الشقاء في قصيدة البردة
الشقاء/ الانفصام
والسعادة / التواصل
في قصيدة البردة لكعب بن زهير
د. كريم الوائلي
ينتمي كعب بن زهير إلى مدرسة الشعر
الحولي المحكك ، وهي مدرسة أدبية ترجع في جذورها إلى
أبيه زهير بن أبي سُلمى ، والى أوس بن حجر ، وهي
تعنى بصياغة القصيدة وإعادة النظر فيها ، إذ ينظم الشاعر قصيدته في حول كامل ينقحها
ويحككها ويثقفها
ولا ريب أنَّ
قصيدة كعب تتسم بخصائص التأنق في صناعتها ، وتقترن
بزمن جاهلية الشاعر قبل إسلامه ، إلا أن هذا مفهوم سطحي ساذج ، لأنه يجعل الزمن
متحكماً في تحديد ماهية الفني ، بمعنى أن قصيدة كعب بن زهير نظمت في زمن جاهلية
الشاعر والإسلام قائم في المدينة المنورة ، وقد نظمها الشاعر معتذراً من الرسول
صلى الله عليه وسلم ، بعد أنْ أُهدر دمه.
وتتكون قصيدة كعب من ثلاث وحدات : الغزل ، ووصف الراحلة ، ومدح الرسول.
القسم الأول :
بَانَتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتبولُ
متيمٌ إثرها لم يُفْدَ مكبولُ
وما سعادُ غداةَ البينِ إذ رحلوا
إلا أغنُ غضيضُ الطرفِ مكحولُ
هيفاءُ مُقبلةً عجزاءُ مدبرةً
لا يشتكى قصرٌ منها ولا طولُ
تجلو عوارضَ ذي ظَلمٍ إذا ابتسمتْ
كأنه مُنهلٌ بالراحِ معلولُ
شُجت بذى شَبَمٍ من ماءِ محنيةٍ
صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ
تنفى الرياحُ القذى عنه وأفرطَه
من صوبِ ساريةٍ بيضٌ يعاليلُ
أكرمْ بها خُلةً لو أنها صدقتْ
موعودَها أو لوان النصحَ مقبولُ
لكنها خلةٌ قد سِيطَ من دمِها
فَجْعٌ ووِلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
فما تدومُ على حالٍ تكونُ بها
كما تلوّنُ في أثوابِها الغولُ
ولا تَمَسَّكُ بالعهدِ الذي زعمتْ
إلا كما يُمسكُ الماءَ الغرابيلُ
فلا يَغرَّنْكَ ما مَنّتْ وما وعدتْ
إنَّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ
كانتْ مواعيدُ عُرقوبٍ لها مثلا
وما مواعيدُها إلا الأباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتُها
وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
أمستْ سُعادُ بأرضٍ لا يبلّغُها
إلا العتاقُ النجيباتُ المراسيلُ
ويستهل كعب بن زهير قصيدته بالفعل
الماضي بانت ، المسند إلى
فاعل مؤنث «سعاد»
، وهو فعل يدل على البينونة والفراق ، ويمثل هذا سبباً يؤثر في الشاعر ، وعلى وجه
التحديد في موطن الانفعال «القلب» وإذا كان الفعل « بانت »
يدل على وقوع الفعل في الماضي فإنَّ النص يوحي باستمرارية حدث البينونة إلى الآن في
الزمن الحاضر
« اليوم » ، ويبدو أنَّ
لشدة الفعل أثراً لأنَّ الشاعر أكثر من وصف ما وقع
على القلب.
ومن الملاحظ أنَّ
هذه الصفات كلها تشتمل على حرف الميم الذي يوحي
بخاصية الحزن ، فضلا عن حروف المد التي تعضد هذه الخاصية. وإذا كانت هذه الصفات
« متبول ، ومتيم ، ولم يفد ، ومكبول » تمثل أمرا سلبياً يعاني منه
الشاعر وكلها تقع في عالمه الداخلي ، فإنَّ
مقابله وصف إيجابي للمحبوبة ، وكل أوصافها خارجية ،
ولكنها تتميز بالديمومة والثبات والاستمرار ، يدل على ذلك أسلوب القصر «
وماسعاد... إلاّ».
