تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 25

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "شَرْحُ أَحاديثَ مِنْ صَحيحِ الْبُخاريِّ:

دِراسَةٌ في سَمْتِ الْكَلامِ الْأَوَّلِ" لِلدُّكْتورِ مُحَمَّدْ مُحَمَّدْ أَبو موسى]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

جاءَتِ الْعَقَبَةُ الثّانِيَةُ الَّتي ذَكَرَها كَعْبٌ ( ابن مالك ) ، وَكانوا ثَلاثًا - هكذا والصواب " ثلاثة " - وَسَبْعينَ رَجُلًا وَامْرَأَتانِ - هكذا والصواب " امْرَأَتَيْنِ " - ، وَكانوا قَدْ أَسْلَموا ، وَصَلَّوْا ، وَفَقِهوا ، وَبايَعوا عَلَى النُّصْرَةِ وَإِعْزازِ الْإِسْلامِ ، وَعَلى حَرْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ ، وَعَلى نَهْكَةِ الْأَمْوالِ وَقَتْلِ الْأَشْرافِ ، وَقالوا لِرَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : لَوْ شَدَدْنا عَقْدَنا عَلى هذا ، فَما لَنا ؟ فَقالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ ! - الْجَنَّةُ ! فَقالُوا : ابْسُطْ يَدَكَ ، فَبايَعوهُ

هذا الإيمان الأصيل الواضح ، فأما الآن فقد طغت نِحْلة أميريكية ، صار بها الداعية يقول لمَدْعوّيه : تؤمنون ، وتربحون ! ويجتهد هو وأشباهه ، أن يؤكدوا معنى اجتماع خيري الدنيا والآخرة ، المعنوي والمادي ! إنه لحَقّ ، ولكنه مع هذا لا يستقل بإيمان قوي !

