تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 23

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " شَرْحُ أَحاديثَ مِنْ صَحيحِ الْبُخاريِّ :

دِراسَةٌ في سَمْتِ الْكَلامِ الْأَوَّلِ " لِلدُّكْتورِ مُحَمَّدْ مُحَمَّدْ أَبو موسى ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قالَ ابْنُ حَجَرٍ : " يَدْخُلُ في قَوْلِه : " افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ " ، الْفَرائِضُ الظّاهِرَةُ : فِعْلًا كَالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَغَيْرِهِما مِنَ الْعِباداتِ ، وَترْكًا كَالزِّنا وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِما مِنَ الْمُحَرَّماتِ - وَالْباطِنَةُ كَالْعِلْمِ بِاللّهِ ، وَالْحُبِّ لَه ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ " . وَهذا مَعْنًى كَريمٌ يُعَلِّمُنا سُلوكًا حَميدًا ؛ فَلا يَجوزُ أَنْ تُضَحِّيَ بِواجِبٍ مِنْ أَجْلِ مَنْدوبٍ ، وَإِنَّما هُناكَ أَوْلَويّاتٌ يَجِبُ تَرْتيبُها بِدِقَّةٍ ؛ فَلا تُحاضِرُ في نَدْوَةٍ عامَّةٍ وَتَتْرُكُ دَرْسَ طُلّابِكَ ، وَلا تَتَبَرَّعُ لِلْمَشاريعِ الْخَيْريَّةِ وَأَنْتَ لَمْ تُؤَدِّ زَكاةَ مالِكَ ، وَلا تَبْني نادِيًا قَبْلَ مَدْرَسَةٍ ، وَلا مَلْعَبًا قَبْلَ مُسْتَشْفًى . هذِهِ الْجُمْلَةُ الْكَريمَةُ تُقيمُ حَياةَ الْمُسْلِمينَ عَلَى التَّخْطيطِ الْمَدْروسِ ، وَوَضْعِ الْأَوْلَويّاتِ مَوْضِعَ الصَّدارَةِ وَالْعِنايَةِ

على هذا دار القمقم !

لَمْ أَعْرِفْ رَجُلًا لَه عارِفَةٌ عَلى أَهْلِ الْإِسْلامِ لا يَنْساها أَوَّلُهُمْ ، وَلا آخِرُهُمْ ، كَما كانَ لِهذَا الْحَبَشيِّ الشَّريفِ ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِأَخينا أَصْحَمَةَ ! وَبِهذا أَمَرنا رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - لَمّا جاءَه نَبَأُ مَوْتِه قالَ : " اسْتَغْفِروا لِأَخيكُمْ أَصْحَمَةَ " ! وَروَى ابْنُ إِسْحاقَ عَنْ يَزيدَ بْنِ رومانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ : " لَمّا ماتَ النَّجاشيُّ كانَ يُتَحَدَّثُ أَنَّه لا يَزالُ يُرى عَلى قَبْرِه نورٌ "

اللهم اغفر لأخينا أصحمة !

عَمُّه ( أبي بكر ) عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُدْعانَ ، الَّذي كانَتِ الْعَرَبُ تَجْتَمِعُ في دارِه إِكْرامًا لَه ، وَتَحالَفوا عِنْدَه حِلْفَ الْفُضولِ ، الَّذي هُوَ أَعْظَمُ حِلْفٍ جَرى عَلى هذِهِ الْأَرْضِ مِنْ يَوْمِ أَنْ خَلَقَهَا اللّهُ ، وَهُوَ حِلْفٌ بَيْنَ بُطونٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، أَلّا يَجِدوا في مَكَّةَ مَظْلومًا غَريبًا ، أَوْ غَيْرَ غَريبٍ ، إِلّا وَقَفوا مَعَه ، وَقاموا لَه ؛ حَتّى يَأْخُذَ حَقَّه ، وَما أَحْوَجَ النّاسَ إِلى مِثْلِ هذا !

لدينا الأمم المتحدة ، المتحالفة على ألا تجد لأمريكا رغبة إلا حملت العالم عليها حملا ، مهما كانت فيها ظالمة !