وإذا كانت كلمة « اليوم » في البيت الأول تدل على معنى عام للزمن بمعنى الآنية غير مقترنة بوصف ، فإنَّ البيت الثاني يقرن الزمن بفترة معينة من اليوم ، ومحددة بإضافته إلى وصف « غداة البين».
وتتميز قصيدة كعب بشكوى الشاعر الطاغية على القسمين الأول والثاني شكوى من الحبيبة الفاتنة التي لا تحقق التواصل ، بل تتسم بالغدر والخيانة ، والشكوى أيضاً من رحلة محفوفة بالمخاطر ، ولعل الناقة هنا تعبر عن حركة الزمن ، أو حركة من زمن جاهلي إلى زمن آخر ، ومن معلوم إلى مجهول ، ومن ثم طلب العفو ورد التهمة عنه يمثل أساساً في القسم الثالث ، الذي يدخل فيه مدح الرسول والمهاجرين ، وذلك سعياً للوصل في حياة جديدة يتحقق من خلالها الامتلاء الحقيقي بوصفه معارضاً للخواء الذي عاشه الشاعر في القسم الأول.
إنَّ الشكوى الطاغية في القسم الأول تكتنفها دلالات التعارض في المحبوبة بين ظاهرها وباطنها من ناحية ، ومن تعارض بين المحبوبة والشاعر من ناحية أخرى ، فالمحبوبة على الرغم من بهائها الظاهري الخارجي فإنها تتميز بصفات داخلية سيئة ، بل لعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إنَّ اسم المحبوبة « سعاد » يوحي بهذه التعارض أيضاً ، فهي لم تسعد الشاعر بل قد أسقمته وأدخلت الحزن إلى قلبه.
ولو توقفنا عند المظاهر الحسية لجمال المحبوبة لألفنياها متعددة إذ منها ما يتصل بالصوت « أغن » والطرف « غضيض الطرف مكحول » في حركته ولونه ، ورشاقة الجسم في اعتداله ، هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ، والثغر ورضابه ، « تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ».
إنَّ الشاعر يؤكد على الحواس المختلفة ، في تأكيد الخصائص الجمالية للمرأة ويسهم الإيقاع في تحديد التلوين الجسدي وحركيته ، إذ يعمد الشاعر إلى التقطيع الصوتي
القائم على التقسيم والتناظر ، ومن ثم يتطابق البعدان البصري والإيقاعي في استكمال الصورة : «هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة » إذ يبدو التركيب متطابقا نحويا وإيقاعيا ، فضلا عن التناظر الصوتي في الكلمات :
هيفاء / عجزاء مقبلة / مدبرة
إنَّ هذا التركيب يوحي بتطابق الصورتين البصرية الحسية والإيقاعية لتماوج حركة الجسد في الخارج ، والتموج الإيقاعي الذي يوحي بحركة الجسد واعتداله ورشاقته في النص.