حَرْبُ الْعَدوِّ الْآنَ صارَ - هكذا وهو عربي مبين - مُهِمَّةَ الْجُيوشِ النِّظاميَّةِ ، وَلَيْسَتْ هذِهِ الْهَبَّةُ لِلّهِ وَلِدينِه ، مُتاحَةً لَنَا الْآنَ . وَهذا لا يَعْني أَنَّ اللّهَ - سُبْحانَه ! - أَغْلَقَ في وُجوهِنا بابَ الْجِهادِ الَّذي هُوَ خَيْرُ أَبْوابِ الطّاعَةِ ، لِأَنَّ اللّهَ - سُبْحانَه ! - أَرْحَمُ بِنا ، وَقَدْ فَتَحَ لَنا بابًا آخَرَ ، وَجَعَلَه جِهادًا ، وَوَسَّعَ هذَا الْبابَ ، وَأَنا لا أَشُكُّ - وَاللّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ هَبَّةٍ لِصالِحِ الْإِسْلامِ وَأَهْلِ الْإِسْلامِ ، هِيَ نَفْرَةٌ وَجِهادٌ في سَبيلِ اللّهِ . وَأَحَبُّ النَّفْرِ إِلَى اللّهِ الْآنَ ، فيما أحْسَبُ - وَاللّهُ أَعْلَمُ - هُوَ النَّفْرُ مِنْ أَجْلِ إِخْراجِ دِيارِ الْإِسْلامِ مِنْ خَنْدَقِ الْفَقْرِ وَالتَّخَلُّفِ الَّذي سَقَطْنا فيهِ ، وَأَنْ يَسُدَّ الْمُسْلِمونَ حاجَتَهُمْ في كُلِّ الْمَيادينِ الْعِلْميَّةِ وَالصِّناعيَّةِ بِعُقولِهِمْ هُمْ ، وَبِأَيْديهِمْ هُمْ ، وَأَنْ تَدِبَّ فيهِمْ روحُ الْيَقَظَةِ الَّتي تَرْفُضُ هذَا الْواقِعَ رَفْضًا قاطِعًا ، وَأَنْ يَسْتَيْقِظوا مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْقَدَمِ ، وَأَنْ يَرْفُضوا كُلَّ أَشْكالِ التَّبَعيَّةِ لِأَعْداءِ اللّهِ . أَقولُ : كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْمَلُ في أَيِّ مَوْقِعٍ ، وَهذَا الْمَعْنى ساكِنٌ في قَلْبِه - هُوَ مُجاهِدٌ كَالَّذينَ خَرَجوا مَعَ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - في تَبوكَ ! كُلُّ مُعَلِّمٍ يَتَوَخّى إيقاظَ الْعَقْلِ ، وَيُحْدِثُ رَجَّةً في قُلوبِ تَلاميذِه مِنْ أَجْلِ تَحْقيقِ هذَا الْهَدَفِ ، وَأَنْ تَخْلَعَ شُعوبُ أَهْلِ الْإِسْلامِ مِنْ أَعْناقِها رِبْقَةَ التَّبَعيَّةِ لِلْحَضارَةِ الْمَسيحيَّةِ ذاتِ الْبَغْضاءِ الْمَوْروثَةِ عَلَى الْإِسْلامِ وَأَهْلِه - أَقولُ : كُلُّ مُعَلِّمٍ يَعْقِلُ ذلِكَ وَقَلْبُه مُفْعَمٌ بِالرَّغْبَةِ في أَنْ تَعودَ الْغَلَبَةُ في أَرْضِ اللّهِ لِدينِ اللّهِ ، هُوَ كَحامِلِ لِواءٍ في جَيْشِ رَسولِ اللّهِ ، صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! وَمِمّا لا شَكَّ فيهِ ، أَنَّ مِدادَ الْعُلَماءِ يوزَنُ بِدِماءِ الشُّهَداءِ يَوْمَ الْقِيامَةِ . وَكَلِمَةُ " الْعالِمِ " تُطْلَقُ عَلى مَنْ عَلِمَ - هكذا ، وأظنها " عَلَّمَ " - عِلْمًا نافِعًا ، وَلَوْ كانَ يُعَلِّمُ في دور الْحَضانَةِ ، ما دامَتْ هذِهِ الْغايَةِ وَهذَا التَّوَجُّهُ يَمْلَأُ عَلَيْهِ قَلْبَه . هُوَ في جِهادٍ ، وَسَواءٌ مَنْ كانَ فِي السّاقَةِ وَمَنْ كانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ ، الْكُلُّ يَسْتَبْشِرُ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ ، ما دامَ قَدْ سَكَنَ في قَلْبِه هَمُّ هذِهِ الْأُمَّةِ ؛ حَتّى وَلَوْ كانَ غُصْنَ شَوْكٍ أَزالَه عَنِ الطَّريقِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُسْلِمينَ ، كَما جاءَ فِي الْحَديثِ ، وَلا يَهْلِكُ عَلَى اللّهِ إِلّا هالِكٌ ! تَأَمَّلْ " خَشْيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُسْلمينَ " ، يَعْني : تَعيشُ في قَلْبِه هُمومُ هذِهِ الْأُمَّةِ

هذا تعليم أستاذنا جميعا ، محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - وتأديبه ؛ يعمل العربي المسلم غير غافل ، غير يائس ، غير شاك ، يعمل العربي المسلم ثائرا ، مثيرا غيره على بغاة العالم !