قَوْلُها : " حَتّى إِذا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ - وَهُوَ سَيِّدُ الْقارَةِ - فَقالَ : أَيْنَ تُريدُ ، يا أَبا بَكْرٍ " ، بَرْكُ الْغِمادِ (...) ، قالوا : عَلى مَسافَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ، وَقالوا : في أَقاصِي الْيَمَنِ ، وَقالوا : في هَجَرَ

هو مضرب المثل في البعد والانقطاع والغربة !

أَدْرَكَ رَبيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَربوعٍ (...) دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ ، فَأَخَذَ جَمَلَه وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّه امْرَأَةٌ ، وَذلِكَ أَنَّه في شِجارٍ لَه ، فَإِذا بِرَجُلٍ ، فَأَناخَ بِه ، فَإِذا شَيْخٌ كَبيرٌ ، وَإِذا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ ، وَلا يَعْرِفُهُ الْغُلامُ ، فَقالَ لَه دُرَيْدٌ : ماذا تُريدُ بي ؟ قالَ : أَقْتُلُكَ ، قالَ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قالَ : رَبيعَةُ بْنُ رَفيعٍ السُّلَميُّ ، ثُمَّ ضَرَبه بِسَيْفِه ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا ، فَقالَ : بِئْسَ ما سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ ! خُذْ سَيْفي هذا مِنْ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ ، ثُمَّ اضْرِبْ بِه ، وَارْفَعْ عَنِ الْعِظامِ ، وَاخْفِضْ عَنِ الدِّماغِ ؛ فَإِنّي كَذلِكَ كُنْتُ أَضْرِبُ الرِّجالَ ، ثُمَّ إِذا أَتَيْتَ أُمَّكَ ، فَأَخْبِرْها أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ ؛ فَرُبَّ - وَاللّهِ - يَوْمٍ مَنَعْتُ فيهِ نِساءَكَ ! فَلَمّا رَجَعَ رَبيعَةُ إِلى أُمِّه أَخْبَرَها بِقَتْلِه إِيّاهُ ، فَقالَتْ : أَما - وَاللّهِ - لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهاتٍ لَكَ ثَلاثَةً !

تأمل كلام العرب !

لَوْلا أَسْلَمْتَ يا دريد !

ولكنك " لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْتَ " ، صدق الله العظيم !

قَوْلُه : " مِثْلَكَ " ، لا يَعْني بِه : سِواكَ ، وَإِنَّما يَعْني بِه : أَنْتَ ، وَهكَذَا اسْتِعْمالُ " مِثْلٍ " ، وَ" غَيْرٍ " ، إِذا أُريدَ بِهِما ما أُضيفَتا إِلَيْهِ ، وَجَبَ تَقْديمُها

في هذا قال أبو الطيب :

" وَلَمْ أَقُلْ مِثْلُكَ أَعْني بِه سِواكَ يا فَرْدًا بِلا مُشْبِه !

كانا مَعًا في حَرْبِ الْفِجارِ ، وَهكَذا كانَ الْعَرَبُ - وَلا يَزالونَ -  يَتَآكَلونَ ، فَإِذا دَهَمَهُمْ عَدوٌّ بَعيدٌ تَجَمَّعوا

ولا إذا دهمهم عدو بعيد !