وعلى الرغم من ذلك فإنَّ هذا الجمال الخارجي تعارضه صفات سلبية داخلية عند المحبوبة ، فهي تخلف الوعد ، وإنها متقلبة متلونة المزاج ، وإنها تضلل الشاعر وتخدعه:
أكرمْ بها خُلةً لو أنها صدقتْ
موعودَها أو لوانَّ النصحَ مقبولُ
لكنها خلةٌ قد سِيطَ من دمِها
فَجْعٌ ووِلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
ولا يزال الشاعر يوظف الملامح الإيقاعية في الإيحاء بخصائص الصورة الحسية ، ومن مظاهر ذلك:
1 ـ التكرار ، أي أنْ يذكر الشاعر كلمة ثم يكررها أو ما يشتق منها في البيت نفسه مثل قوله :
ولا تَمَسَّكُ بالعهدِ الذي زعمتْ
إلا كما يُمسكُ الماءَ الغرابيلُ
فلا يَغرَّنْكَ ما مَنّتْ وما وعدتْ
إنَّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ
كانتْ مواعيدُ عُرقوبٍ لها مثلا
وما مواعيدُها إلا الأباطيل
كما يتكئ الشاعر على التقطيع المتكرر لتأكيد أوصاف المحبوبة :
أكرمْ بها خُلةً لو أنها صدقتْ
موعودَها أو لوان النصحَ مقبولُ
لكنها خلةٌ قد سِيطَ من دمِها
فَجْعٌ ووِلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
ويتجلى التقطيع المتكرر في « فجع ، وولع » و« إخلاف ، وتبديل» ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا التقطيع المتكرر يتميز بالتلوين والتماثل ، إذ إنَّ كلمتي « فجع ، وولع » تتماثلان في بنائهما الصرفي / الإيقاعي ، وتتكون كل واحدة منهما من ثلاثة حروف ويتكرر حرف العين في فجع وولع ، وأن هاتين الكلمتين تتصلان بالعالم الداخلي للشاعر وكذلك الأمر مع كلمتي « اخلاف وتبديل » فإنهما تتماثلان في بنائهما الإيقاعي وتتكون كل واحدة منهما من خمسة أحرف ، وتتصلان بموقف المحبوبة من الشاعر.
وإذا جاز لنا أنْ نتحدث عن نمطين من الأفعال : أفعال لها طبيعة سلبية في ذاتها أوفي سياق النص ، وأفعال لها طبيعة إيجابية في ذاتها أوفي سياق النص ، فإنَّ عدد الأفعال السلبية في هذا المقطع يفوق الأفعال الإيجابية ، إذ يبلغ عدد الأفعال السلبية في مقطع المحبوبة 16 ستة عشر فعلاً ، وهي : « بانت ، لم يفد ، رحلوا ، تنفي ، أفرط ، أكرم صدقت ، سيط ، فما تدوم ، تلون ، لاتمسك ، زعمت ، يغرنك ، ما منت ، وما وعدت أمست » ويبلغ عدد الأفعال الإيجابية 8 ثمانية ، وهي : « لا يشتكي ، تجلو ، ابتسمت شجت ، أضحى ، أرجو ، آمل ، تدنو » ، ويمكن التحدث عن صفات سلبية تشيع وتتفشى في المقطع نفسه ، مثل « متبول ، متيم ، مكبول ، فجع ، ولع ، إخلاف ، تبديل
تضليل ».
إنَّ سعاد قد أوقعت سقماً في قلب الشاعر من ناحيتين ، من حيث بهاؤها وجمالها
ـ الملامح الخارجية ـ وغدرها وإخلافها الوعد ـ الملامح الداخلية ـ ترى هل كان كعب بن زهير يتحدث عن فتاة بعينها ، أم أنها تمثل ترميزاً إلى أمر آخر يمكن أن يكشف عنه سياق القصيدة التاريخي والاجتماعي، فإذا كانت «سعاد » تبعث كل هذا «الشقاء » في الشاعر ، فإنَّ نوالها والإمساك بها أضحى مستحيلاً ، ويأمل الشاعر أن تدنو مودتها ترى هل يمكن القول إنَّ سعاد تمثل رمزاً إلى «الجاهلية » فهي« السعادة / الشقاء » للشاعر ، وهي تتميز ببهاء مظهرها وسوء مخبرها ، وإنَّ الشاعر على الرغم من كونه عازماً على القدوم إلى الرسول ، فإنه لا يزال ينظر إلى الجاهلية التي لا يمكن بلوغها أو الوصول لها تعبيراً عن التغير الذي يحدث في الواقع.وكان لا بد إذن من رحلة ينأى بها الشاعر عن هذه « الجاهلية» الباهرة الجمال الرديئة الأخلاق.