قَدْ كانَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - يَعْرِفُ كَعْبًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، وَيَعْرِفُ أَنَّه شاعِرٌ . وَقَدْ قالَ كَعْبٌ يَذْكُرُ أَوَّلَ لِقائِه رَسولَ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَكانَ قَدِمَ مَكَّةَ لِبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ ، فَانْطَلَقَ هُوَ وَالْبَراءُ بْنُ مَعْرورٍ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلى يَدِ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - فِي الْبَيْعَةِ ، يَسْأَلانِ عَنْ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - قالَ كَعْبٌ : فَلَقينا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَسَأَلْناهُ عَنْ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - فَقالَ : هَلْ تَعْرِفانِه ؟ فَقُلْنا : لا ، قالَ : فَهَلْ تَعْرِفانِ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، عَمَّه ؟ قُلْنا : نَعَمْ . وَقَدْ كُنّا نَعْرِفُ الْعَبّاسَ ؛ كانَ لا يَزالُ يَقْدَمُ عَلَيْنا تاجِرًا ، فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا الْعَبّاسُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ! - جالِسٌ ، وَرَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - جالِسٌ مَعَه ، فَسَلَّمْنا ، ثُمَّ جَلَسْنا إِلَيْهِ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - لِلْعَبّاسِ : هَلْ تَعْرِفُ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يا أَبَا الْفَضْلِ ؟ قالَ : نَعَمْ ؛ هذَا الْبَراءُ بْنُ مَعْرورٍ ، سَيِّدُ قَوْمِه ، وَهذا كَعْبُ بْنُ مالِكٍ - قالَ : فَوَاللّهِ ، ما أَنْسى قَوْلَ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : الشّاعِرُ ، قالَ : نَعَمْ

أهكذا ابتهجت بصفة الشعر !

بل ابتهجت بواصفك بها - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! -  الذي ارتفَعَتْ له بك إلى السماء !

وسبحان الله !

أول ما رأيت الدكتور محمد محمد أبو موسى ، المؤلف - أن اجتمعنا بعد الفراغ من الصلاة على أستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله !- لنسير بسياراتنا في المشهد إلى المقبرة . أقبلت على المؤلف وقد وقف حَجْرةً هو وأخونا الدكتور هشام عبد العزيز تلميذه ، فتقدمت أسلم عليه ، فعرفني له هشام ، فأراد أن يدل على معرفتي ، فقال : الشاعر !

قَوْلُه ( كعب بن مالك ) : " فَقالَ رَجُلٌ مِنْ بَني سَلَمَةَ : يا رَسولَ اللّهِ ، حَبَسَه بُرْداهُ ، وَنَظَرُه في عِطْفَيْهِ " ، بَني سَلَمَةَ - هكذا على الحكاية - هُمْ قَوْمُ كَعْبٍ ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، كَما ذَكَرَ الْواقِديُّ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي الْيَمامَةِ ، وَنِعِمّا ما أَعْطاهُ اللّهُ لَه ! وَالْعِطْفانِ مُثَنّى عِطْفٍ ، وَهُمَا الْجانِبانِ ، وَيُسَمَّى الْبُرْدُ عِطْفَيْنِ ، لِأَنَّه يُلْبَسُ عَلَيْهِما ، وَيُقالُ : هَزَّ عِطْفَيْهِ ، إِذَا ارْتاحَ لِمَعْروفٍ ، أَوْ ثَناءٍ ، أَوْ عَطاءٍ ؛ قالَ الشّاعِرُ :

أَهُزُّ بِها في نَدْوَةِ الْحَيِّ عِطْفَه كَما هَزَّ عِطْفي بِالْهِجانِ الْأَوارِك

أَرادَ شِعْرَه . وَمَعْنى قَوْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ : " حَبَسَه بُرْداهُ ، وَنَظَرُه في عِطْفَيْهِ " ، يَعْني : حَبَسَه إيثارُهُ الدَّعَةَ وَالنِّعْمَةَ وَالتَّلَهِّيَ بِالشَّبابِ وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ ، وَفي هذا شَوْبٌ مِنْ غَضَبِه عَلى كَعْبٍ ، وَلَوْمِه في تَقْصيرِه وَقُعودِه عَنِ الْغَزْوِ في سَبيلِ اللّهِ ، وَهذا لَيْسَ مِنْ بابِ ذِكْرِ أَخيكَ بِما يَكْرَهُ ، وَلِهذا سَكَتَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذلِكَ ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ أَجابَ عَنْ سُؤالِ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - بِما يَعْلَمُ ، وَحَسْبُه أَنَّه مِنْ شُهَداءِ الْيَمامَةِ ، وَكَأَنَّ اللّهَ - سُبْحانَه - يَغْسِلُهُمْ مِنْ كُلِّ دَرَنٍ

ثم لا تنس أنه من كعب ، وأن كعبا منه ؛ فهو يستبيح أن يغضب عليه ، غضبه الأب أو الأخ - آمنا تتهمة الغيبة ، لأنه حاضر به هو نفسه !