" ثُمَّ بَدا لِأَبي بَكْرٍ ؛ فَابْتَنى مَسْجِدًا بِفِناءِ دارِه ، وَبَرَزَ " ، هذِهِ الْجُمْلَةُ بِدايَةُ مَوْقِفٍ جَديدٍ ، وَانْعِطافٌ جَوْهَريٌّ في هذِهِ الْقِصَّةِ ، وَمِنْ دِقَّةِ الْكَلامِ أَنَّها قالَتْ : " ثُمَّ بَدا لِأَبي بَكْرٍ " ، وَلَمْ تَذْكُرْ فاعِلَ " بَدا " ، وَتَرَكَتِ السّامِعَ يَسْتَخْرِجُ مُرادَها ، وَكانَ الصَّمْتُ عَنِ الْإِفادَةِ هُنا ، أَزْيَدَ لِلْإِفادَةِ ، لِأَنَّها سَكَتَتْ عَنْ خَفيٍّ بَدا في نَفْسِ أَبي بَكْرٍ ، وَهِيَ لا تَحْكُمُ عَلَيْهِ ، فَتَناسَبَ هُنا خَفاءُ اللَّفْظِ مَعَ خَفاءِ الْمَعْنى - هكذا والعربي " يتناسب كذا وكذا " - وَقَدْ تَظُنُّ أَنَّ الَّذي بَدا لَه ، هُوَ ابْتِناءُ الْمَسْجِدِ ، وَيَكونُ الْمَذْكورُ دَليلَ الْمَحْذوفِ ، كَما في قَوْلِنا : لَوْ شِئْتُ لَفَعَلْتُ ، أَيْ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَ لَفَعَلْتُ ، وَيَكونَ أَصْلُ الْكَلامِ : ثُمَّ بَدا لَهُ ابْتِناءُ مَسْجِدٍ ، فَابْتَنى مَسْجِدًا ، وَلَيْسَ هذا بِمُرادٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرادُ : ثُمَّ بَدا لَه رَدُّ الْجِوارِ ، فَابْتَنى مَسْجِدًا ، وَكَأَنَّ عائِشَةَ - رِضْوانُ اللّهِ عَلَيْها - تَدُلُّنا عَلى هذا بِكَلِمَةِ " وَبَرَزَ " ، لِأَنَّ هذَا الْبُروزَ هُوَ الِاسْتِعْلانُ الَّذي أَكَّدَتْ قُرَيْشٌ مَنْعَه ، وَجَعَلَتْ هذَا الْمَنْعَ شَرْطًا لِلْجِوارِ ، وَعائِشَةُ تَقولُ : أَبو بَكْرٍ يَنْقُضُ هذَا الشَّرْطَ بِبُروزِه ، يَعْني يَرُدُّ الْجِوارَ

بل ينبغي أن يكون الاستعلان هو الذي بدا له ، رغبة في دعوة الناس إلى دين الله ، لا أن يكون رد الجوار ؛ فإنَّ ردَّه لا يخطر له ، بل ربما خطر له أنهم يتركونه له وإن استعلن !

قالوا : " إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّه في دارِه " ، وَدَلَّتِ الْأَداةُ عَلى أَنَّ الْمَلَأَ لا يَتَوَقَّعُ هذَا الْمَوْقِفَ مِنْ أَبي بَكْرٍ ، لِأَنَّه ما دامَ ابْتَنى مَسْجِدًا ، وَاسْتَعْلَنَ في قِراءَتِه وَصَلاتِه - فَمِنَ النّادِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذلِكَ ، وَهذا يَعْني حِكايَةً دَقيقَةً لِلْواقِعِ . وَقَوْلُهُمْ : " وَإِنْ أَبى إِلّا أَنْ يُعْلِنَ ذلِكَ ، فَسَلْهُ ... " ، وَهُمْ يَتَوَقَّعونَ ذلِكَ ، وَلكِنَّهُمْ جاؤوا بِـ" إِنْ " ، مُلاطَفَةً وَدَهاءً ، لِأَنَّهُمْ هَدَّدوا فِي الْجَوابِ تَهْديدًا يَخْرُجُ عَنِ اللِّياقَةِ في مِثْلِ هذَا الْمَوْقِفِ ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفونَ مَكانَةَ ابْنِ الدُّغُنَّةِ ، وَمَكانَةَ أَبي بَكْرٍ عِنْدَه ! وَوَجْهُ الْمُلاطَفَةِ وَالدَّهاءِ هُوَ أَنَّ هذِهِ الْكَلِمَةَ الزِّئْبَقيَّةَ " إِنْ " ، تُشيرُ إِلى مَعْنى أَنَّ هذَا الْمَوْقِفَ الْآخِرَ ما كُنّا نَرْجو أَنْ يَكونَ إِلّا عَلى سَبيلِ الشَّكِّ وَالنَّدْرَةِ ، وَأَنَّ هَوانا عَلى خِلافِه ، وَأَنّا نَكْرَهُ أَنْ نُنْزِلَ بِصاحِبِكَ وَصاحِبِنا ما نَكْرَهُ ، وَهذا كَما تَرى مَعْنًى مُتَساوِقٌ جِدًّا مَعَ هذَا النَّصِّ مِنْ أَوَّلِه إِلى آخِرِه - كذا والعربي " متساوق هو وكذا " . ولا تَظُنَّ أَنَّنا نَتَكَلَّفُ ، وَنُنْزِلُ الْكَلامَ عَلى حَسَبِ ما نُريدُ ، وَاذْكُرْ أَنَّ ما يَخْطُرُ فِي النُّفوسِ في هذِهِ الْأَقْوالِ الْمُتَقابِلَةِ ، يَبْلُغُ الْغايَةَ فِي اللَّبْسِ وَالْخَفاءِ وَالتَّداخُلِ ، وَأَنَّ أَمْثالَ هذِهِ الْأَداةِ الَّتي هِيَ " إِنْ " وَما تَكْتَنِزُه مِنَ الظِّلالِ وَالْإِشاراتِ وَما تَشَرَّبَتْهُ مِنَ الدَّلالاتِ وَالْإيحاءاتِ ، مِنْ طولِ جَرَيانِها في سِياقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَمُتَنَوِّعَةٍ هِيَ الَّتي تَسْتَطيعُ أَنْ تَنْهَضَ بِعِبْءِ الدَّلالَةِ الظّاهِرَةِ وَالْخَفيَّةِ وَالْمُطابِقَةِ لِلْواقِعِ ، وَالْمُنْحَرِفَةِ عَنْهُ وَالْمُسْتَشْرِفَةِ إِلى واقِعٍ آخَرَ أَفْضَلَ . وَلا تُخْطِئُ إِذا قُلْتَ إِنَّ " إِنْ " في قَوْلِ الْمَلَأِ : " وَإِنْ أَبى إِلّا أَنْ يُعْلِنَ " ، تُشيرُ إِلى الِاسْتِشْرافِ لِواقِعٍ أَفْضَلَ مِنْ هذَا الْواقِعِ الْمُتَوَقَّعِ ، وَالَّذي يَفْرِضُ عَلَى الْقَوْمِ ما يَكْرهونَ في زَعْمِهِمْ وَتَلَطُّفِهِمْ وَدَهائِهِمْ !

