تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 27

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 27

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " ديوانُ أَبي تَمّامٍ بِشَرْحِ الْخَطيبِ التِّبْريزيِّ "]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

مَحاسِنُ أَصْنافِ الْمُغَنّينَ جَمَّةٌ وَما قَصَباتُ السَّبْقِ إِلّا لِمَعْبَد

أَيْ أَنْتَ السّابِقُ إِلى هذِهِ الْفَعْلَةِ ، كَما أَنَّ مَعْبَدًا هُوَ السّابِقُ إِلى صِناعَتِه . هذا مِثْلُ ما تَقَدَّمَ مِنَ الْإِلْجاءِ ، لِأَنَّ الْقَصيدَةَ لَوْ كانَتْ عَلَى الضّادِ ، لَجازَ أَنْ يُقالَ فِي الْقافِيَةِ " الْغَريضُ " ، وَلَوْ كانَتْ عَلَى الْحاءِ ، لَجازَ أَنْ يُقالَ " مِسْجَحٌ " !

ولو كانت على الكاف لجازت " مالِكٌ " ، ولو كانت على القاف لجازت " مُخارِقٌ " ، ... !

وهل عَبَثٌ أَعْبَثُ من هذا !

ذاك معبد صاحب المُدُن ( الألحان الكبار المسماة مدن معبد ) ، لا يدانيه أحد !

قالَ يَمْدَحُ أَبَا الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ الْهَيْثَمِ بْنِ شُبانَةَ :

نَوارٌ في صَواحِبِها نَوار كَما فاجاكَ سِرْبٌ أَوْ صِوار

" نَوارٌ في صَواحِبِها نَوار  " ، قَضيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُتَجانِسَيْنِ : إِحْداهُما مَعْرِفَةٌ ، وَالْأُخْرى نَكِرَةٌ - هكذا ، وفيه ركاكة ! - فَإِنْ جُعِلَ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةً ، فَكَأَنَّه قالَ : فُلانَةُ نَوارٌ ، أَيْ نَفورٌ ، تُصْرَفُ " نَوارُ " الْأولى لِلضَّرورَةِ . وإِنْ جَعَلْتَ " نَوارٌ " الْأولى نَكِرَةً في مَعْنَى النَّفورِ ، وَالْأُخْرى مَعْرِفَةً ، فَلا ضَرورَةَ فِي الْبَيْتِ ، وَهذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ .

وكَأَلّا ضرورةَ بمَدَّة الإطلاق المبدلة من نون التنوين ! ومن قبل ما جعلناها ضرورةً أَذْهَلَ الباحثين عنها شِياعُها !

ثم لا ريب لديَّ في نظره بهذه القصيدة إلى رائية الفرزدق في زوجه " نوار " ، ولا سيما أنه ضَمَّنَها بعض تعابيره فيها ، كقوله :

" يَكونُ لَه عَلَى الزَّمَنِ الْخِيار " ،

المأخوذ من :

" لَكانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيار " .

بل صَرَّحَ في أخرى ، بعَلاقَةِ بَيْنِهما :

" وَجْدًا كَوَجْدِ فَرَزْدَقٍ بِنَوار " !

مُحَمَّدُ إِنّي بَعْدَها لَمُذَمَّمٌ إِذا ما لِساني خانَني فيكَ أَوْ شُكْري

كأن أبا تمام استفاد من أن أم جمل - لعنها الله ! - كانت تسمي " مُحَمَّدًا " رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - " مُذَمَّمًا " ، ولكن كره الشارح أن يذكرها ومَكْرَها ، وقد ذمها الله - سبحانه ، وتعالى ! - في كتابه العزيز المتردد أبدا !

فَمَضى لَوَ انَّ النّارَ دونَكَ خاضَها بِالسَّيْفِ إِلّا أَنْ تَكونَ النّار

(...) يَقولُ : مَضى هذَا الْمَمْدوحُ طالِبًا لِكَ ، وَلَوِ اعْتَرَضَ دونَكَ لَهُ النّارُ - هكذا بتذكير الفعل ، وهو عربي - لَاقْتَحَمَها بِنَفْسِه ، وَلَمْ يُحْجِمْ إِلّا أَنْ تَعْتَرِضَ نارُ جَهَنَّم ، يُريدُ إِلّا أَنْ يُفْضِيَ طَلَبُه لَكَ بِه إِلى إِثْمٍ يَسْتَحِقُّ بِه مِنَ اللّهِ الْعِقابَ ؛ فَإِنَّه حينَئِذٍ يَكُفُّ وَلا يُقْدِمُ ، وَرَعًا مِنْهُ ، وَحُسْنَ مُراقَبَةٍ .