إنَّ حالة الانفصام لها ملامح سلبية لأنَّ المحبوبة تمثل الطرف الفاعل ويمثل الشاعر الطرف المنفعل ، فهي التي اختارت الانفصام تاركة الشاعر يعاني الخواء ، ومن ثم هناك تعارض تمثل : سعاد «المرأة المحبوبة المنتصرة الفاعلة المختارة الرحيل » الطرف الفاعل ويمثل : الشاعر « الرجل العاشق المهزوم » الطرف المنفعل.
إنَّ الأبيات : 3 ، 4 ، 5، 6 ، التي
يعمد فيها الشاعر إلى
وصف الخصائص الحسية للمحبوبة تقدم تبريراً أو
عزاءً يعبر فيه الشاعر عن هزيمته وانكساره ، لأنَّ سعاد
« المرأة / الرمز » ما دامت تحمل هذه الصفات من البهاء والجمال ،
وانها هي الطرف الفاعل فإنه من الجدير أنْ يعاني السقم من أجلها ، ومما يؤكد ذلك
قوله:
أكرمْ بها خُلةً لو أنها صدقتْ
موعودَها أو لوانَّ النصحَ مقبولُ
وإذا كانت الأبيات السابقة تعبر عن بهاء المحبوبة فإنَّ الشاعر يشرع من البيت الثامن في تقديم الوجه الآخر للمحبوبة ،إذ يتحدث عن تلونها وغدرها ، وخيانتها ، فهي امرأة كذوب ، لا تفي بعهودها ومواعيدها ، بل إنَّ الإخلاف كالطبع فيها ويجري كالدم في عروقها. إذن فنحن إزاء قسمين متقابلين ، يصور الأول محاسن المحبوبة « سعاد/ الجاهلية » ويصور الثاني عيوبها ، ومن الجدير بالملاحظة أنَّ محاسن المحبوبة حسية جسدية ، وأن عيوبها معنوية ، ولا يقتصر الأمر على تعارض بين ظاهر المحبوبة وباطنها ، وإنما يتجاوز ذلك إلى تعارض آخر بين المحبوبة وعاشقها ، ، وإذا كان ظاهر الحبيبة حسن وجمال وروعة وبهاء فإنَّ ظاهر العاشق انكسار وسقم ، وإذا كان باطن المحبوبة غدر واخلاف ومماطلة ، فإنَّ باطن الشاعر وفاء ورغبة في التواصل ، بل إنه يأمل ويتمنى أنْ يعود التواصل على الرغم من هجر المحب ورحيله.
ويصل الشاعر بعد هذا كله إلى نتيجة مفادها أنه لا فائدة ترجى من تحقق التواصل والمودة والصفاء ، فلقد انتهى كل شيء الآن « زماناً ومكاناً » مع المحبوبة « سعاد / الجاهلية » :
أرجو وآمل أن تدنو مودتُها
وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
ويمثل هذا البيت ذروة التأزم في الانفعال والقطيعة على السواء ، ويدل البيت :
أمستْ سُعادُ بأرضٍ لا يبلّغُها
إلا العتاقُ النجيباتُ المراسيلُ
على القطيعة النهائية لصعوبة التواصل المكاني فهي بعيدة المنال » في أرض بعيدة « لا يمكن أن يصل إليها إلاّ كرام الإبل.
