كامل الكيلاني رائداً لأدب الطفل العربي 

كامل الكيلاني رائداً لأدب الطفل العربي 

د. طارق البكري

docbakri@yahoo.com

المحاور الموضوعاتية في قصص الكيلاني

مقدمة:

 يُعتبر الأسلوب "المرآة الحقيقية إزاء عملية التعبير، بوصفها دالة على الشخصية ومعياراً لها"(106)، وهو في الأصل(107) السطرُ من النخيل وكل طريق ممتد، والوَجْهُ والمَذْهَبُ والفَنُّ وأَفَانينُ القَوْلِ، وقيل: إنَّ معنى الكلمة في الأصل اللاتيني هو "القلم"(108).

 ويرى الباحثون أننا "إذا عُدنا إلى القواميس فسنرى أنها تقترح علينا ما لا يقل عن (20) تعريفاً لهذه الكلمة، يذهب أهمها من طريقة التعبير عن الفكر إلى طريقة العيش، مروراً بالطريقة الخاصة لكاتب من الكتاب، أو لفنان، أو لفن، أو لثقافة، أو لجنس، أو لعصر. فالأسلوب يعرف ضمن حدوده بالسِّمة الخاصة لفعل من الأفعال، ويمكن أن نتصور –كما يرى هؤلاء- الأسلوبية العامة: دراسة للعلاقات بين الشكل وبين مجموع الأسباب الإخبارية"(109). والأسلوب بالمفهوم البسيط وبعبارة مختصرة: "طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة"(110).

 فهو "وجه بسيط للملفوظ تارة، وهو فنٌّ واعٍ من فنون الكاتب تارة أخرى، وهو تعبير عن طبيعة الإنسان تارة ثالثة، ولذا فهو يتعدى دائماً الحدود التي يدعى بأنه انغلق عليها"(111). وهو أيضاً "الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني، أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار، وعرض الخيال، أو هو العبارات اللفظية المنسقة لأداء المعاني"(112).

 وعلى ذلك، فإنّ الأسلوب رغم تعدد تعريفاته هو صورة تمثل طريقة التعبير الخاصة لدى الكاتب، المميزة لـه عن غيره، وهو نمط كتابي خاص يسير عليه المؤلف ويتعدى الشكل السردي إلى الشكل الفني والمحتوى والتركيب، ولعل اختلاف الباحثين في وضع تعريف موحد يعود لاتساع معنى الكلمة وأهميتها وربما غموضها في وقت واحد. ويقصد بالأسلوب هنا طريقة المؤلف في وضع قصصه ومميزاتها وخصائصها من حيث الشكل والمضمون.

الكيلاني يحدد أسلوبه:

 لم يكن كامل كيلاني يسلك طريقه دون هدف، ولم يترك قلمه يسير على غير هدى، بل كان منذ أن قرر خوض غمار الكتابة للطفل، يسعى لاكتناه الطفولة وسبر خباياها، والتعاطي معها ليس على أساس أنّ الطفل مجرد وعاء نلقي فيه ما نشاء؛ بل من خلال إدراك واعٍ للطفولة وخصائصها واحتياجاتها وتنوعها..

 والكيلاني لم يترك الباب مفتوحاً للتأويل، بل خطَّ لنفسه منذ البدء أسلوباً مميزاً، جعله يمثل هذه العلامة الفارقة، وينال تقدير النقاد في عصره، ويُسجل كرائد لأدب الأطفال في مصر والعالم العربي.

 وليس عسيراً على الباحث في تراث الكيلاني أن يميِّز الملامح الكيلانية الخاصة، وأن يجسِّدها في إطار آرائه التي سطَّرها بنفسه، ليريح الباحثين من جهة، وليقدم للأدباء المتخصصين بأدب الطفل من بعده طريقاً واضحة تسهِّل لهم الصعاب، وتبين لهم الأفضل الذي رآه يتواءم ويتوافق مع عالم الطفولة.