الله أكبر !

ألا ترى كيف يحسنون التعبير : " حُسْنَ مُراقَبَةٍ " ، تعبير جميل عن رعاية حقوق الله ، سبحانه ، وتعالى !

لا تُنْكِروا ضَرْبي لَه مَنْ دونَه مَثَلًا شَرودًا فِي النَّدى وَالْباس

(...) كانَ أَبو تَمّامٍ أَنْشَدَ أَحْمَدَ بْنَ الْمُعْتَصِمِ هذِهِ الْقَصيدَةَ وَلَيْسَ فيهَا الْبَيْتانِ - أَعْني قَوْلَه : " لا تُنْكِروا " ، وَالْبَيْتَ الَّذي بَعْدَه ( فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس ) - فَقالَ يَعْقوبُ بْنُ إِسْحقَ الْكِنْديُّ وَكانَ يَخْدُمُ أَحْمَدَ : الْأَميرُ أَكْبَرُ في كُلِّ شَيْءٍ مِمَّنْ شَبَّهْتَه بِه ، فَعَمِلَ هذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ ، وَزادَهُما فِي الْقَصيدَةِ مِنْ وَقْتِه ؛ فَعَجِبَ أَحْمَدُ وَجَميعُ مَنْ حَضَرَه مِنْ فِطْنَتِه وَذَكائِه ، وَأَضْعَفَ جائِزَتَه !

ثم كأنه قال في عقب ذهاب أبي تمام عن مجلسه : " هذَا الرَّجُلُ لا يَعيشُ طَويلًا " ؛ فكان ما قال ! ومثله يسمذيه المصريون " ابن موت " ، و لا سيما من يموت من الفاضلين شابا أو غلاما دون الشاب !

والذي فعله أبو تمام مَظْهَرٌ من مظاهر ظاهرة الإدهاش التي افتتن بها من بعده المتنبي ؛ حتى وضعت فيها عنده بحثا بين يدي النشر بمجلة كلية دار العلوم بجامعة القاهرة - ادَّعَيْتُ فيه أنه يتوقع ما يكون ؛ فيُجَهِّزُ له ما يُحَيَّرُ به المتلقين عن المَكْرِ به !

أَمْدَدْتَه فِي الْعُدْمِ وَالْعُدْمُ الْجَوى بِالْجودِ وَالْجودُ الطَّبيبُ الْآسي

لقد اجترأ أبو تمام كثيرا على تراكيب الكلام العربي الجائزة . ولقد وضع في شعره أستاذنا الدكتور شعبان صلاح ، كتابا قرأته قديما ، ولم أجده كافيا ؛ إذ رَصَدَه لضرائره ومجترحاته ، لا جائزه .

اسْتَنْبَتَ الْقَلْبُ مِنْ لَوْعاتِه شَجَرًا مِنَ الْهُمومِ فَأَجْنَتْهُ الْوَساويسا

" شجر الهموم " بديع !

وَلِذاكَ كانوا لا يُرَأَّسُ مِنْهُم مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ حَزْمَه مَرْؤوسا

هذَا الْبَيْتُ مَبْنيٌّ عَلى قَوْلِهِمْ : فُلانٌ قَدْ آلَ وَإيلَ عَلَيْهِ ، أَيْ ساسَ وَسيسَ . وَمَعْروفٌ بَيْنَ الْخاصَّةِ وَالْعامَّةِ ، أَنَّ مَنْ مارَسَ السّوقَةَ ، وَكانَ مِنْهُمْ دَهْرًا ، ثُمَّ صارَ مَلِكًا - يَكونُ قَدْ جَرَّبَ مِنَ الْأمورِ ما لَمْ يُجَرِّبْهُ الْمَلِكُ ابْنُ الْمَلِكِ .

برز الآن في إيران ( فارس ) ، المهندس أحمد نجاد ، الذي يرأس الحكومة ، وهو فقير مغرم بالفقراء متمسك بهم !

جَرَّتْ لَه أَسْماءُ حَبْلَ الشَّموسْ   وَالْوَصْلُ وَالْهَجْرُ نَعيمٌ وَبوسْ

أي نغم عال نفيس !

