النحو العربي والنص (3)

أ. د: عبد السلام حامد

أ. د: عبد السلام حامد

أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر

كان الحديث في الحلقة الماضية عن موقف النحو العربي من النص وكيفية توثيقه، والاستشهاد به، واليوم سننظر كيف تناول النحاة النص بالتحليل والتطبيق؛ حيث إننا نرى النحاة قد تناولوا النصوص بأنواعها المختلفة بالتحليل والتطبيق؛ بغرض الشرح والتفسير والتوجيه بما تسمح به أدواتهم وقواعدهم وأصولهم ومناهجهم، يوجه ذلك كله أهداف معينة أهمها: تفسير النص لغوياً ونحوياً وتيسيره للفهم من هذه الجهة([1]) ، ومحاولة حل مشكله وبيان أوجهه الغريبة وتأويلها بحيث يبدو متفقاً مع القواعد، وتعليم الناشئة وإعطاؤهم أمثلة وشواهد متنوعة متعددة لتطبيق القواعد الصرفية والنحوية. إننا نلحظ ذلك في كتب إعراب القرآن الكريم وتفسيره وبيان معانيه  وتوجيه مشكله وشاذة وسائر ما ألفه النحاة في هذا الباب، وكذلك كل ما ألفوه في شرح الشعر وإعرابه، مضافاً إليه القليل الذي ألّف في إعراب الحديث. ومن أوضح نماذج ذلك في الشعر شرح ابن جني لشعر المتنبي ولبعض شعر هذيل ولأرجوزة لأبي نواس وتأويله لمشكل أبيات الحماسة ([2]).

1 ـ ظهور مشكلة في توثيق شواهد الشعر خاصة يجعلنا نتوقف كثيراً وندقق في التعامل مع هذه الشواهد ونحاول تمحيصها وتمييز الصحيح منها مما يشوبه ضعف أو تزييف، معتمدين في هذا على مجموعة من الأسس والمبادئ ومن ذلك ما جاء متأخراً وصرح به أبو البركات الأنباري وهو أنه لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله أو تتمته ما لم يكن قد صدر من ثقة يعتمد عليه؛ مخافة أن يكون مصنوعاً أو لمن لا يوثق بكلامه. ومن هذا ما استشهد به الكوفيون على جواز إظهارأن" بعدكي" وهو البيت المجهول القائل:

أردتُ لكيما أن تطير بقْرِبتي   فتتركَها شَنّـاً ببيــداءَ بلقعِ

ومن هذه الأسس أيضاً اعتبار أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبياتاً عديدة جُهل قائلوها، وما عيب ناقلوها. وقد خرج كتابه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه وكيدة، ونُظر فيه وفُتّش، فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادّعى أنه أتى بشعر منكر. وقد روي في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفةَ جميع ما فيها، ولا ردّوا حرفاً منها...([3]). وقد اجتهد البغدادي صاحب هذا الكلام كثيراً في تحري الدقة في الشواهد التي ذكرها في كتابه (خزانة الأدب) من حيث ضبط روايتها وردها إلى أصولها ومحاولة بيان الرواية الصحيحة فيما تعددت روايته، كل ذلك بالرجوع إلى مصادر جمة ([4]).

2 ـ نستطيع من خلال تحليل مواقف النحاة السابقة من النصوص توثيقاً واستشهاداً وتقعيداً وتطبيقاً أن نستنبط فكرة مهمة تتعلق بما يمكن أن نسميهبتنميط النصوص"، وأقصد بهذا محاولة وضع أطر عامة تميز كل نوع من أنواع النصوص عن غيره، عن طريق مراجعة جهود النحاة في النصوص من هذه الزوايا وفحصها بروية وعمق. وفكرة تنميط النصوص شبيهة بالحديث عن الأساليب، وهي مستعارة مما سماه فان دايك "بالأبنية العليا". لقد قال إن أنماط النصوص ـ كالشعر والقصة والرواية والإعلان ـ أبنية عليا أي هياكل مجردة وهي تختلف عن المضمون وتختلف أيضاً عن الأنظمة الثانوية التي تحتاج إليها، ومثال هذا، حادثة ما؛ فهي يمكن أن تؤدى في شكل الشعر أو القصة أو الرواية أو السرد بصفة عامة أو أي شكل آخر، ولكل واحد من هذه الأنواع أنظمته الخاصة، ولو أخذنا نوعاً من هذه الأنواع كالشعر مثلاً فسندرك أن الشعر نفسه بناء علوي أما العروض فهو نظام ثانوي لازم له، وهذا يختلف عن مضمون القصيدة ([5]). وبتطبيق هذه الفكرة على نصوص اللغة العربية وموقف النحاة منها يمكننا أن نرصد ما يأتي:

أ ـ في القرآن الكريم: نجد لدى النحاة القدماء ـ على مستوى كتب التقعيد ([6]) ـ  بعض المظاهر التي قد تبدو محاولة منهم لاكتشاف أبنية أنماط القرآن الكريم، والحقيقة أن هذه المظاهر ما هي إلا نوع من التأويل والتوجيه الخاصين اللذين يُشعران بإدراك النحاة لأنماط القرآن وأساليبه الخاصة دون أن يحددوا أنظمة هذه الأنماط والأساليب، ومن أمثلة هذه المظاهر: 

ـ قول بعضهم إن القرآن ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب، فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر الشماخ والطرّماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة ولا يحسن حمله على القليل جداً([7]). ومن هذا الباب أيضاً اختيار المصطلح المناسب لإعراب الوظائف النحوية فيه، كتسمية ابن مالك لبدل الكل من الكلبدلاً مطابقاً" تحرياً للدقة لوقوعه في اسم الله تعالى، كما في: ”إلى صراط العزيز الحميدِ. اللهِ... [إبراهيم: 1،2] ولفظ الكل" لا يطلق إلا على ذي الأجزاء ([8])

ـ الحروف المقطعة في أوائل السور مبنية للشبه الإهمالي ولا محل لها من الإعراب لأنها من المتشابه الذي لا يدرك معناه.

ـ وضع إطار خاص لنوع من المعاني يمكن تسميتهبالمعاني النحوية الدينية" ومن هذا: اعتبار ما ورد في القرآن من صفات الباري سبحانه مجموعاً بالواو والنون ملحقاً بجمع المذكر السالم، كقوله تعالى:”ونحن الوارثون" [الحجر: 23] وقوله:”فقدرنا فنعم القادرون" [المرسلات: 23] وقوله:” وإنا لموسعون... فنعم الماهدون" [الذاريات: 47،48]، ولا يقاس على هذا لأن إطلاق الأسماء عليه توقيفيّ، واختصاصكان" بالدلالة على الدوام في صفات الله سبحانه وتعالى كقوله:” وكان الله سميعاً بصيراً [النساء: 134] ([9])، وقول بعض النحاة ـ كابن مالك ـ إن أفعل التفضيل يأتي عارياً من معنى التفضيل كما في قوله تعالى:” ربكم أعلمُ بكم [الإسراء: 54] وقوله وهو أهونُ عليه [الروم: 27]. وقد اعتبر آخرون هذا نوعاً من التأويل مراعاة للمعنى الديني. وقد يكون تحديد أنماط المعاني النحوية الدينية وأساليبها في القرآن بالسلب والنفي، ومن هذا الإشارة مثلاً إلى أن التوكيد بـ جميع و"كلا" و"كلتا" لم يقع في القرآن، وإلى أن التوكيد بالنفس والعين لم يقع إلا في آية واحدة على تأويل هي قوله تعالى:”والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228] ([10]).  

ب ـ مما يدخل في باب التنميط في مجال الحديث النبوي العنعنة في إسناد الرواية، أي قول: عن فلان عن فلان عن فلان عن فلان إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نص الحديث. 

ج ـ  في الشعر:

   كان لاعتماد النحاة على الشعر كثيراً في الاحتجاج ـ أي ما وافق منه المعيار الزمني الذي حددوه ـ آثار غير حميدة في التقعيد النحوي للنثر الذي هو الأصل والمقصود بالتقعيد، وقد حاولوا من خلال القول بالضرورة الشعرية أن يجدوا مخرجاً من هذا الخلط في التقعيد بين الشعر والنثر، وأصبحت الضرورة المشجب الذي تعلق عليه كل مخالفة حرصاً على القاعدة، فكثرت بذلك الضرورات في كتب النحو دون تفسير أو دراسة، وكان الأشبه بهم حين نظروا للشعر على أنه محل الضرورات أن يدرسوه دراسة منفصلة عن النثر وألا يفرضوا بعض تراكيبه على النثر ([11]).