 وتشير معظم المصادر التي تناولت أدب الطفل عند الكيلاني إلى قصة –أو أسطورة- واحدة اعتبرها منهجاً لأسلوبه، حيث "بلور تصوراته الأساسية في الكتابة للطفل من خلال هذه القصة"(113)، التي وردت أساساً في مقدمة إحدى قصصه(114)، ثم تناقلها الباحثون لأهميتها في تحديد الأسلوب الكيلاني، وقد علق الكيلاني على هذه القصة في بعض كتاباته وأحاديثه(115)، التي يمكن من خلالها التوصل إلى جملة من المسائل التي تحقق هذا الأسلوب وتوضحه.

تقول القصة (أو الأسطورة) كما رواها الكيلاني(116): إن ثلاثة أمراء، أشقاء، خرجوا يتنافسون في مهر بنت عمهم السلطان، بعد أن تواعدوا على الاجتماع في مكان بعينه ليروا من يظفر بأنفس هدية للأميرة، فلما التقوا كشف أحدهم أنه ظفر بمنظار سحري يرى فيه الناظر كل ما يدور بخلده ولو كان في أقاصي الدنيا، أمّا ثانيهم فقط ظفر ببساط سحري، يحمل راكبه محلقاً به في الأجواء، فيبلغه غايته في لحظات يسيرة. بينما ظفر ثالثهم بتفاحة شافية تبرئ من السم وتعيد الحياة إلى من أشرف على التلف. ونظروا في المنظار فرأوا الأميرة على فراش الموت تحتضر، فإذا بهم عندها في الحال بواسطة البساط السحري، وأدنوا التفاحة منها فشفيت على الفور، وحاولوا أن يعرفوا أيهم صاحب الفضل في شفائها؛ فلم يهتدوا إليه.

 ويعتبر الكيلاني أن في هذه القصة مثلاً دقيقاً يوضح ما يجب على من يتصدى للكتابة للأطفال. ويضع لذلك جملة من الملاحظات:

أولاً: تحبيب الكتاب للطفل يظفره بالمنظار السحري.

ثانياً: الأسلوب القصصي الساحر هو بساط الريح الذي ينقل القارئ إلى أبعد الآفاق الفكرية، على أجنحة الخيال البديع، محلقة في سماء الحقيقة دون أن يلحق به كلال ولا جهد.

ثالثاً: التفاحة الشافية تتمثل فيما تتركه القراءة من آثار نفسية رائعة تشفي من سموم الجهالة، وتبرئ من النزعات العارمة التي تقذف بصاحبها إلى الهلاك.

 وبذلك يقرر: أن تحبيب الكتاب، وتخيّر الأسلوب الصالح، وتثبيت الفضائل في نفس الطفل؛ هي الأهداف الثلاثة التي ترمي إليها تربية الأطفال بالقصص، ولا بد من اجتماعها لبلوغ الغاية المرجوة، كما اجتمعت هدايا الأمراء لشفاء الأميرة.

 ولا يلقي الكيلاني كلامه دون وضع آلية محددة دقيقة للتعامل مع الأدب القصصي الخاص بالطفل، حيث يعتبر القصة أداة للتربية على وجه الخصوص، ويرى الكاتب مربياً قبل أن يكون أديباً، فهو ينتهج أسلوباً قائماً على توضيح حقيقة الحياة للأطفال، ولذا فإنه كان حريصاً على تجنيبهم الأخطاء المعنوية، وقد عُني بتنشئتهم في إطار أسلوب تربوي معين، فهو يعتقد أن على طالب الإصلاح تعبيد الطريق، فالمهندس يُعنى أولاً بمتانة الأساس، والطفل عنده أساس الأمة، وما يراه الطفل في بدء حياته من انتصار للخير دائماً؛ يصيبه بصدمة عندما يكتشف في صباه الخديعة، ولهذا وضع الكيلاني الشَّر بجوار الخير، مصوِّراً الصراع بينهما…، وفلسفته في ذلك ليغرس في أنفس الأطفال حقيقة الواقع، وأن النصر للخيّرين الشرفاء والهزيمة للأشرار الأغبياء.

