وجوه الإنسان المهشّمة

وجوه الإنسان المهشّمة

في رواية ( الوجوه الأخرى ) لوداد البرغوثي

الاحتلال يشوّه الإنسان في الإنسان .........

إبراهيم جوهر / القدس

رواية ( الوجوه الأخرى ) للأديبة الإعلامية وداد البرغوثي هي رواية شخصيات إنسانية ، تنقل من خلالها الإنسان الفلسطيني والعربي المغترب عن واقعه ، المتنافر مع وطنه بناسه وذكرياته ، المحاول التكيف مع الواقع والعيش بهدوء إنساني تتوق إليه النفس البشرية فيبرز له الاحتلال ليشوّه هدوءه وحياته الداخلية فيخرجه من دائرة الفعل الإنساني إلى دائرة النفي الذاتي والاغتراب فيجد نفسه منهزما مقهورا لا حل أمامه سوى الانتحار . هذا ما حصل مع عصمت الندّام الفتى الطيب العاشق الذي ضاقت عليه أرض وطنه بما رحبت فلم يجد حلا سوى الانتحار في بلاد الثلج الباردة ، ليكتب بدمه هناك على الثلج الحقيقي ، و ( الثلج ) المجازي ؛ ثلج القلوب غير الرحيمة التي أخذته بجريمة لم يقترفها ، وعاقبته وحاصرت حبه وحياته وأخرجته من بلده ليموت بعيدا موتة باردة تطرح أسئلة تظل معلقة بلا إجابات .

في هذه الرواية تصوّر وداد البرغوثي وجوه شخصياتها الحاضرة المرئية الظاهرة للعيان ، والوجوه الأخرى الكامنة غير المرئية المخفية . وبين هذه الوجوه الظاهرة الباسمة ، وتلك الوجوه المخفية ، تنقل إلينا بوعي حالة الحيرة والضياع والندم .

وجوه شخصيات وداد البرغوثي هنا المتزاحمة المتفاعلة العاملة والمتأملة المتألمة ، يبرز خلفها وجه الاحتلال متعدد الوجوه في قبحه ولا إنسانيته وتدميره وبشاعته ، لأنه المسبب الرئيس لحالة الضياع والتشظي والندم هذه التي تعذّب الشخصيات النادمة .

إنه الندم إذن . ومنه جاء اسم أبي عصمت الندّام الذي أورث الاسم برمزه ونطقه ومضمونه لابنه عصمت الذي تعرّفت عليه الراوية أسماء ناصر في تونس حيث كان يدرس الحقوق ( القانون ، وهو اختيار هادف من الكاتبة الروائية ، إذ لا قانون سائد ) بينما هي كانت في زيارة لحضور مؤتمر حول الإعلام والعولمة ، فتتعرف على وجهه الأصلي البريء الطيب الودود الخدوم حامل قيم الشهامة والمساعدة ، بينما يخفي عنها وجهه الآخر المهلهل المشتت الحائر المحيّر .

تبدأ الروائية وداد البرغوثي بالتعريف المباشر بشخصية عصمت الندّام ( هذا هو عصمت الندّام الذي ظل لغزا محيّرا لي منذ الأيام الأولى لتعارفي به ) ص5 وتنتهي الرواية في صفحة 175 ولغز موته أو انتحاره لم يحل بعد ، وإن أوحت الأحداث والشهادات والتحليلات بأنه انتحر ، لأنه في هذا الانتحار ينير دربا أومأت إليه الكاتبة في ثنايا الرواية .

سخّرت الكاتبة منجزات الرواية البوليسية الفنية في روايتها ، في سير أحداثها ، والكشف البطيء الملغز لشخصياتها والإثارة الفنية بهدف الشد والتشويق ، وليتيح لها إيصال ما أرادت إيصاله من أفكار ومقارنات وتوازيات مع أحداث أو أشخاص تذكّر بها المواقف والأحداث والجمل والكلمات ، لأن كل حدث ، وكل فكرة ، أو جملة ، عند الكاتبة ، لها ذاكرة . وكلما كانت تقترب من كشف الشخصية أو الحدث كانت تدخل القارىء في دوامة أخرى ، وكأنها دوائر الماء ؛ دائرة تعقب أخرى ، وتتشعب وتتوازى  حتى تصل إلى المركز ؛ نقطة الانطلاق نحو الخارج اللامتناهي ، فتتضح الصورة وتتجلى بعد ربط الأجزاء معا .

في هذه الرواية لا يوجد فواصل رقمية ولا فصول ، وربما تعمدت الكاتبة هذا الشكل لتوحي بأن حياة شخصياتها هي هذا التداخل العجيب الغريب غير محدد الملامح ولا الأسباب .