فَلَا الْجودُ يُفْنِي الْمالَ وَالْجَدُّ مُقْبِلٌ وَلَا الْبُخْلُ يُبْقِي الْمالَ وَالْجَدُّ مُدْبِر

صدق بالله !

ولقد أقبلتُ منذ أبت بالمال ، أفنيه بمشيئة الرحمن ، في غير ما معصية ، فكنت أجد عند كل ضيق فرجا ، فأذكر بالخير دعاء الملائكة : " أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا " !

وما زلت أجد مؤنسي حسن الظن بالمنعم - سبحانه ، وتعالى ! - العوّاد بالخير العميم !

قَوْلُهُمْ : " قالا مِثْلَ ما قُلْتَ ، فَقيلَ لَهُما مِثْلُ ما قيلَ لَكَ " ، مِنَ الْكَلامِ الْحَسَنِ الْمُخْتَصَرِ . وَكَلِمَةُ " مِثْلَ " ، أَغْنَتْ عَنْ إِعادَةِ الْقَوْلِ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَيِّدَةٌ ، وَمُسْعِفَةٌ بِإيجازِها وَتَوْضيحِها ؛ تَقولُ : رَمى مِثْلَ رَمْيِه ، وَقالَ مِثْلَ قَوْلِه ، وَشَكَرَ مِثْلَ شُكْرِه ، هكَذا ، وَفيهِ مُطابَقَةٌ خَفيَّةٌ بَيْنَ الْبِناءِ لِلْمَعْلومِ وَالْبِناءِ لِلْمَجْهولِ في قَوْلِهِمْ : قالوا وَقيلَ لَهُمْ - كَما تَقولُ : سَمِعَ وَسُمِعَ مِنْهُ ، وَأَعْطى وَأُعْطِيَ لَه ، وَأَكْرَمَ وَأُكْرِمَ . وَمِثْلُه في سُهولَةِ مَأْتاهُ ، وَجَرْيِ شَوْبٍ مِنَ الطِّباقِ فيهِ - أَنْ تَقولَ : أَكْرَمَني وَأَكْرَمْتُه ، وَخَذَلَني وَخَذَلْتُه ، وَعَرَفَني وَعَرَفْتُه ، وَما يُشْبِهُ ذلِكَ مِمّا يَصيرُ فيهِ الْفاعِلُ مَفْعولًا وَالْمَفْعولُ فاعِلًا

ذكرتني من سفاهاتي الأولى :

" أحبني وكرهته وجاءني فطردته

لأنه المكر شخصا سبك الأخاديع سمته

يا سيدي المكر هلا امْتكرت شيئا جهلته " !

كانَ أَبُو الْعَلاءِ يَقولُ ساخِرًا مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ ، لَمَّا انْحَرَفَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَنْ لُغَتِهِمُ الشَّريفَةِ : " اسْتَعْجَمَ الْعُرْبُ فِي الْبَوادي ، وَاسْتَعْرَبَ النَّبيطُ " ! وَفَصاحَةُ النَّبَطِ عِنْدَ أَبِي الْعَلاءِ ، أَمْرٌ غَريبٌ كَعيِّ ابْنِ الْعُرَيْبِ !

إنما هو بيت من لزومياته ، هكذا :

" أَيْنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَالْعَذارى إِذْ مالَ مِنْ تَحْتِهِ الْغَبيط

اسْتَنْبَطَ الْعُرْبُ فِي الْمَوامي بَعْدَكَ وَاسْتَعْرَبَ النَّبيط "