 هذا الواقع الذي آمن به الكيلاني، يقودنا إلى مسائل هامة، أرخت بظلالها على الأسلوب الكيلاني حتى غدا أسلوبه روح أهدافه، وغدت أهدافه روح أسلوبه(*)، ومن العسير حقيقة الفصل ما بين الكاتب وأسلوبه، فالأسلوب هو الرجل نفسه كما يقول عالم اللغة الفرنسي بوفون Buffon (1707م– 1788م)(118)

المحاور الموضوعاتية:

 قدم الكيلاني في نصوص متفرقة؛ خطوات عملية، وخطاً واضحاً محدداً للشكل والمضمون في الأسلوب الذي يرتئيه، من الظاهر إلى الباطن، ومن الإطار إلى الجوهر، وقد سارت خطته على خطين رئيسيين:

أولهماً : محاور تحدد القالب أو الهيئة التي يستقبل الطفل ويتلقى فيها قصته.

وثانيهما: محاور تحدد الأشكال المضمونية العامة للقصة.

 ونجد في المحورين تداخلاً واضحاً، حيث تتوزع الموضوعات على الشكل التالي:

- تسلية، متعة، ترفيه.

- فصحى سليمة والارتقاء بالطفل لغوياً بالتدرج وتعويده على المضمون اللغوي الفصيح.

- النطق السليم للألفاظ والعبارات واستخدام ألفاظ قليلة تتكرر في الأسطر والصفحات.

- تخير الأسلوب الواضح والسهل البسيط الذي يحبب الكتاب للطفل.

- تجنب البيان المشوّه (العامية).

- الإكثار من الصور الجاذبة.

- تجنيب الطفل الخطأ المعنوي وتثبيت الفضائل والمعاني الحميدة.

- التركيز على الآثار النفسية التي تبرئ الطفل من النزعات وتشفيه من سموم الجاهلية.

- نزع الملل وتبسيط المعنى في الأسلوب.

- مراعاة سن الطفل ورغباته والنزول إلى مستوى مداركه.

 ولا يسرع الكيلاني لتحقيق كل ذلك دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال، "ليجعل المربي همه في قصصه؛ قصة الرجل الذي يحمل الثور صاعداً وهابطاً دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب، فلما سُئل أجاب: تعوّدت حمل الثور منذ ولادته، وما زلت أكبر ويكبر ويزداد نمواً كل يوم زيادة قليلة، ولم أشعر بازدياد وزن الثور ولم أحسّ له ثقلاً حتى اليوم"(119). ولا يخفى ما تهدف إليه القصة من تدرّج مطلوب ينقل الطفل خطوة خطوة ليصل في النهاية إلى تشييد البناء الشامخ من حيث الشكل و المضمون، فالإنسان بطبعه يحتاج إلى من يرشده في طفولته ويقوده بسلام وسكينة نحو حياة أفضل بكل ما فيها من نجاح وتألق.

 وقد تحدثنا سابقاً عن الجانب الترفيهي، ويستمر هنا الحديث عنه كونه ركيزة هامة في أسلوب الكيلاني، حيث يقدم للأطفال "قصصاً خفيفة ظريفة"(120). ولا يمضي الكيلاني بعيداً دون أن يشرح مقصده، بل إنه يضع منظومة متكاملة، شكلاً ومحتوى، تجعل عناصر القصة خادماً للترفيه عن الطفل، بل يدعو القاص المربي إلى "أن يبدأ بتسلية الطفل متدرجاً به كل يوم تدرجاً بطيئاً، لا يكاد يشعر أن لـه أثراً (*)، مستعيناً على ذلك: بالصور الملونة الجاذبة، والشكل الكامل، والألفاظ السهلة، حتى إذا اطمأن إلى الأسلوب السهل، وامتلأت نفسه ثقة بقدرة الطفل على القراءة، انتقل به إلى المرحلة التالية، فمزج لـه التسلية بالفائدة، ثم عليه أن ينتقل به خطوة بعد خطوة، حتى يرى في فنون المعرفة وحدها متعة وتسلية لا يعدلها شيء من فنون المتع وضروب التسلية"(122). ساعياً من وراء هذا الجانب إلى "تحبيب الكتاب" لقلوب الأطفال.