    ومع ذلك أرى أنهم بقولهم في الشعر بهذه الضرورة أسدوا إليه نظرة خاصة تعني أن له لغة خاصة تميزه عن غيره، هذه اللغة هي اللغة الفنية التي تجعل أسلوبه ونمطه مختلفاً عن غيره من الأساليب والأنماط. وهذه الرؤية النحوية للضرورة هي ما ينبغي أن يؤخذ من كلام النحاة الكبار وآرائهم كالخليل الذي يقول:” الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد ويبعّدون القريب، ويُحتَجّ بهم ولا يُحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل  ([12]). ومثل هذا قول ابن جني:” فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب من الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دلّ من وجه على جوره وتعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثَله في ذلك عندي مثل مجري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس من غير احتشام، فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنّته؛ ألا تراه لا يجهل أن لو  تكفّر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة، لكنه جشِم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحامُ مثله، إدلالاً بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه... فاعرف بما ذكرنا حال ما يرد في معناه، وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً، ولا جشِم إلا أمما، وافق بذلك قابلاً له، أو صادف غير آنس به ([13]). 

فمثل هذا الكلام يسلك في الضرورة مسلكاً صحيحاً ويجعلها تنصب علىلغة الشعر"التي تتمثل في أمرين: الخصائص التركيبية (الصرفية والنحوية) والخصائص الفنية وهي الإطار الخارجي مجسداً في الوزن والقافية والمضمون الداخلي والربط بينهما. وبهذا يكون النحاة، كأنهم حاولوا تنميط لغة الشعر من خلال تحديد خصائصه اللغوية، وإن جاء هذا لدى معظمهم عفواً عند وضع القواعد ومحاولة طردها، ولم يكن ذلك التنميط بوعي وبقصد إلا عند النحاة الكبار: الخليل وسيبويه وابن جني وابن مالك.

3 ـ خلاصة موقف النحاة أمام النصوص توثيقاً واستشهاداً وتقعيداً أن أغلبهم راعوا القواعد واهتموا بها على حساب النصوص واعتمدوا على الشعر ـ وهو موضع ضرورة ـ وغريب النثر في فترة زمنية معينة وبيئة جغرافية ممتدة ومحددة، في مقابل قلة الاعتماد  على القرآن والحديث فترة طويلة ـ وكان لهما فيهما متسع ـ فكان التأويل وتضخيم القواعد وتراكم التفريعات، نتيجة طبيعية لموقف النحاة هذا، بل كان التلحين أحياناً من نصيب بعض القراءات المتواترة وشعر الشعراء الكبار الذين جاءوا فيما بعد عصر الاستشهاد، على أن مذهب الكوفيين كان أقل تكلفاً في حمل النص القرآني على ظاهره من مذهب البصريين الذي يقوم على التمحل والتكلف في كثير من المواطن لأن هذا النص يخالف ظاهرُه أصولهم ([14]). ومن أمثلة التأويل بصفة عامة:

ا ـ لا يصح عند البصريين أن تأتي صيغةفاعل" بمعنىمفعول" وما ورد من ذلك مثل: ماء دافق وسر كاتم وعيشة راضية، مؤول على النسبة إلى المصادر التي هي الدفق والكتم والرضا ([15]).

ب ـ ذكر السيوطي في باب العطف أنه يجوز عطف الاسم على الفعل، والماضي على المضارع، والمفرد على الجملة، وبالعكوس، أي الفعل على الاسم، والمضارع على الماضي، والجملة على المفرد في الأصح، إذا اتحد المعطوف والمعطوف عليه بالتأويل، بأن كان الاسم يشبه الفعل، والماضي مستقبل المعنى، أو المضارع ماضي المعنى، والجملة في تأويل المفرد، بأن يكون صفة أو حالاً، أو خبراً أو مفعولاً، ومن أمثلة هذا قوله تعلى:” يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي" [الأنعام: 95] وقوله: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله [الحديد: 18]، وقوله: يقدم قومه يوم القيامة فأورده النار [هود: 98]، وقوله:” أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مُخضرّة [الحج: 63] أي فأصبحت ([16]).

   ومن المؤكد أن العدول في هذا وأمثاله في الصيغة أو في العطف عن الأصل له مغزى ومعنى ودلالة ولا يكفي فيه ما ذهب إليه النحاة من تأويل.

ج ـ وقع في رواية بعض الأحاديث صور من الأساليب والتراكيب غير الجارية على الشائع من الاستعمال، فلجأ النحاة إلى تأويلها، ومن هذا:

ـ إن قعر جهنم سبعين خريفاً”:”سبعين" منصوبة على رأي الكوفيين الذين يجيزون أن تكون إنّ ناصبة  للجزأين، والذين يمنعون هذا يخرجونه على أنالقعر" مصدر قعرتُ البئر أي بلغت قعرها، و" سبعين منصوبة عندئذ على الظرفية.

ـ إنّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورّون: قيل اسم إنّ ضمير الشأن المحذوف.

ـ كل أمتي معافىً إلا المجاهرون”: قيل: رفع ما بعدإلا" جائز على لغة حكاها أبو حيان، وأجاز ابن مالك أن تكونإلا" بمعنى (لكن)، وأن يكون ما بعدها مبتدأ حذف خبره.

ويلاحظ على هذه شواهد الحديث هذه أن النحاة يتعلقون فيها بروايات غير مشهورة ويغفلون عن الروايات الصحيحة؛ فما من حديث من هذه الأحاديث إلا له رواية أخرى مشهورة ليس فيها إشكال نحوي، وبناءً على هذا يثير التأويل هنا سؤالاً مهماً: أعلم النحاة بهذه الروايات الأخرى المشهورة ولكن دفعهم حب التأويل وإظهار الصنعة إلى التأويل ؟ أم أنهم لم يعلموا بها فيكون ذلك عذراً لهم على أساس القاعدة التي تقول: التأويل يسوغ إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيُتَأوَّل، ومن ثم رُدّ تأويل أبي علي لرفع ما بعدإلا" بأنه على إضمار ضمير الشأن في:”ليس الطيبُ إلا المسكُ" ـ لأن أبا عمرو ذكر أن ذلك لغة لتميم ([17]).     

د ـ ثمة نوع من التأويل يعد وسيلة من خمس وسائل يُعترض بها على النقل في المتن، وذلك مثل أن يقول الكوفي: الدليل على جواز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر قول الشاعر:

وممن ولدوا عـامِــــرُ ذو الطُّول وذو العرضِ

فترك صرف (عامر) وهو منصرف فدل على جوازه. فيقول له البصري: إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة، والحمل على المعنى كثير في كلامهم... فيقول له الكوفي: قوله (ذو الطول وذو العرض) يدل على أنه لا يذهب به إلى القبيلة، لأنه لو ذهب به إلى القبيلة لقال: ذات الطول. فيقول له البصري: قوله (ذو الطول) رجع إلى الحيّ، ونحو هذا في التنقل من معنى إلى معنى قول الشاعر:

إن تميـماً خـُلقتْ مَلمـوما

قوماً ترى واحدَهمْ صِهْمـيما

والصهميم: الذي لا ينثني عن مراده ([18])".

   إن هذه الأمثلة السابقة المختلفة للتأويل تدل على أنه ـ في كثير من الأحيان ـ كان تأويلاً لخدمة القاعدة وجعلها مطردة ولتأييد المذهب ولم يكن معنياً بالتفسير إلا قليلاً، كما في القول بالتأويل مثلاً بالاعتماد على مبدأ شجاعة العربية عند ابن جني، وهو على كل حال كان مؤشراً على العدول في الأسلوب عن أصل القاعدة والاستعمال. وبناءً على هذا يكون مفهوم التأويل عند النحاة مختلفاً عن مفهومه عند البلاغين وعلماء الكلام والمفسرين وعلماء الأصول؛ فهو عند البلاغيين قائم في علم البيان على المجاز وهو من أسس البلاغة، وعند علماء الكلام قائم على شروط محددة ويتعلق بصحة العقيدة أو عدم صحتها وهو نوعان صحيح وفاسد، وعند المفسرين التأويل قائم على الاستنباط والدراية وهو قسيم التفسير الذي يقوم على النقل والرواية، وهو عند الأصوليين يقوم على أساس تقسيم اللفظ من حيث الوضوح وعدم الوضوح وطرق الدلالة على المعنى([19]). والضابط العام للتأويل في هذه العلوم كلها هو صرف اللفظ عن ظاهره بدليل. 