كَعْبٌ يُرْخي عِنانَ الْكَلامِ في هذَا الْجُزْءِ ، وَيُشْبِعُ - وَيُطيلُ ، وَيُصَوِّرُ - الدَّقائِقَ وَالْخَفايا ، وَيُحاوِلُ أَنْ يُبَرِّرَ لَكَ وَقائِعَ هذِهِ الْفِقْرَةِ في صورَةٍ تَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ . تَأَمَّلْ ما بَدَأَ بِه مِنْ إِشْباعِ حَرَكَةِ الْكَلِمَةِ الدّالَّةِ عَلى زَمانِ هذِهِ الْوَقائِعِ " بَيْنا " ، ثُمَّ إِتْباعِ ذلِكَ بِقَوْله : " أَنا أَمْشي " ، فَأَكَّدَ بِتَقْديمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْليِّ ، وَأَحْضَرَ الصّورَةَ بِالْفِعْلِ الْمُضارِعِ ، ثُمَّ قالَ : " بِسوقِ الْمَدينَةِ " ، فَذَكَرَ الْمَكانَ ، فَجَمَعَ الزَّمانَ وَالْمَكانَ وَالْحَدَثَ ، قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَكَ عَنِ الْمُفاجَأَةِ ، ثُمَّ يَقولُ : " إِذا نَبَطيٌّ مِنْ أَنْباطِ أَهْلِ الشّامِ ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعامِ يَبيعُه بِالْمَدينَةِ " ، وَفي هذَا الْكَلامِ زِيادَةُ إِشْباعٍ لِلْمَعْنى ، وَزِيادَةُ بَيانٍ ، لِأَنَّه مِنَ الْمَعْلومِ أَنَّ النَّبَطيَّ يَكونُ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَنَّهُمْ يَقْدَمونَ الْمَدينَةَ لِبَيْعِ الطَّعامِ ، وَكَلِمَةُ " نَبَطيٌّ " ، كانَتْ تَكْفي فِي الدَّلالَةِ عَلى كُلِّ هذَا الْكَلامِ ، لَوْ كانَ كَعْبٌ يُريدُ مُجَرَّدَ الْإِخْبارِ . وَالَّذي يَعْنينا في أَمْرِ هذِهِ الرِّسالَةِ هُوَ مَضْمونُها ، أَمَّا الَّذي يَحْمِلُها فَلَيْسَ مِنْ أَغْراضِ الْكَلامِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُعْرَفَ الْغايَةُ الَّتي جاءَ الْمَدينَةَ مِنْ أَجْلِها ، وَأَنَّه جاءَ يَبيعُ الطَّعامَ . لَيْسَ الْإِخْبارُ فَقَطْ هُوَ غَرَضَ كَعْبٍ ، وَإِنَّما أَيْضًا تَصْويرُ الْحَدَثِ بِكُلِّ وَقائِعِه وَأَحْوالِه وَزَمانِه وَمَكانِه ، وَكَأَنَّه يَنْقُلُ مَشْهَدًا . وَقَدِ اعْتَبَرَ كَعْبٌ هذَا الْحادِثَ مِنَ الْبَلاءِ ؛ وَلِهذا جَعَلَه مَوْضِعَ عِنايَةٍ . وَقَدْ لاحَظْنا كَعْبًا وَهُوَ يَخْتَصِرُ الْكَلامَ اخْتِصارًا في حَديثِه عَنِ الْمُخَلَّفينَ ، وَفي حَديثِه عَنْ صاحِبَيْهِ ؛ فَلَيْسَتْ مُتابَعَةُ دَقائِقِ الْأَحْداث مِنْ شَأْنِه ، إِلّا أَنْ تَكونَ هذِهِ الدَّقائِقُ ذاتَ مَغْزًى في غَرَضِه كَما هُنا . وَمِمّا يَدْخُلُ في هذَا الَّذي أَقولُه ، أَنَّ كَعْبًا لَمْ يَقُلْ : فَإِذا نَبَطيٌّ يَسْأَلُ عَنّي ، وَإِنَّما قالَ : " يَقولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلى كَعْبٍ " ؛ فَأَسْمَعَكَ صَوْتَ النَّبَطيِّ ، وَجَعَلَه هُوَ الَّذي يَقولُ لَكَ : " مَنْ يَدُلُّ عَلى كَعْبٍ " ، وَكَأَنَّه صَوَّرَه بِالصّورَةِ وَالصَّوْتِ . وَقَوْلُه : " فَطَفِقَ النّاسُ يُشيرونَ لَه " ، فيهِ إِشارَةٌ إِلَى اجْتِماعِ النّاسِ حَوْلَه ، وَأَنَّهُمْ جَميعًا شَرَعوا يُشيرونَ لَه ، وَلَمْ يَتَكَلَّموا ، لِأَنَّهُمْ نُهوا عَنِ الْكَلامِ مَعَ كَعْبٍ . وَإِسْنادُ الْإِشارَةِ إِلَى النّاسِ بِهذَا الْعُمومِ ، وَالْمَجيءُ بِالْفِعْلِ الْمُضارِعِ - داخِلٌ في صُلْبِ التَّصْويرِ الَّذي يَتَكَلَّمُ عَنْهُ في هذِهِ الْفِقْرَةِ الَّتي عُنِيَ كَعْبٌ بِبِيانِها ، وَصَوَّرَ دَقائِقَها ، رَغْمَ مُضيِّ زَمَنٍ كَثيرٍ بَيْنَ الْحادِثَةِ وَالتَّعْبيرِ عَنْها . وَيَدْخُلُ أَيْضًا في هذا أَنَّه لَمْ يُعَبِّرْ بِلِسانِه عَنْ مَقْصودِ مَلِكِ غَسّانَ ، وَلَمْ يَقُلْ : دَفَعَ إِلَيَّ كِتابًا مِنْ مَلِكِ غَسّانَ ، يَدْعوني إِلَيْهِ - وَإِنَّما تَلا عَلَيْنا ما فِي الْكِتابِ ، وَأَسْمَعَنا أَيْضًا كَلِماتِ الْمَلِكِ الْغَسّانيِّ ، وَما تَحْمِلُه مِنْ مَآرِبَ . وَملِكُ غَسّانَ صاحِبُ الرِّسالَةِ ، قالوا : هُوَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ ، نَصَّ عَلى ذلِكَ ابْنُ الْعائِذِ - وَعَنِ الْواقِديِّ أَنَّهُ الْحارِثُ بْنُ أَبي بِشْرٍ ، وَقيلَ : جُنْدُبُ بْنُ الْأَيْهَمِ ، وَهُوَ مِنْ مُلوكِ الْيَمَنِ ، سَكَنُوا الشّامَ ، وَسادوها ، وَهذِه رَحِمٌ بَيْنَه وَبَيْنَ كَعْبٍ . وَهذَا الْكِتابُ يَدُلُّ عَلى أَنَّ الْقِياداتِ النَّصْرانيَّةَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعيدٍ ، لا تَغيبُ عُيونُهُمْ عَنْ كُلِّ ما يَجْري فِي الْعالَمِ الْإِسْلاميِّ ، لِانْتِهازِ الْفُرْصَةِ الْمُتاحَةِ لِإِحْداثِ أَيِّ شَيْءٍ كَما يَدُلُّ عَلى أَنَّ كَعْبًا - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْه - لَمْ يَكُنْ مِنْ عامَّةِ النّاسِ ، وَإِنَّما كانَ لَه ذِكْرٌ أَوْسَعُ بَلَغَ الْمَمالِكَ الْأُخْرى ، وَرُبَّما كانَ لِشِعْرِه وَذُيوعِه أَثَرٌ في ذلِكَ ؛ وَكانَ لِشُعَراءِ الْمَدينَةِ عَلاقَةٌ أَكيدَةٌ بِمُلوكِ الْغَساسِنَةِ ، وَحَسّانُ بْنُ ثابِتٍ - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْهِ ! - لَه شِعْرٌ كَثيرٌ في مَدائِحِهِمْ . وَلَمْ يُرْسِلْ مَلِكُ غَسّانَ إِلى مُرارَةَ وَلا إِلى هِلالٍ . وَراجِعْ كَلِماتِ الْمَلِكِ وَما فيهِ - هكذا ولا يعدم وجها - مِنْ وَقيعَةٍ وَمُغالَطَةٍ ، يَقولُ : " بَلَغَني أَنَّ صاحِبَكَ قَدْ جَفاكَ " ، وَلَمْ يَقُلْ : أَنَّكَ أَغْضَبْتَه لَمّا تَخَلَّفْتَ عَنْهُ فِي الْخُروجِ ، وَإِنَّما يُثيرُه بِقَوْلِه : أَنَّ صاحِبَكَ قَدْ جَفاكَ ! ثُمَّ إِنَّ أَدَبَ الْخِطابِ يوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ صاحِبَه هذا بِصِفَتِهِ الَّتي يُؤْمِنُ بِها كَعْبٌ ، وَهِيَ النُّبوَّةُ . ثُمَّ قالَ : " وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللّهُ بِدارِ هَوانٍ ، وَلا مَضْيَعَةٍ " ، وَهذَا اسْتِفْزازٌ وَحَمْيٌ لِأَنْفِ كَعْبٍ ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ! وَالْمَضْيَعَةُ بِسُكونِ الضّادِ وَبِكَسْرِها ، أَيْ حَيْثُ يَضيعُ حَقُّكَ ، وَهذَا الْكَلامُ دالٌّ عَلى جَهْلِ هذَا الْمَلِكِ بِطَبيعَةِ الْعَلاقَةِ الَّتي بَيْنَ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَأَصْحابِه ، وَأَنَّه لَمْ يُحْسِنِ اسْتيعابَها ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِلى أَيِّ مَدًى يُحِبُّ أَصْحابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَهذِه غَفْلَةٌ مِنْهُ ، لَمْ يَلْبَثْ مُلْكُه بَعْدَ ذلِكَ أَنْ ضاعَ ! قُلْتُ : إِنَّ الْقِياداتِ النَّصْرانيَّةَ لا تَغيبُ عُيونُها عَمّا يَقَعُ في دِيارِ الْإِسْلامِ ، مُنْذُ زَمَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَأُضيفُ أَنَّ هذَا الْأَمْرَ قائِمٌ إِلى يَوْمِ النّاسِ هذا مَعَ تَطْويرِ وَسائِلِه ، وَإِتْقانِ تَدابيرِه ، وَأَنَّه كانَ عَلى طولِ التّاريخِ له آثارٌ خَطِرَةٌ عَلَى الْعالَمِ الْإِسْلاميِّ . وَقَدْ عَلَّقَ كَعْبٌ عَلى هذِهِ الرِّسالَةِ بِما هُوَ مُناسِبٌ لَها قَوْلًا وَفِعْلًا ، أَمّا " فِعْلًا " ، فَقَدْ عَمَدَ بِها إِلَى التَّنّورِ ، فَسَجَرَه بِها ، يَعْني : أَحْرَقَها - وَأَمّا " قَوْلًا " ، فَقَدْ عَقَّبَ بِقَوْلِه : " فَقُلْتُ لَمّا قَرَأْتُها : " وَهذا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ " !

خطر لي أن يكون تفصيل كعب لها هذا التفصيل الذي نبهت عليه ، من التعبير العفوي عن شدة حذر هذا الرسول وشدة تخفيه إذ يفعل هذا في جماعةالمسلمين ، وعلى أرضهم !

لقد كان ينبغي له أن يبدو كما كان الستشرقون والمبشرون ، موظفا عاديا ، لا يغير عادات وظيفته شيء من خبث طويته !

تجد الرجل تاجرا كهذا أو مهندسا أو طبيبا أو مدرسا ... ، يجتهد في عمله ، ويجتهد في إضلال المسلمين ! فيرى الدهماء مبلغ أتقانه عمله ، فيحملون عليه مبلغ نصحه لهم في ثقافتهم !

قالَ الزَّمَخْشَريُّ بَعْدَما بَيَّنَ أَنَّها ( الآية : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذي اتبعوه في ساعة العسرة (...) ) مِنْ بابِ " لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ " ، وَمِنْ بابِ " اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ " - قالَ : " وَهُوَ بَعْثُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى التَّوْبَةِ ، وَأَنَّه ما مِنْ مُؤْمِنٍ إِلّا هُوَ مُحْتاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفارِ ؛ حَتَّى النَّبيِّ وَالْمُهاجِرينَ وَالْأَنْصارِ ، وَإِبانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ وَمِقْدارِها عِنْدَ اللّهِ ، وَأَنَّ صِفَةَ التَّوّابينَ الْأَوّابينَ صِفَةُ الْأَنْبِياءِ كَما وَصَفَهُمْ بِالصّالِحينَ لِيُظْهِرَ فَضيلَةَ الصَّلاحِ " . وَهذا جَيِّدٌ ! وَفيهِ أَنَّنا نَصِفُ الْمَوْصوفَ بِالصِّفَةِ لا لِتُكْسِبَ هذِهِ الصِّفَةُ الْمَوْصوفَ نَعْتًا وَوَصْفًا كَما هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِنَّما لِيُكْسِبَ الْمَوْصوفُ الصِّفَةَ نَعْتًا وَوَصْفًا ، وَهذا عَجيبٌ ! الْمَوْصوفُ يُفْرِغُ عَلَى الْكَلِمَةِ الصِّفَةِ ، ما يَرْفَعُ قَدْرَها ، وَيَعْلو بِطَبَقَتِها ، وَلَيْسَتِ الصِّفَةُ هِيَ الَّتي تُفْرِغُ عَلَى الْمَوْصوفِ :

ما إِنْ مَدَحْتُ مُحَمَّدًا بِمَقالَتي لكِنْ مَدَحْتُ مَقالَتي بِمُحَمَّد

وَهذا لَيْسَ مَعْنًى شِعْريًّا ، وَإِنَّما هُوَ مَعْنًى مِنْ مَعانِي الصِّفَةُ ، هُوَ مَعْنًى نَحْويٌّ لِمَنْ يَذوقُ النَّحْوَ

ولكن الشعراء لا يُفْلِتونه !

رحم الله أبا الطيب :

" يا لَيْتَ بي ضَرْبَةً أُتيحَ لَها كَما أُتيحَتْ لَه مُحَمَّدُها

أَثَّرَ فيها وَفي الْحَديدِ وَما أَثَّرَ في وَجْهِهِ مُهَنَّدُها

فَاغْتَبَطَتْ إِذْ رَأَتْ تَزَيُّنَها بِمِثْلِه وَالْجِراحُ تَحْسُدُها " !

ثم ذكرتُ صفة " ممتاز " ، التي شاعت في تقدير الباحثين ؛ حتى عدوها التقدير الشعبي - إذا ما حصل عليها باحث نابه ، حضر الأذهانَ معنى ارتفاع الصفة به لا ارتفاعه بها !

ثمت كنا اليوم في استنكار بعض أساتذتنا ، تمسكنا لعميد كلية دار العلوم ، بندائه بلقب العميد - وإن زالت عنه العمادة - فقلت له على مسمع منه : هذا عميد دار العلوم ، لا عميد دار المشاة ، وإن من الناس ناسا يرفعون الألقاب ، وناسا ترفعهم الألقاب ، وناسا يخسفون بالألقاب الأرض !

صاح بعض الحاضرين : فتح الله عليك !

وصاح بعض : صدقت !

قالَ الزَّمَخْشَريُّ : يَعْني ( قوله - سبحانه وتعالى ! - : " فأعرضوا عنهم إنهم رجس " ) أَنَّ الْمُعاتَبَةَ لا تَقَعُ فيهِمْ ، وَلا تُصْلِحُهُمْ ؛ إِنَّما يُعاتَبُ الْأَديمُ ذُو الْبَشَرَةِ " ، أَرادَ الْجِلْدَ الْحَيَّ الْحَسّاسَ ، الَّذي يَشْعُرُ بِالْعِتابِ

مثل عربي قديم ، ولجار الله الزمخشري " المستقصى في الأمثال " ، من أهم كتبها !