"سؤال الثقافة" لعلي أومليل

"سؤال الثقافة" لعلي أومليل

قضايا مستمرة في طريق العرب إلى الحداثة

جمال الموساوي - المغرب

[email protected]

يندرج كتاب "سؤال الثقافة، الثقافة العربية في عالم متحول" للباحث المغربي الدكتور علي اومليل، في إطار الأعمال التي تتوخى البحث عن مكامن فشل مشاريع التحديث في العالم العربي، وهي مشاريع حمل لواءها ثلة من الباحثين والمفكرين العرب، ولكنها لم تفض إلى حمل المجتمعات العربية من دائرة الماضي إلى مصاف المجتمعات الحديثة القائمة على مجموعة من القيم الأساسية.

لهذا فالمؤلف يطرح نفس الأسئلة ونفس القضايا التي تشكل محور كل اعماله الفكرية، وهي قضايا الحرية والديموقراطية وحقوق الغنسان، مؤكدا قناعة جوهرية هي اقتران الحداثة بهذه القضايا، وبشكل خاص اقترانها بالديموقراطية، وبالتالي فإنه من غير الممكن الولوج إلى الحداثة في ظل فكر شمولي، مهما كانت مرجعيته الإيديولوجية، لا يملك فيه العقل أي سلطة، ولا يسمح بفكر مختلف.

وإذا عدنا إلى كتابات سابقة للدكتور علي اومليل، فإننا لن نعدم شواهد على استمرار هذه الأسئلة لديه، وهكذا نقرأ في كتابه " في شرعية الاختلاف" الصادر قبل عقد ونصف: " هناك مطالب اصبحت الآن تتصدر الخطاب العام وهي مطالب التعددية والديموقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن كل واحد من هذه المطالب يتأسس على مبدأ الحق في الاختلاف" 1.

بيد أن الجديد الآن، يتمثل في كون هذه المطالب لم تعد مطالب داخلية فقط، بل صارت ضرورة تفرضها التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين بشكل خاص. ذلك ان مدَّ العولمة وهبوب رياح ثقافات قوية، مدعومة بقوة اقتصادية وإعلامية وعسكرية ايضا، تسعى للهيمنة ولترسيخ قيمها، يقتضي البحث عن إمكانيات لإنتاج ثقافة لا تذوب تماما في التيار الجارف، ولكن، كذلك، لا تقف على الهامش متذرعة بوهم قد نسميه تحصين الهوية والقدرة على المقاومة.

بهذا نهتدي إلى انه لا معنى لسؤال الثقافة ولمفهومها، إن لم يُطرح من موقع التفاعل مع ما يجري في العالم، ففي ظل التحولات المدوية التي عصفت بالكثير من الافكارالجاهزة، حتى ما يتعلق منها بالدولة والوطن والحدود، لم يعد ممكنا الحديث عن ثقافات معزولة 2.

لقد أصبحت الثقافة اليوم، مع الثورة التكنولوجية والإعلامية، سلعة عليها أن تجد لنفسها مكانا في سوق الثقافات العالمية، وبالتالي عليها أن تصبح قابلة للتبادل وقادرة على المنافسة، وهو أمر غير ممكن بالنسبة للثقافة العربية في ظل العقليات التي مازالت سائدة ومتحكمة حاليا، عقليات ورثت ثقل الماضي وتريد استمرار هذا الماضي مادامت تستفيد منه وتستغله لخدمة أهدافها الضيقة.

ويمثل الخروج من الماضي عبر التفاعل مع الحركية العالمية دون الذوبان فيها جوهر ما يطرحه علي أومليل في " سؤال الثقافة، الثقافة العربية في عالم متحول"، خاصة أن المفكرين الغربيين اليوم، الليبراليين الجدد منهم على وجه التحديدن، يُنَظّرون لصراع بين عقليتين: حداثية وتقليدية، وهو ما دفع أومليل إلى قراءة الواقع في العالم العربي ليخلص إلى أنه واقع لا يتفاعل عمليّا مع التحولات التي يشهدها العالم إلا على مستوى الخطاب ويكتفي باستيراد المصطلحات والمفاهيم.

وقد وجدت الثقافة الغربية بلا شك في ما يسميه المؤلف بالانشطار الثقافي في العالم العربي المرتبط بالخلاف حول قضايا اساسية هي المسألة الدينية وعلاقة الدين بالسياسة وقضية المرأة، منطقة فارغة بين الخطاب والممارسة حيث خطاب الحداثة، بالرغم من قوته، لم يتمكن من التحول إلى سلوك وقيم في الحياة، ولذلك فهي تسعى الآن لملء هذا الفراغ في إطار " رسالة" شبيهة برسالة الاستعمار القديم: إدخال الشعوب البدائية إلى الحضارة.

وهنا يرى علي أومليل أن ما يحدث للعرب اليوم هو نتيجة فشلهم في الانخراط الإيجابي في التحولات الكبرى " فأمريكا حملت لواء دمقرطة العالم العربي لنها اعتبرت أن الذين هاجموها لأول مرة داخل اراضيها( 11 ستنبر 2001) جاءوا من بلدان انظمتها غير ديموقراطية" 4.