4 ـ لم يكن عمل النحاة في النصوص بمعزل عن السياق لغوياً كان أو مقامياً والشواهد على هذا كثيرة، لكنّ الملاحظة التي تلفت الانتباه هنا أنهم بذلوا جهداً كبيراً في محاولة حصر معاني الحروف والأدوات والتقعيد لها نظرياً، مع الإشارة أحياناً إلى ارتباطها الوثيق بالاستعمال والنص وكون معانيها سياقية لا تتضح ولا تتحدد إلا من خلال السياق.

    وبهذا ندرك أن أهم فوائد دراستهم للحروف تكمن في أمرين: الأول: الإشارة إلى أصل معنى كل حرف، وتظهر فائدة هذا عند العدول في الاستعمال عنه، والثاني: ربط بعضهم المعاني المختلفة بالسياق.  فهمزة الاستفهام ـ كما قال المرادي ـ قد ترد بحسب المقام لمعان أخر مثل التسوية والتقرير والتوبيخ والتحقيق والتنكير والتهديد والتنبيه، و" أو ذكر لها المتأخرون اثني عشر معنى والتحقيق ـ كما ذكر ابن هشام ـ أنها موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء كما بين المتقدمون، وقد تخرج إلى معنىبل" أو إلى معنىالواو"، وأما بقية المعاني فمستفادة من قرائن المقام ([20]). لكن من الحروف التي أشكلت على بعضهمرب"، وقد انقسموا في معناها إلى آراء وأقوال مختلفة أهمها فيما أرى يمكن أن يجمل في ثلاثة: الأول: أنها للتقليل وهذا مذهب أكثر النحاة ونسب إلى سيبويه وبه أخذ المرادي، والثاني: أنها للتكثير في الغالب وللتقليل قليلاً، وقد انتصر لهذا الرأي وأيده بالشواهد المختلفة ابن مالك وابن هشام الذي أيد دلالتها على الكثرة بقوله تعالى:” ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [الحجر: 2] وبحديث:” يا رب كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يوم القيامة ثم بقول أعرابي وببيتين ثم قال:” ووجه الدليل أن الآية والحديث والمثال مسوقة للتخويف، والبيتين مسوقان للافتخار، ولا يناسب واحداً منهما التقليل ([21])، وقال الرضي:” التقليل هو أصلها ثم استعملت في التكثير حتى صارت فيه كالحقيقة وفي التقليل كالمجاز المحتاج لقرينة، والرأي الثالث: أنها حرف إثبات لم يوضع لتقليل ولا تكثير، بل ذلك مستفاد من السياق([22]).

   ويبدو أن سبب الإشكال هو عدم الالتفات إلى السياق، فالذين قالوا إنها للتقليل لا غير لجئوا إلى التأويل والتحايل؛ قال المرادي:والدليل على ذلك (أي أنها للتقليل) أنها جاءت في مواضع لا تحتمل إلا التقليل، وفي مواضع ظاهرها التكثير، وهي محتملة لإرادة التقليل بضرب من التأويل. فتعين أن تكون حرف تقليل، لأن ذلك هو المطرد فيها([23]) ؛ ولهذا كانت نظرة الرضي وابن مالك وابن هشام أقرب إلى الصواب لأخذهم بالسياق واعتمادهم على الشواهد العملية الواضحة التي يفهم من أغلبها معنى الكثرة ومن بعضها معنى القلة وعلى هذا بُنِيَ رأيهم، ومن أجل ذلك أيضاً كان من الآراء السديدة الرأي الثالث وهو رأي على قدر كبير من الأهمية لأنه يلفت النظر إلى القاعدة التي ينبغي التعامل مع الحروف كلها ـ لا رب وحدها ـ على أساس منها، وهي أن الحروف لها معان أصلية لكن لا يستفاد صواب المعنى إلا من السياق، وهذا هو معنى قول النحاة أنفسهم إن الحرف معناه في غيره. ويترتب على ما سبق أن النحاة إذا كانوا قد انتبهوا إلي دلالة السياق والمقام بصورهما المختلفة في وضع القواعد، فما زال أمامهم شوط بعيد من المعنى لم يقطع بعد، هو إعادة النظر في معاني الحروف ومراجعة ترتيبها وتنظيمها وربطها بالتنظير والتطبيق واعتبار معانيها هي معاني الجمل والمعاني المستفادة من النص بأكمله؛ لأن هذه الحروف لها عظيم الأثر في تمييز تركيب عن تركيب وأسلوب عن أسلوب، وهذا مما تتعلق به بلاغة القرآن وإعجازه ([24]).