استخدمت في سبيل ذلك تقنية التداعي والاستحضار ، فكل حدث أو مشهد أو جملة أو موقف ، حدث شيء مماثل له مع الراوية ، أو تقوم الروائية ( الكاتبة ) بالتعليق عليه وتثبته لتشكّل لوحة بنائها الروائي النهائية وكأنها خطوط تتوازى دائما وتتقاطع أحيانا .

كما استخدمت الكاتبة في أسلوبها تقنية الرسائل والوصية التي كتبها المنتحر عصمت إلى زوجته الروسية التي لا تعرف قراءة العربية ، ولكنه مع ذلك كتب تلك الوصية ( فهل أومأت الكاتبة هنا إلى أنها كتبت لمن لا يجيد قراءة ما كتبت ؟ مع العلم أنها كتبت لناسها هنا في الوطن الصغير والوطن الكبير على حد سواء !! ) وهي رسائل توضّح ما استتر من معاناة ومشاعر ، وما غمض من أحداث .

كما استخدمت في هذه الرواية أسلوب المونتاج والتداخل بين المواقف والتوازي بين الشخصيات داخل الرواية ، وبين الشخصية المفردة وذاتها لتكشف اللثام عن الوجوه الأخرى التي عنتها في العنوان ( الوجوه الأخرى ) .

ونظرا لتحمّس الكاتبة لإيصال رسالتها في سيرة هذه الوجوه قامت بالتعليق في عدة مواطن بلسان الراوية نفسها ، إذ جاءت التعليقات في الصفحات 49 و51 و69 و101 مقحمة من خارج السياق الفني الروائي . وربما نجد تفسيرا لذلك في حرص الكاتبة على مشروعها الذي يعتمد سيرتها الذاتية في بعدها الذاتي ذي الأبعاد الرمزية المطابقة الممتدة حتى اللحظة الراهنة ، أو أن ذلك عائد إلى طبيعة عملها الصحفي الذي يحلل ويعلّق ، وإلى عملها في التعليم الذي يحرص على إيصال الفكرة وضرب الأمثلة والتعليق .

لفت انتباهي في لغة الكاتبة إشارتها للصمت ووصفها له بما يوضّح الحالة النفسية المصوّرة . فهذا عصمت بعد طلبها منه زيارة أمه في القرية يقول : ( لا .. لا .. لا .. ) وتعلّق قائلة : ( تلت لاءاته الثلاث الحاسمة لحظة صمت دبق ) ص19 . وفي صفحة 38 تروي : ( ... توترت أم عصمت وأكلت بسرعة ... فيما ساد بيننا ذلك النوع من الصمت الكريه القلق )  . وفي صفحة 43 جاء : (  كنا ثلاثة ؛ أنا وعصمت والصمت كان ثقيلا ثقيلا ... ورأيت أن خير ما يقطع الصمت هو الأغنية ) .

صمت دبق ، وصمت كريه قلق ، وصمت يتشخّصن فيصير ثالث اثنين .  وأم خالد صمتت عن حكاية أبي عصمت الندّام (ص52) بينما المجموعة التي اعتقلت بسبب خيانة أبي عصمت آثرت السكوت ، ولم تكشف المعلومات التي بين أيديها .

 وكأنّي بالكاتبة تتخذ موقفا من الصمت الذي تميّزه عن السكوت . فالصمت موقف عاجز سلبي أخرس ، بينما السكوت يكون لمبرّر موضوعي إلى حين . وقد وصفت الكاتبة الصمت بصفات أخرجته إلى دائرة الحواس ؛ فهو دبق يحسّ ، وهو كريه قلق يشمّ ويشعر به ، وهو حيرة وسكون تكسره كلمات أغنية .

الصمت هنا إشارة وتذكير ؛ لم يعد الصمت يجدي  .

وداد البرغوثي في رواية ( الوجوه الأخرى ) قدّمت رواية بتقنية حديثة ، وكشفت عن الجوانب الإنسانية المغيّبة في حمى الانشغال بالراهن الآني ، وكانت مشغولة بنقل الوجه الآخر لكل شيء . وهي تحقّق في روايتها هذه قفزة نوعية على صعيد لغة الروي والحدث والشخصية عن روايتها السابقة ( تل الحكايا ) التي غلبت عليها اللغة الصحفية التقريرية .

* الوجوه الأخرى للكاتبة وداد البرغوثي ، منشورات دار الخيال للنشر والتوزيع ،لبنان ، 2007 م.

* ورقة مقدمة إلى ندوة الخميس الأدبية في المسرح الوطني بالقدس 1 .4 . 2010 م.