بيد أنه لا يمكن قراءة التوجه الأمريكي انطلاقا من هذه الأحداث فقط، وإنما لا بد من وضعه في سياقه التاريخي العام الذي يحكم الصراع بين ثقافتين مختلفتينن كما يحكم إمكانيات الحوار والتبادل والتفاعل بينهما. وعندما يقوم علي أومليل بمساءلة فكر الليبراليين الجدد في الغرب، يسائل في نفس الوقت افكار الليبراليين العرب، الذين تخرجوا،  في الغالب، من الجامعات الغربية وتأثروا بالفكر الغربي، بل عملوا جهدهم لنشره في العالم العربي فلم ينجحوا.

ويقدم المؤلف في كتابه نموذجا كبيرا لهؤلاء هو الدكتور طه حسين، الذي فشل بالرغم من موقعه في الحياة الثقافية العربية وفي الحياة السياسية في مصر  وبالرغم من كل أعماله، في ترسيخ القيم التي تأثر بها واعتبرها اساسية لقيام مجتمع حديث. لقد فشل طه حسين لأنه اصطدم بعوائق كثيرة منها ما هو متعلق به شخصيا، مثل التباس مواقفه أحيانا "فالليبرالية الغربية- قدوته- هي علمانية في السياسة، والدين مسألة شخصية" 5 ولكن طه حسين " لم يدع إلى إبعاد التعليم الديني من المدارس" 6.

إضافة إلى ذلك فهو مع العديد من الليبراليين العرب، في نظر المؤلف، كاتب مبشر لا غير من أولئك الذين " يكتبون مبشرين بافكار ومبادئ ديموقراطية، لكنهم لم يكونوا يخوضون معارك ديموقراطية كبرى في وجه الأنظمة التي كانت قائمة"7، ويثْبت اومليل في كتابه العديد من العوائق التي وقفت في وجه حركة التنوير في العالم العربي وأدت إلى فشل مشاريع أخرى، غير مشروع طه حسين، لإرساء اسس مجتمع حديث، بل أدت في المقابل إلى صعود خطاب منغلق يكرس الإقامة في زاوية واحدة وضيقة من الماضي، ويستعدي عليه العالم الغربي الذي غذى من جهته اصوليته الخاصة الرافضة لأي حوار، أصولية ترى أن الحداثة هي " امران لا ثالث لهما: اقتصاد السوق، وديموقراطية ليبرالية بُنيا على قيم ومبادئ ثقافية لا توجد في غير ثقافة الغرب" 8.

 وبذلك نجد أنفسنا امام اطروحات منذورة للإخفاق منذ البداية في ظل غياب اي إمكانية للحوار والتفاعل مما يفسح المجال لطلب المدد الذي يأتي عبر القوة الاقتصادية او القوة العسكرية، أو هما معا، ولعل في  ما يحدث في العالم العربي اليوم مثالا واضحان وبالتالي فقد صار من الصعب الحديث عن تعايش مفترض ومطلوب مع وجود هذا التعصب المزدوج الذي ينتهي بغلبة الأقوى، ليس ثقافيا وحضاريا بل اقتصاديا وعسكريا، وهذا ما يشير إليه علي أومليل ضمنيا عندما يقول " لكي تستطيع ثقافات كبرى، كالثقافات العربية، أن تصمد وتنافس في عالم اليوم فإن عليها ان تكسب رهان الحداثة وأن تسندها قوةُ مجتمعاتها،اقتصاديا وسياسيا" 9.

هنا نجد انفسنا أسرى حالة من عدم التكافؤ، مادام العرب لا يملكون تلك القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية أيضا، القادرة على التحدي والمنافسة، وعلى دعم وانتشار الثقافة العربية. هذا المأزق يطرح من جانبه ضرورة فتح قنوات غير قنوات الصراع مع الثقافة الغربية، أي ضرورة الحوار من أجل بناء أفق للقيم التي تشكل المشترك الإنساني.

غير ان مطلب الحوار هذا ليس مطلبا عربيا خالصا، بل غربيا أيضا بالنظر غلى حاجة الغرب نفسه لفهم الثقافة العربية التي يتم اختزالها  " بغناها وتعدد روافدها إلى دين متطرف يربي على الكراهية وينتج الإرهاب" 10، وهي نظرة تجعل الحوار صعبا، وأكثر صعوبة عندما نضيف إلى ذلك المواقف الأصولية في البلدان العربية المعادية بشكل مطلق للغرب.

بيد ان صعوبة الحوار لا تعني بالضرورة استحالته، شرط انتفاء مجموعة من العوائق حددها علي أومليل في سياسة الغرب المزدوجة تجاه القضايا العربية والقضية الفلسطينية على رأسها، ثم في تخلف نظام التعليم في البلدان العربية الذي لا ينتج معرفة تساير تطور المعارف في العالم المعاصر، وأخيرا في إيديولوجيا الليبراليين الجدد التي ادت بهم إلى ما أسماه بالعرقية الثقافية بحيث لا يرون إمكانية للدخول إلى الحداثة من خارج قيم الثقافة الغربية، وهذا ينطبق أيضا وبالتأكيد على الفكر الأصولي الذي ينظر إلى الغرب بعين واحدة.

              

هوامش:

1- علي أومليل، "في شرعية الاختلاف" منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط ط 1، 1991 ص 89

2- رحمة بورقية، "مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول" منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، المحمدية ط 1، 2004 ص 101

3- علي أومليل،" سؤال الثقافة" المركز الثقافي العربي، الدار البضاء-بيروت ط 1، 2005 ص 94

4- نفسه ص 5

5- نفسه ص 19

6- نفسه ص 19

7 نفسه ص 19

8- نفسه ص 77

9- نفسه ص 115

10-  نفسه ص 75