القسم الثاني :
ولن يبلّغَها إلا عُذافِرةٌ
فيها على الأينِ إرقالٌ و تبغيلُ
من كلِ نضَّاخةِ الذفرى إذا عَرِقتْ
عُرضتُها طامِسُ الأعلام مجهولُ
ترمي الغيوبَ بعيني مفردٍ لهقٍ
اذا تَوَقَّدتْ الحِزَّانُ والميلُ
ضَخْمٌ مُقَلَّدُها ، عَبْلٌ مُقَيَّدُها
في خَلقِها عن بنات الفحلِ تَفضيلُ
غَلباءُ وَجناءُ علكومٌ مذكرةٌ
في دفّها سَعةٌ قُدَّامها مِيلُ
وجلدُها من أطومٍ ما يُؤيِّسهُ
طِلْحٌ بضاحية المتنينِ مهزولُ
حرفٌ أخوها أبوها من مهجنةٍ
وعمُها خالُها قوداءُ شمليلُ
يمشي القُرادُ عليها ثم يُزلقُهُ
منها لَبانٌ وأقرابٌ زهاليلُ
عيرانةٌ قُذفتْ بالنحضِ عن عُرُض
مِرفقُها عن بنات الزورِ مفتولُ
كأنَّ مافاتَ عينيها ومذبَحَها
من خَطمِها ومن اللحيينِ بِرطيلُ
تُمِرُّ مثلَ عَسيبِ النخلِ ذا خُصَلٍ
في غارزٍ لم تَخَوَّنْه الأحاليلُ
قنواءُ في حُرتيها للبصيرِ بها
عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدينِ تسهيلُ
تَخدى على يَسَراتِ وهي لاحقة
ذوابل مَسُّهنَّ الأرضَ تحليلُ
سُمرُ العجاياتِ يتركنَ الحصا زِيماً
لم يَقِهِنَّ رؤسَ الأكمِ تنعيلُ
كأنَّ أوْبَ ذراعيها إذا عَرِقتْ
وقد تلفعَ بالقُورِ العَساقيلُ
يوماً يظل به الحرباءُ مُصطخداً
كأنَّ ضاحية بالشمسِ مملولُ
وقال للقومِ حاديهم وقد جعلت
وُرْقُ الجَنادبِ يَركضنَ الحصا قِيلُوا
شَدَّ النهار ذراعا عَيطلٍ نَصَفٍ
قامت فَجاوبها نُكدٌ مَثاكيلُ
نَواحةٍ رخوةِ الضبعينِ ليس لها
لَما نَعى بكُرها الناعونَ مَعقولُ
تَفري اللّبان بكفّيها ومدرعُها
مُشقّقٌ عن تراقيها رَعَابيلُ
ويبدأ القسم الثاني بالبيت الخامس عشر ، ويمتد حتى البيت الرابع والثلاثين ، ولا يمثل هذا القسم قطيعة مع بناء القصيدة المكونة من ثلاث وحدات ، وإنما يمثل تلاحماً فنياً ودلالياً ، إنَّ مقطع المحبوبة أوصل الشاعر إلى مرحلة اليأس ، ولكن الشاعر ليس عاجزاً تماما عن اتخاذ موقف إزاء ما يعيش فيه، ولكنه غالب يأسه ، وتحرك نحو التواصل ،ولكنه هذه المرة ليس باتجاه المرأة ، ولكنه باتجاه محبوب من نوع آخر.
إنَّ الرحلة تمثل فاصلاً بين طورين ، طور سابق زماناً ومكاناً ، وطور لاحق زماناً ومكاناً، ولعل امتطاء الناقة تعبير عن حركة الزمن ، وإذا كان الطور السابق مبهرج في ظاهره ومعتم في باطنه ، وقد أسقم الشاعر ، وكاد أن يودي به إلى الهلاك ، فإنَّ هذا يعني أنَّ الشاعر يعيش قدراً كبيراً من التأزم وانعدام التوافق مع الآخر أو الآخرين ، إذن فالرحلة تقوده إلى أمر آخر يتجاوز به حالتي التأزم واللاتوافق ، وبتعبير آخر أنَّ الشاعر يريد الانتقال من حالة اليأس الكامل والخواء الحقيقي إلى مرحلة جديدة هي التواصل الايجابي وإذا كان الشاعر في المقطع الأول خاضعاً لإرادة الآخر فإنه مع « الرحلة » يقرر بإرادته اختيار الرحيل ، ومن ثم فإنَّ القصيدة تتحرك نحو الجديد ، وتتجاوز المألوف المعهود بالغدر والخيانة والإخلاف.