 ونستنتج هنا جملةً المضامين الشكلية يسعى الكيلاني إلى إثباتها، وقد يكون بعضها من مهمة الناشر أكثر من المؤلف، ومع ذلك كان الكيلاني مهتما بالتفاصيل، ومنها:

 1- الصور الملونة الجاذبة.

 2- الشكل الكامل.

 3- الألفاظ السهلة المكررة.

 4- الأسلوب السهل.

 5- مزج التسلية بالفائدة.

6- التدرج بالطفل ليعشق القراءة وتصبح عادة ممتعة، لتظهر عليه بعد ذلك علامات الفصاحة.

7- الارتقاء بالطفل بأسلوب سهل بسيط يبعد عنه الملل والسأم.

 ونجد من خلال تتبع قصص الكيلاني أنه حرص في معظمها على الفكاهة والبساطة، بل قدم سلسلة حكايات فكاهية(123). وقد انطوت فكاهة الكيلاني على عناصر سارة ومشوقة ، إلى جانب الملابسات الباعثة على الضحك، "وإذا كان اللهو واللاواقعية من أخص خصائص العقول الصغيرة غير الناضجة؛ فإنهما - أي اللهو واللاواقعية - قلما ينفصلان عن الموقف الفكاهي الذي قدمه الكيلاني وبنجاح تام إلى الأطفال، وهذا يدل على وعي ومعرفة كاملين بخصائص الطفولة وبأصول منطق الضحك"(124)، كما يقول الباحثون. وهذا يشير إلى إحساس الكيلاني وإدراكه للعوامل النفسية التي تميل إلى اللعب أكثر من الجد، فيدخل إلى قلب الطفل من خلال هذا الجانب وهو الفكاهة ثم يتجه فوراً إلى عقله لتحقيق الغايات التي يسعى إليها.

 وفيما يتصل باللّغة؛ فإن كامل كيلاني كان يهدف في قصصه إلى الارتقاء بالطفل منطقاً وأسلوباً وتمكينه من "الفصحى السليمة" عبر الشكل الكامل للألفاظ، وتكرارها، بعد تخيُّرها من محاسن الكلام وأسهله، وشرح ما يراه صعباً على الطفل بكلمة أو عبارة ضمن معكوفين.

 وقد درس أحد الباحثين (125) قصص الكيلاني بهدف البحث عن الأسس التي قامت عليها، فخلص إلى أن أساسها الأول يقوم على "اللغة"، - وهذا ما يتفق مع الأهداف التي أوضحناها سابقاً من خلال المقدمات التي استهل بها الكيلاني بعض قصصه - فقد كان يرفض الأساليب الركيكة الضعيفة، ويَشِنُّ حرباً على العامية ودعاتها، وقد وصف أسلوب القصص التي كانت سائدة أيام نشأته بالأسلوب السقيم، وذلك في قوله: "كنا نقبل على قراءة الحكايات والقصص إقبالاً عجيباً، بالغة ما بلغت من الغثاثة والرداءة والفساد، وسقم الأسلوب وضعف العبارة… وقد كادت أساليبها الركيكة الضعيفة، وعباراتها السقيمة تزحم أدمغتنا وتفسد أسلوبنا"(126).

 وربما يكون ذلك من أبرز أسباب تركيز الكيلاني على اللغة وتخيّر الألفاظ والأسلوب، بل أكثر من ذلك، حيث كان مناصراً للعربية الفصيحة وجندياً من جنودها، لأنّ اللغة لبنة أولى وأساسية في الأمة، بل كان ينادي بأعلى الصوت إلى: تحبيب القراءة إلى الطفل وتمكين الفصحى من نفسه، وحمايته مما يغمره من البيان المشوّه المضطرب وتجنيبه - ما اعتقده - ذلك الشر المستطير من سيل العامية الجارف.. الذي يغمر الكثيرين من ناشئة اليوم ورجال الغد، فيقضي على مواهبهم الغنية، أو يكاد، في زمن حداثتهم، ويدعو لنؤمّن لهم بياناً عربياً خالصاً، يطبعهم على الفصحى منذ طفولتهم، حتى إذا كبروا صارت لهم الفصحى كما كانت لغيرهم، من أسلاف العرب سليقة وطبعاً، وأصبح البيان العربي متأصِّلاً في نفوسهم عادة وملكة، وتخلصوا من العجمة المتفشية بين شباب العصر وفتيته(127).