خطر لي أن المؤلف اطلع على شيء من مقالات النَّصّيّينَ ، واستفاد منها ما لا يأتي على عروبة عمله ، فبقيت فيه الحياة العربية ، فأما النصيون في العالم ، فيوشك النص أن يمتسخ بين أيديهم مسخا جامدا " روبوتًا " ، كأي جهاز يُعرف أولُه وآخرُه معرفةً آلية ، ويتحرك بينهما حركة آلية - ولكنني أحب أن تتقدم به استفادته منه إلى مثل ما فعلتُ بـ" بَيْنَ الْأَعْشى وَجَريرٍ " .

كانَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ حَفيًّا بِهذِهِ الْخِلالِ ، وَتَكَلَّمَ فيها ، وَبَسَطَ الْقَوْلَ ، وَانْتَشى ، وَأَسْمَعَ ، وَأَبْلَغَ ، وَهُوَ هُنا يُرْسِلُ شَفَراتٍ مُخْتَصَرَةً لِلصَّديقِ ، ثُمَّ يُلاطِفُه مُلاطَفَةً مَشْبوبَةً بِالْأَسَفِ حينَ يَقولُ لَه : " وَإِمّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتي ؛ فَإِنّي لا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنّي أُخْفِرْتُ في رَجُلٍ عَقَدْتُ لَه " ، وَلوْلا مَخافَةُ مَقالَةِ السّوءِ فيَّ ما طَلَبْتُ مِنْكَ ذلِكَ ! وَمِنْ مَناقِبِ الْعَرَبِ وَمَدائِحِهِمْ ، عِزُّ الْجارِ ، وَلَيْسَ فِي الذَّمِّ أَبْلَغُ مِنْ ذُلِّ الْجارِ ، وَقَدْ خَرَجَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - لِفَتْحِ مَكَّةَ ، لَمَّا اعْتَدَتْ قُرَيْشٌ عَلى خُزاعَةَ حُلَفائِه - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَعَقْدُ الْجِوارِ قَريبٌ مِنْ ميثاقِ الْحِلْفِ

بل من عجائبهم أن رهطا طاردوا رِجْلَ جَرادٍ ( جماعة جراد ) ، فأفلتهم إلى حمى كبيرِ قبيلةٍ ، ولم يكن من بأس بأن يتركهم يصيدونه ، إلا أنهم سألوه أن يمكنهم من رجل الجراد الذي استجار به ، فلما ذكروا الاستجارة أبى عليهم ولم يملك إلا أن يجيره منهم !

لَحِقَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَأَبو بَكْرٍ بِغارِ ثَوْرٍ ، فَكَمَنا فيهِ ثَلاثَ لَيالٍ يَبيتُ عِنْدَهُما عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبي بَكْرٍ ، وَهُوَ غُلامٌ شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِما بِسَحَرٍ ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبائِتٍ ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكتادانِ بِه إِلّا وَعاهُ ؛ حَتّى يَأْتِيَهُما بِخَبَرِ ذلِكَ حينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ

ذكرتك ، بارك الله فيك ، وحفظك ، ونفع بك !

قالَ ابْنُ إِسْحاقَ : " قَدِمَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - الْمَدينَةَ ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَخَمْسينَ سَنَةً ، وَذلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللّهُ بِثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، ثُمَّ خَرَجَ غازِيًا في صَفَرٍ عَلى رَأْسِ اثْنَتَيْ عَشَرَ شَهْرًا - هكذا ، والصواب اثْنَيْ عَشَرَ - مِنْ مَقْدَمِه إِلَى الْمَدينَةِ "

في الأربعين وقفت أنتظر آثار اكتمال أشد الرجال ، ولَمّا ؛ فيالتني أتحقق بالهجرة ، في الثالثة والخمسين !

تَأَمَّلْ قَوْلَها : " يُكْتادانِ بِه " ، وَما فيها مِنْ صَوابِ الْإِشارَةِ ، لِأَنَّها أَرادَتْ يُكادانِ بِه مِنَ الْكَيْدِ ؛ يَقولونَ : كادَ لَه ، إِذا دَبَّرَ لَهُ الْغَوائِلَ . وَقَدْ جاءَتْ عَلى صيغَةِ الِافْتِعالِ الدّالَّةِ عَلَى اجْتِهادِ قُرَيشٍ في هذَا التَّدْبيرِ ، وَأَنَّها جَدَّتْ في ذلِكَ ، وَبَلَغَتْ غايَةَ الْجُهْدِ وَالِاعْتِمالِ ، وَأَنَّ الَّذي كانَ يَسْمَعُه عَبْدُ اللّهِ ، كانَ غايَةً فِي احْتِشادِ الْقَوْمِ لِلشَّرِّ وَالْمَكيدَةِ وَالْبَغْضاءِ ، وَهذا ما أَرَدْتُه بِصَوابِ الْإِشارَةِ

أو قل دلت الصيغة على شدة انتباهه إلى ما يشتد إخفاؤهم له !

لا نَعْدَمُ فِي الْعَرَبيِّ الْوَفاءَ وَالصِّدْقَ وَاحْتِرامَ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ ، وَقَدْ كانَ الْقَوْمُ يُعَيِّرونَ بِالْغَدْرِ وَالْخِيانَةِ ، وَهذا دَيْدَنُهُمُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ ، إِنْ شاءَ اللّهُ ! اللّهُمَّ ، لا تَقْطَعِ الْخَيْرَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذينَ رَسولُكَ مِنْهُمْ !

آمين !

سُراقَةُ الَّذي رَأى ما رَأى ، وَاسْتَيْقَنَ ، وَظَلَّ عَلى كُفْرِه بَعْدَ هذا ثَمانِيَ سَنواتٍ ، ثُمَّ دَخَلَ في دينِ اللّهِ ، وَحَسُنَ إِسْلامُه ! وَهذا يَعْني أَنَّ الدُّخولَ فِي الدّينِ لَيْسَ لِمَعْرِفَةِ الْآياتِ ، فَحَسْبُ ؛ وَإِنَّما هُناكَ تَوْفيقٌ إِلهيٌّ ، لَوِ افْتَقَدَهُ الْعَبْدُ لا تُغْنِي الْآياتُ عَنْهُ شَيْئًا . وَقَدْ أَخْبَرَنا اللّهُ - سُبْحانَه ! - بِذلِكَ ؛ قالَ في سورَةِ الْأَنْعامِ : " وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانوا لِيُؤْمِنوا إِلّا أَنْ يَشاءَ اللّهُ " ؛ فَالْمَرْجِعُ هُوَ مَشيئَةُ اللّهِ ، سُبْحانَه !