إنَّ قرار الرحلة يعني أنَّ الشاعر
ينتصر للتواصل على الانفصام ، وللحياة على الموت ، وللحركة على الجمود والثبات ،
ويتخذ الناقة »بوصفها
معبراً عن الزمن «
وسيلة لتحقيق هذه الغايات المتعددة ، وفي ضوء هذا يمكننا القول إنَّ
القصيدة تبدأ من البسيط إلى المركب ، لأنَّ
المقطع الأول « مقطع المحبوبة » يعبر
عن الخواء ، أما مقطع
« الرحلة » فإنه يمثل امتلاء نسبياً ، ولكنه مثقل بالتأزم والقلق ،
لأنَّ
الشاعر ينتقل فيه من الاستسلام إلى الحركة ، ومن ثم ينتقل الشاعر إلى المقطع الثالث
الذي يمثل الامتلاء الكلي ، وذلك من خلال التوحد مع الجماعة ، ومن ثم كسر التأزم
إلى التوافق.
ويخلع الشاعر في مقطع الرحلة صفات على الناقة يجعل منها كائناً أسطورياً وذلك من خلال التشبيهات العديدة التي تتوالى وتتعاقب بطريقة فريدة ، وكأنَّ الحديث عن الناقة وقوتها إنما هو حديث عن صاحبها وراكبها ، ويوحي في الوقت نفسه أنَّ الناقة تمثل وسيلة وحيدة للانتقال بصاحبها من حالة إلى أخرى ، بمعنى أنَّ الشاعر يجسد خصائص « القوة والسرعة والقدرة على التحمل » في الناقة وصاحبها ، كما يؤكد دورها في الانتقال من موقف وطور إلى آخر.
ويعبر الشاعر عن خصائص الناقة الجسدية والذاتية من ناحية والمناخ الذي تتحرك فيه من ناحية ثانية ، ففي الأبيات : 15 إلى 20 تحدث عن صفات الناقة الجسدية ، ثم ينتقل في البيت 27 إلى تقديم صورة عن قساوة الحر في الصحراء ، فكأنَّ الناقة تمثل نقيضاً
للطبيعة فهي كائن أسطوري جبار منتصر ، إذ تحقق قرار إرادة الانتقال من حالة الانفصام
إلى حالة التواصل ، وهي قاهرة للطبيعة بصبرها وصلابتها وإصرارها ، بينما تقف الطبيعة عائقاً تماماً كما كان المجتمع ممثلا في « سعاد / الجاهلية » مؤشرا على القهر.
ومن الجدير بالذكر أنَّ العلاقة بين الأنا « الشاعر » والآخر « المؤنث / سعاد » في مقطع المحبوبة علاقة تنافر وتعارض ، ولذلك كان حضور الأنا والآخر معاً ، وإن كان بدرجات متفاوتة ، كانت الغلبة فيه للآخر ، أما المقطع الثاني فإنَّ الأنا « الشاعر » يكاد يختفي إزاء الآخر «المؤنث / الناقة » ولكن النص الشعري يوحي بتوحدهما معا ، ولكنه توحد وهمي ، لأنَّ لغة الشكوى ظلت طاغية في هذا المقطع ، لأنَّ الشاعر لا يزال يعيش حالة القلق والتأزم بسبب طبيعة صحراوية قاسية ، وهي دال على الحدث والهشاشة ، وبسبب مجتمع يتخلى عن الشاعر بسبب الخوف من مسئولية الحفاظ على شخص قد أهدر دمه.
إنَّ الشكوى طاغية في المقطعين الأول والثاني لأنَّ المحبوبة « سعاد / الجاهلية » تخلت عن الشاعر تماماً ، كما أنَّ قبيلته و خلانه قد تخلو عنه كذلك لأنَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ، فضلاً عن قساوة الحياة وصعوبتها ، وقساوة الصحراء ومتاهاتها.