رَعَتْ طَرْفَها في هامَةٍ قَدْ تَنَكَّرَتْ وَصَوَّحَ مِنْها نَبْتُها وَهْوَ بارِض

" رَعَتْ طَرْفَها " ، يَعْنِي الْمَهاةَ الْوَحْشيَّةَ ، وَإِنَّما يُريدُ الْمَرْأَةَ ، وَهُوَ مِنْ رَعْيِ الرّاعي غَنَمَه وَإِبِلَه ، كَأَنَّه جَعَلَ الطَّرْفَ مَرْعيًّا ، أَيْ رَدَّدَتْ نَظَرَها في شَعَرِه ، فَرَأَتْهُ قَدْ شابَ وَسِنُّه لَيْسَتْ بِالْقَديمَةِ ، فَكَأَنَّه نَبْتٌ قَدْ صَوَّحَ ، أَيْ بَدا فيهِ الْيُبْسُ ، وَهُوَ " بارِض " ، أَيْ أَوْلُ ما ظَهَرَ .

من كلام العمانيين :

" فيكْ بارِضْ " ؟

أي أَفيكَ بقية تستطيع بها أن تعمل ، أو تنهض إلى ما تدعى إليه ؟

كنت بعدما تعلمتُها ، أمازحهم بها ، لأنها من صَميم كلامهم !

لا تَطْلُبَنَّ الرِّزْقَ بَعْدَ شِماسِه فَتَرومَه سَبُعًا إِذا ما غَيَّضا

ما عُوِّضَ الصَّبْرَ امْرُؤٌ إِلّا رَأى ما فاتَه دونَ الَّذي قَدْ عُوِّضا

سبحان الله !

كيف اطلعت على أنني طلبت أمس من الرزق ما غَيَّضْتُه أنا من قبل !

ألا إن الصبر أجدر بي ، إِمّا شَمُسَ المطلب !

قَدْ كَسانا مِنْ كِسْوَةِ الصَّيْفِ خِرْقٌ مُكْتَسٍ مِنْ مَكارِمٍ وَمَساع

حُلَّةً سابِريَّةً وَرِداءً كَسَحَا الْقَيْضِ أَوْ رِداءِ الشُّجاع

(...) هذا مِنْ فَنِّ صِناعَةِ الشِّعْرِ ؛ وَذلِكَ أَنَّه ذَكَرَ الْكِسْوَةَ ، ثُمَّ قالَ : " خِرْقٌ " ، وَالْخِرْقُ مِنْ لَفْظِ التَّخْريقِ ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَضَعَ في مَوْضِعِ الْخِرْقِ غَيْرَه ، فَيَقولَ : نَدْبٌ ، أَوْ مَجْدٌ ، أَوْ نَحْوَ ذلِكَ . وَالسّابِريَّةُ الرَّقيقَةُ . وَسَحَا الْقَيْضِ يَعْني ما تَحْتَ الْقَيْضِ ، وَهُوَ الْقِشْرُ الْأَعْلى مِنَ الْبَيْضَةِ ، وَالسَّحا ما تَحْتَه ، وَرِداءُ الشُّجاعِ سِلْخُه ،  وَالشُّجاعُ الْحَيَّةُ .

أظنك تريد " المشاكلة " .

وَعَلِمْتُ ما يَلَقَى الْمَزورُ إِذا هَمَتْ مِنْ مِمْطَرٍ ذَفِرٍ وَطينِ خِفاف

الْمِمْطَرُ هذَا الضَّرْبُ مِنَ الثِّيابِ الَّتي تُتَّخَذُ مِنَ الصّوفِ ، فَإِذا مُطِرَ تَغَيَّرَتْ رائِحَتُه ؛ فَلِذلِكَ وَصَفَه بِالذَّفِرِ - هكذا ، والذَّفَر أعلى عربية - وَهُوَ مِفْعَلٌ مِنَ الْمَطَرِ ، كَأَنَّهُمْ أَرادوا أَنَّه يُلْبَسُ فيه .

وأهل عمان يُسّمون " مَطّارَة " من المطر ، على صيغة " فَعّالَة " ، المضافة مَجْمَعيًّا إلى صيغ اسم الآلة - ما يُسَمّيه المصريون " زَمْزَميَّة " على النسب إلى بئر زمزم ، الحريص على الامتياح منها لأهله ، كُلُّ واصلٍ إليها