ينبغي في عدل الله من غير اعتزال ، أن يستحق الموفَّق التوفيق ، والمخذَّل الخذلان ، من قِبَلِ علاقته بموانع التأمل . ولله الحمد والشكر على نعمة الإسلام ، وكفى بها نعمة ، وأوزعنا أن نشكرها !

قالَ الْخَطّابيُّ : الْخِرّيتُ مَأْخوذٌ مِنْ خُرْتِ الْإِبْرَةِ ، كَأَنَّه يَهْتَدي لِمِثْلِ خُرْتِها مِنَ الطَّريقِ ، وَخُرْتُ الْإِبْرَةِ بِالضَّمِّ ثُقْبُها . وَقَدْ وَصَفَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ الزَّمَخْشَريَّ ، بِأَنَّه خِرّيتُ أَساليبَ ، أَيْ يَهْتَدي إِلى طُرُقِهَا الْخَفيَّةِ ، وَمَجاريهَا الْغامِضَةِ ، وَيَكْشِفُ أَسْرارَهَا الْبَعيدَةَ . وَعِلْمُ الْأَساليبِ هذَا الَّذي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنَيَّرِ ، عِلْمٌ عَزيزٌ غائِبٌ ، طوبى لِمَنْ يَسْعى إِلَيْهِ ، وَيُحْضِرُه عَلى ساحَتِنا مَرَّةً ثانِيَةً !

أنا في أثره منذ ربع قرن ، أسعى إليه عفوا مرة ، وقصدا مرة ؛ عسى الحق - سبحانه ، وتعالى - أن يُصَبِّرَني ويُوَصِّلَني ويُظَفِّرَني :

" حَدِّثوها عَنّي وَعَنْ حُسْنِ ظَنّي صارَ عِنْدِي الظَّلامُ كَالنّورِ حِصْنا !

تَأَمَّلْ في بُطونِ الْكَلِماتِ ، لِتُدْرِكَ هذَا الْبُعْدَ ! كَلِمُة " بِأَعْيُنِنا " ، فِي الْآيَةِ ( تجري بأعيننا ) ، وَفي كَلامِ سُراقَةَ ( انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ) - قَيْدٌ ، وَإِنَّ هُناكَ قُيودًا فِي الْكَلامِ يُحِبُّ الْكَلامُ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِها ، لِأَنَّه حينَ يَتَقَيَّدُ بِها يَزْدانُ !

الله !

أين دارسو مقيدات الجمل !

ورحم الله أبا الطيب :

" وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسانَ قَيْدًا تَقَيَّدا " !

وابْنَ عَتّابٍ :

" يَكونُ الرَّجُلُ نَحْويًّا عَروضيًّا ، وَقَسّامًا فَرَضيًّا ، وَحَسَنَ الْكِتابِ جَيِّدَ الْحِسابِ حافِظًا لِلْقُرْآنِ راوِيَةً لِلشِّعْرِ ، وَهُوَ يَرْضى أَنْ يُعَلِّمَ أَوْلادَنا بِسِتّينَ دِرْهَمًا ! وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كانَ حَسَنَ الْبَيانِ حَسَنَ التَّخْريجِ لِلْمَعاني لَيْسَ عِنْدَه غَيْرُ ذلِكَ ، لَمْ يَرْضَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، لِأَنَّ النَّحْويَّ الَّذي لَيْسَ عِنْدَه إِمْتاعٌ ، كَالنَّجّارِ الَّذي يُدْعى لِيُعَلِّقَ بابًا ، ثَمُّ يَفْرُغُ مِنْ تَعْليقِه ذلِكَ الْبابَ ؛ فَيُقالُ لَه : انْصَرِفْ ! وَصاحِبُ الْإِمْتاعِ يُرادُ في الْحلالاتِ كُلِّها " !