البكاء على كتف الوطن

عبد اللطيف الأرناؤوط

للشاعر العراقي " يحيى السماوي " *

يحيى السَّماوي

[email protected]

عبد اللطيف الأرناؤوط - دمشق

محنة الوطن هي محنة الشاعر " يحيى السماوي " وهي من أكبر الأحداث التي هزّت الضمير الإنساني ، فلا غرابة أن ينذر الشاعر قلمه لتصوير وقعها في نفسه . فقد غادر السماوي وطنه العراق هربا من الظلم والإستبداد الديكتاتوري على أمل العودة إليه في ظل نظام يغدو فيه العراق وطنا للجميع يخلو من القهر والإضطهاد ، لكن أمله خاب حين بدت له مأساة الإحتلال لا تقلّ فداحة عن الحكم الاستبدادي ، فآثر البقاء في منفاه الإختياري يمزقه الألم ، وقد تخلى العالم كله عن وطن وشعب كان عبر تأريخه منهلا للحضارة ومنبعا ً للعطاء الإنساني .

يضمّ الديوان نمطين من الشعر ، التقليدي الذي خبر الشاعر أصوله ووقف على أسراره ، والنمط الآخر يدخل في باب الشعر التفعيلي ، ويبدو أن الشاعر لا يقلّ تمكنا ً من النظم فيه ، دون أن يجنح إلى الغموض الشائه .. فشعره صاف ٍ صفاء شمس بادية السماوة التي أنجبته .

 لشعراء النزعة الوطنية والقومية في الأدب العربي المعاصر ، مواقف متفاوتة ، بل متباينة في البحث عن أسباب المحن والكوارث التي ابتليت بها الأمة العربية ، منهم مَنْ يحيل أسباب النكبات إلى الشعب فيُحمّله مسؤولية المأساة ولا يلتفت إلى المؤامرات الخارجية التي تحاك ضده ، ويصدرون عن توجيه رديء يبعث اليأس في نفوس الأجيال ، فيلتقون في هذا المسار مع العملاء في تثبيط الهمم وإضعاف العزائم وإن كانوا يتذرعون بأنهم أقدر على تحريك الجسد المتهالك واستعادة طموح عرفته الأمة العربية في الزمان الغابر ثم تلاشى .. ومنهم مَنْ يُبايع المحتل تحت ذريعة أن دباباته قد أطاحت بالحاكم المتعسف ( متجاهلا أن هذه الدبابات ستجثم على صدر الوطن ) .. وثمة منهم مَنْ يرى الحكم المتعسف خطيئة ً والإحتلال عارا ًفهو يرفضهما كليهما ويشهر بوجهيهما معا قلمه وحنجرته والسماوي من الرهط الأخير .

يـومي له ليلان ِ .. أينَ نهاري ii؟
أبحَرتُ في جسَد الفصول مهاجرا iiً
زادي يراعي والمدادُ .. iiوصهوتي
أبـدَلـتُ  بـالظل ِّ الهجيرَ iiلأنني
لستُ الأسيفَ وإنْ فجعتُ بمطمحي
أنـا  ضـائعٌ مثل العراق ِ iiففتشي
وطـني  على سَعة ِالسماءِ رغيفه ُ
وتـعددتْ  يا هندُ في وطن iiالهوى







أتـكـون شـمسي دونما أنوار ِ ؟
طاوي  الحقول وليس من أنصار iiِ
خـوفي .. وظبية هودجي iiأفكاري
قـد  كنتُ في داري غريبَ الدار iiِ
أنـا مـؤمـنٌ بـمناجل ِ الأقدار iiِ
عني  بروضك ِ لا بليل ِ iiصحاري
لـكـنـه حِـكـرٌ على الأشرار iiِ
سُـبُـلُ  الـردى بـتعدد التجّار iiِ

فتشي تحت ركام القهر عني

في الذي كان يُسمّى وطنا ..

قبل أنْ ينسَجنا

في أضابير السفارات ِ

الدهاليز ِ

سراديب ِ الخنا ..

والخطابات ِ التي تقرأ في وجهين ِ

وجه ٌ يتهَجّاهُ الدراويش ُعلينا

كلما أوشكت ِ الأرضُ على الرعد ِ

ووجهٌ في رحاب " المعبد الأبيض "

ترضي الوثنا

**

ليس مطلوبا من الشاعر أن يكون عالِم اجتماع أو اقتصاد أو رجل سياسة .. فالمطلوب منه أن يتمثل جوهر المأساة بحدسه ، ويوجّه رسالته بلون من الوعي .. وعي مسببات المأساة ليفضحها ويندد بها ، بقالب جمالي مؤثر ، وهذا ما نلمسه في شعر " يحيى السماوي " من خلال تصويره أثر المحن في نفسه ، وواقع وطنه سواء في ظل النظام الديكتاتوري أو تحت رحى الإحتلال .. إنه مقاتل سلاحه الشعر ، يذود عن وطنه المجزّأ ضمنا ً :

أوصِدْ نوافذك الجريحة َ

لن يُطِلَّ الهدهدُ الموعودُ

حتى يستعيدَ عفافه ُ طين ٌ ووردُ

ويعودَ للأرباب ِ رُشدُ

للأرض قصّتها القديمة ُ :

كان يا ما كانَ

في الزمن الذي لم يأت ِ بعدُ

وطنٌ

تخاذل فيه جندُ

فإذا الرغيف الذلُّ

والماعونُ جرحٌ

والهوى سوط ٌ وقيدُ

فلتدّخِرْ آهاتك َ

الشطآنُ سوف تضيقُ

والأنهارُ تعطشُ

تستحي من ظلها الأشجارُ

سوف يجفُّ ضرعُ الأرض ِ

والتنور ُ يغدو

إرثا ً فراتيّا ً..