 ولا يطلق الكيلاني هذا النداء دون أن يشرح مقصده، فهو يحاور ويناور ويقتنص الطريق الذي يراه مناسباً فيقول(128):إن الطريق إلى تحقيق "الحلم الجميل" –كما يسميه- ميسور غير مستحيل، داعياً إلى مراقبة كلام الطفل في مستهل طفولته، فهو يلجأ مثلاً إلى تكرار الجمل كأنما يتثبت من المعاني في ألفاظها المكررة، ويتساءل: "لماذا لا نكتب لـه محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ لنثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً؟". ويعود ليتساءل: "ولماذا لا نكرر له الجمل برشاقة لنسهل عليه قراءتها؟".

 ويقرر بعد كل هذا جازماً: "ذلك أجدر وأليق، فإن لكل مقام مقالاً"، "فلا يزال المؤلف ينتقل في فكرته ويتدرج رويداً رويداً أو درساً درساً، على النسبة التي ينمو بها الطفل يوماً بعد يوم، بل على النسبة التي ينمو بها عقله كلمة بعد كلمة، وجملة بعد جملة"(129). ويبدو الكيلاني في كل ذلك حريصاً على اللغة الفصيحة، على أساس أنه مقاتل مدافع عن حصونها، ويعلن عن أسلوبه في حربه قائلاً: "أنا أحارب اللغة العامية التي يدعون إليها، أحاربها بكل ما أستطيع، ولكن أسلوبي في محاربتها: حرب البناء الذي يصنع التاريخ"(130).

 ويرفض الكيلاني بحزم الرأي القائل: إنّ كتابة الحوار القصصي بالعاميّة لا يضعف الأدب ولا يصبغه بصبغة محلية ضيقة، وحجته في ذلك: أن الكتابة وضعت لكي يفهمها الناس، وكلما استطاع الكاتب أن يُفهِم أكثر، كان نجاحه أكبر، والأمة العربية مختلفة اللهجات، ولكن تجمعها وتوحِّد بينها اللغة الفصحى الواحدة، وهي اللغة العربية، والصفوة المثقفة لا تفهم بغير الفصحى، ففي أي سبيل نضيع هذه الإمبراطورية الفكرية وبأي ثمن؟ لا شك أن حوار القصص يجب أن يكون باللغة العربية الفصحى، والذين يعمدون إلى جعل الحوار بالعامية الدارجة والمألوفة لكل شعب؛ لا يفعلون ذلك إلا عن ضعف وعدم إتقان اللغة، فلو أنهم كانوا متمكنين من لغتهم ما جاء حوارهم عامياً مبتذلاً(131).

بساطة اللغة في سلامتها:

 وبالعودة إلى قصص كامل كيلاني؛ نجده على العموم حريصاً كل الحرص على اللغة، وقد استطاع فعلاً أن يؤصل لنفسه طريقاً واضحة يمزج فيها ما بين اللغة والمعنى والهدف العام الذي يسعى إلى تحقيقه، لكن من الملاحظ عدم تحديده لسن معين للأطفال الذين تستهدفهم قصصه، لا على غلاف قصصه ولا في مقدماتها، باستثناء "قصص رياض الأطفال"، مما يحدث بلبلة حول لغة السنّ المراد مخاطبته، ويظهر أن الكيلاني اندفع وراء أهدافه اللغوية، حتى أصبحت "اللغة عنده، وبشكل مستمر، أعلى من مستوى الحكاية، التي قد تكون بسيطة جداً، ومن ثم أعلى من قدرة القارئ الطفل المتوقع على التحصيل"(132). والدليل الذي نراه يبلغ حد الافتعال، هو ما نجده في نهاية بعض القصص من حشد لأسماء وكنى وألقاب لم تعد مستخدمة أو هي لا تناسب مستوى قارئ هذه القصص.

