وَصَرْعَه ، وَكَيْفَ لا يَجوزُ ذلِكَ مَعَ ما سَمِعْنا فِي الْقُرْآنِ ؟ |
زعمت لي جدتي نعمات - رحمها الله !- أن رجلا تزوج امرأة من الجن من غير أن يعرف حقيقتها ، حتى كان يوم مَرِضَ ، ولزمته ترعاه ، فاحتاج إلى شيء بعيد عنهما ، فأرسلت إليه يدها ، فجاءت به من غير أن تقوم ؛ ففزع الرجل ، ولم يقر له بعدئذ معها قرار ! فكنت دائما أتخيل تلك اليد الجنية ، تمتد ، وتتلوى والمكان ، وتصعد ، وتهبط ! ثم كذلك سمعنا في القرآن : " طلعها كأنه رؤوس الشياطين " ، فلم لا يكون منه ، على طريقة خطاب العرب بما يجري في كلامهم من أساليب ؟ |
يَرْوونَ في رِواياتِهِمْ في تَزْويجِ الْإِنْسانِ مِنَ الْجِنِّ ، حَتّى جَعَلوا قَوْلَ الشّاعِرِ : يا قاتَلَ اللّهُ بَنِي السِّعْلاة عَمْرًا وَقابوسًا شِرارَ النّات - يُريدُ النّاسَ - أَنَّهُ الدَّليلُ عَلى أَنَّ السِّعْلاةَ تَلِدُ النّاسَ ! |
ولقد بنيت على مثل هذه الخرافة ، قصيدتي " أخو الغول " ، في معنى إيثاري العزلة ، وأثنيت فيها على السعلاة : " تَأْلَفُنِي السِّعْلاةُ لا تَعْرِفُنِي السُّعاةْ " ! |
قالَتِ الْحُكَماءُ : الْحَنينُ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ ، وَرِقَّةُ الْقَلْبِ مِنَ الرِّعايَةِ ، وَالرِّعايَةُ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَالرَّحْمَةُ مِنْ كَرَمِ الْفِطْرَةِ ، وَكَرَمُ الْفِطْرَةِ مِنْ طَهارَةِ الرِّشْدَةِ ، وَطَهارَةُ الرِّشدَةِ مِنْ كَرَمِ الْمَحْتِدِ . |
ولكنني استظهرت من ااتحاد مادة الحنين والحنان ، معاني جليلة في مقالي " إِذا مَسَّهُ الْحُبُّ حَنَّ " : " إن الكعبي إِذا مَسَّه الْحُبُّ حَنَّ : حَنَّ يَحِنُّ حَنينًا ، أي اشتاقَ وطَرِبَ . حَنَّ يَحِنُّ حَنانًا ، أي عَطَفَ ورَحِمَ . ولن يَفْتَقِدَ مُتَأَمِّلُ مجموعته هذه ، مَوادَّ الحَنينِ والحَنانِ في أَيَّةِ قصيدة من قصائدها . ولكن كيف يجتمع الاشْتِياقُ والطَّرَبُ والعَطْفُ والرَّحْمَةُ ، مَعًا ؟ إن الاشتياق والطرب كليهما معا ، هما سبيلا الأنفس السوية إلى العطف والرحمة كليهما معا ، أي لَوْلا حَنينُ الْأَنْفُسِ السَّويَّةِ ما كانَ حَنانُها ؛ ومن ثم نحتاج دائما أن نُعَلِّمَ أولادنا - ونُذَكِّرَ أنفسنا - الاشتياقَ والطربَ ، لا كما قال السّوريُّ وغَنّى الْمِصْريُّ : " اشْتَقْتُ إِلَيْكَ ؛ فَعَلِّمْني أَلّا أَشْتاقْ " ، وإن جاز ذلك من باب السياسة الغزلية ! |