إذن ؟

أينَ المفرُّ من القصيدة

والقصيدةُ تهمة ٌ إنْ لم تهادن

سارقي قوت الجياع ِ

ولم تمَسِّدْ لحية َ السيّاف ِ

فادخل كوخ جرحِكَ واغلق ِ الأبوابَ

فالناطورُ وغدُ

كذبتْ غيومُ الفاتحين

وكاذبُ برق ٌ ورعدُ

ويصور الشاعر مسلسل القتل والتدمير في العراق .. هذا الوطن الذي إتحدت كل الذئاب البشرية عليه ، بينما الشعب الضحية مقسَّمٌ رغما ً عنه ، إلى شِيَع ٍ على مائدة المحاصصة الطائفية التي أوجدها المحتل :

في الوطن المحكوم بالإعدامْ :

كلّ الذئاب اتحدتْ

واختلفتْ ما بينها الأنعامْ

على بقايا الزاد

في مأدبة اللئامْ

دماؤها مهدورة ٌ

فمرةً تذبَحُ باسم جنة ِ السلامْ

ومرة ً

باسم فتاوى " حجّة الإسلامْ "

ومرة

لأنها ترفض أنْ تهادنَ المحتلَّ

أو

تكفر بالحرية التي بها بشرَنا

مستعبد الشعوب ِ

جاحدُ الهدى

موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ

 ويستطرد الشاعر في وصف ما يحدث في العراق من قتل عشوائي وتصفيات جسدية بشتى الذرائع :

يحدث أنْ يُقتلَ عصفورٌ

لأنّ ريشهُ

ليس بلون ِ جُبَّة ِ الإمامْ

يحدث ُ أنْ يُصفعَ ظبيٌ

في الطريق العامْ

لأنه لم يُطِل ِ اللحية َ ..

أنْ تطرَدَ من ملعبها غزالة ٌ

لأنها لا ترتدي عباءة ً

طويلة َ الأكمامْ

يحدث ُ أنْ يُدكَّ حيٌّ كامل ٌ

وربما مدينة ٌ كاملة ٌ

بمعول انتقامْ

بزعم أنّ مارقا ً

أقام في بيت ٍ من البيوت ِ

قبلَ عامْ

 وليس أصدق من هذا الشعر في وصف واقع وطن الشاعر الراهن ، ولا أبعث منه على الحرقة والإستنكار .

 ومن أطول قصائد الديوان وأتقنها نسجا ً وأبرزها تعبيرا ً عن ألم " السماوي " قصيدة عنوانها " سادن الوجع الجليل " وقد بلغ فيها ذروة ما يمكن أن يبلغه مستنطق لروحه المعذبة ... يستهلها بيأسه من كل بيان لجأ إليه ليبرز ألمه عتابا ً لوطنه ، وسؤالا حائرا ً على شفته عنه ، ورسولا ً يبلغ أهله حنينه ، وشعرا ً لا صدى له في دنيا الغربة ، وحبا ً لا يتلقى ما يقابله ، واجترار ذكريات تغذي توقه من أيام الطفولة والحرمان ، وهو في السادسة والخمسين من عمره .. ثم يخاطب وطنه قائلا :

ستٌّ وخمسون انتهينَ وليس من
الـدغـل والزقومُ فوق iiموائدي
أحبيبةَ  الوَجَع ِالجليل ِ مصيبتي
لـو كـان يـفتح للمشرَّد ِ iiبابه
وطـويتُ خيمة غربتي لو iiأنها
نـخـرَ الوباءُ الطائفيُّ iiعظامنا





فـرَح ٍِ أخيط ُ به فتوق َ iiعذابي
والـقـيحُ والغسلينُ في iiأكوابي
أنّ الـعراق اليوم َ غابَ ذئاب iiِ
لأتـيـتـه زحفا ً على iiأهدابي
عرفتْ  أمانا ًفي العراق iiروابي
واسْـتفحَلَ الطاعونُ بالأرباب iiِ
عـشـنا  بديجور ٍ فلما iiأشمَستْ
ومُـسَـبِّحين  تكاد حين iiدخولهم
ومُـخـنـثينَ  يرون دكَّ مآذن iiٍ
والـلاعقين يدَ الدخيل ِ تضرُّعا iiً
جِـيف  ٌوإنْ عافتْ عفونة iiلحمِها
وطـنَ  الفجيعة والشقاء ألا iiكفى





كشف الضحى عن قاتل ٍ ومرابي
تـشكو  الإلهَ حجارة ُ المحراب iiِ
مجدا ً .. وأنّ النصرَ حَزُّ رقاب iiِ
لـنعيم  ِ كرسي ّ ٍ بدار ِ خراب iiِ
أضراسُ  ذئبان ٍ ونابُ كِلاب ِ ii!
صبرا  ً على الدخلاء ِ والأذناب ِ

وهكذا يبرز صوت الشاعر " يحيى السماوي " شاعرا مقاوما للديكتاتورية مثلما هو مقاوم للإرهاب والإحتلال والظلاميين وأصحاب الحوانيت السياسية وسارقي قوت الجياع ... فهو مع المظلومين في حربهم العادلة ضد الظلم ، مع المهمشين والمسحوقين ضد ذوي القفازات الحريرية ، ومع أراجيح الأطفال ضد دبابات الاحتلال ... إنه مع العراق الواحد الموحد ضد كل ما من شأنه تفتيته وتشظيته .

عبد اللطيف الأرناؤوط

 دمشق

* البكاء على كتف الوطن ط2 (206 صفحة قطع متوسط ) منشورات دار التكوين دمشق 2008