              

[1]) ) ـ كانت كتب  "معاني القرآن" تعنى بالتفسير اللغوي والنحويّ واستمرت على هذا النحو إلى القرن الرابع الهجري، فتحولت إلى كتب التفسير وكان لها أثرها في المراحل اللاحقة للتأليف في التفسير . انظر : النحو وكتب التفسير، للدكتور رفيدة 1/529 ـ 531 . 

[2]) ) ـ انظر : رسالتي للماجستير "الدراسة النحوية للشعر عند ابن جني" ـ مكتبة كلية دار العلوم ـ 1992 .   

[3]) ) ـ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبد القادر البغدادي ، تحقيق عبد السلام هارون 1/16،17 .   

[4]) ) ـ انظر : السابق 1/18 .   

[5]) ) ـ انظر : علم النص مدخل متداخل الاختصاصات ، لفان دايك، ترجمة الدكتور سعيد بحيري 208 ـ 212 .   

[6]) ) ـ الكلام هنا مقيد بكتب التقعيد لدى النحاة القدماء، وبناءً على هذا، ما سوى ذلك ـ ككتب إعراب القرآن وبيان معانيه ـ فالحكم عليه من هذه الزاوية يتوقف على مراجعته ودراسته. وأما الدراسات النحوية واللغوية الحديثة ـ كدراسات الأستاذ عضيمة ـ فمن الواضح أنها أصابت قدراً غير قليل من تحديد أنظمة أنماط القرآن وأساليبه.   

[7]) ) ـ انظر : البحر المحيط في التفسير ، لأبي حيان الأندلسي 1/12، 13  (دار الفكر ـ بيروت ـ 1992) 1/12 ، وحاشية الصبان 3/303.   

[8]) ) ـ انظر : شرح الأشموني 3/124 .   

[9]) ) ـ انظر : همع الهوامع للسيوطي ، تحقيق أحمد شمس الدين 1/153،154،380 .   

[10]) ) ـ انظر : دراسات لأسلوب القرآن الكريم للأستاذ محمد عضيمة، القسم الثالث، ج4 ص3،6،7  .   

[11]) ) ـ الضرورة الشعرية في النحو العربي ، للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف : 589 .   

[12]) ) ـ منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لحازم القرطاجني ، تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة 143،144 .   

[13]) ) ـ الخصائص : 2/394،295 ، وانظر : الكتاب لسيبويه، تحقيق وشرح عبد السلام هارون 1/ 26 ـ 32.   

[14]) ) ـ التأويل النحوي في القرآن الكريم ، تأليف الدكتور عبد الفتاح الحموز : 2/1462،1463 .   

[15]) ) ـ انظر : شرح قصيدة بانت سعاد لابن هشام 127،128 .   

[16]) ) ـ انظر : همع الهوامع 3/191 ، والتأويل النحوي في القرآن الكريم 2/ 1437 ـ 1450 .   

[17]) ) ـ انظر : الحديث النبوي في النحو العربي، للدكتور محمود فجال 101 ـ 104، وفيض نشر الانشراح 1/637 ـ 639 .   

[18]) ) ـ الإغراب في جدل الإعراب ولمع الأدلة لأبي البركات الأنباري، تحقيق سعيد الأفغاني : 49 ـ 51.   

[19]) ) ـ انظر : من جوانب المعنى في العلوم العربية ـ مقدمة دلالية، بحث للدكتور عبد السلام حامد، في كتاب مؤتمر "العربية والدراسات البينية" 618 ـ 622، 626 ـ 639.   

[20]) ) ـ انظر : الجنى الداني للمرادي (دار الكتب العلمية ـ ط1) 31 ـ 35 ، ومغني اللبيب لابن هشام 1/61 ـ 67، وحاشية الأمير على المغني 1/65 .   

[21]) ) ـ مغني اللبيب لابن هشام :  1/135 ، وانظر : شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك 164،165 .   

[22]) ) ـ انظر : الجنى الداني للمرادي 439، 440 .   

[23]) ) ـ السابق : 440 .   

[24]) ) ـ انظر: مقدمة دراسات لأسلوب القرآن الكريم (للأستاذ محمود شاكر) القسم الأول، ج1 صفحة و .