 ويمكن ملاحظة ذلك في القصص العلمية(133)، حيث يقوم الكيلاني بتقديم معاجم صغيرة لطائفة من أسماء الحيوان وكناه وألقابه "ليرجع إليها المدرس عند الحاجة"(134). ويعتبر الباحثون "أن التوجه إلى المدرس بتلك الأسماء والكنى والألقاب لا يبرر إيرادها بل قد يؤدي بالمدرس أو يغريه بالانحراف بتلك القصص العلمية عن غايتها، فيتحول تدريسها إلى تسابق لغمر الذاكرة وحفظ هذه الكلمات المهجورة في غير طائل، وماذا يفيد المدرس أو الطفل من معرفة(*) أن ابن عرس يسمى السرعوب وأن الأرنب يسمى أبا نبهان..، وأن الذئب أبو جعدة، وعسعس، وأنثاه تسمى جهيز؛ هذا ضياع للجهد وإغراء بالتحريف وإفساد للذوق"(136).

 ومع الاعتراف بقيمة هذه المعاجم ، إلاّ أن وضعها ملحقة داخل قصصه موجهة لأطفال في مرحلة تعليمية مبكرة؛ قد يصرف القارئ الصغير عن القصة نفسها، فتتحول من عمل أدبي إلى مجرد نمط تعليمي. وهذه القصة ربما تثير الجدل حول: هل يمكن تجاوز الهدف فيما يكتب للأطفال أم أن الهدف هو صلب وروح أدب الطفل؟ وعلى العموم فإنّ خلط الأوراق في هذه المسألة أو إعطاء نتائج مسبقة لا تفيد هذا الشكل القصصي، ولكن إغراق القصص الأدبية بالألوان التعليمية، يحرف القصة كعمل إبداعي عن أهدافها خصوصاً وأن الكيلاني لا يكتفي بذلك فقط، بل نراه يلحق بعض القصص(**) بمعلومات علمية بحتة، مثلما قدم في قصة "النحلة العاملة"(138) قائلاً: "قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية ليكون مرجعاً للمدرس في تدريس قصة النحلة العاملة"، وفي المقال معلومات كثيرة قد لا يعرفها كثير من طلاب الجامعات والخريجين غير المتخصصين، فكيف بأطفال صغار أقحمت المعلومات العلمية المعمقة في قصة يريدون التمتع بها؟ ألا يذكّرهم هذا بمعاناة الواجبات المدرسية المرهقة؟ كما إن أسلوب المقال صعب ومعقَّد كقولـه: "ترى الفقرة الأولى من أجزاء النحلات العاملة الأمامية كبيرة جداً، وشكلها مربع أو مثلث مقلوب، وقد تتصل أحياناً بالزاوية الخارجية لقاعدتها فتشبه أذناً صغيرة، أما بطن النحل فهو مؤتلف من سبع عقد للذكور، وست عقد للإناث العاملات"(139). ولا يخفى أن هذه المعلومات المقدمة بأسلوب علمي بحت؛ قد ينفر منها المدرس قبل التلميذ، وكان الأحرى بالكيلاني أن يفصل هذه المقالات في كتاب معجمي خاص، لا أن يفرضها على القارئ الصغير، وربما تجعله يبتعد عن القصة كلها، أو على الأقل عدم الالتفات إلى هذه المقالات والمعاجم وإهمالها واعتبارها زائدة لا أهمية لها..

 ونشير أخيراً إلى أن الكيلاني كان يعمد أحياناً في ختام بعض قصصه إلى وضع قصائد لشعراء قدامى، نجد في ألفاظها ما يعجز الطفل على فهمها، فضلاً عن بعض معانيها الموحشة، التي ينفر منها الكبار قبل الصغار، ثم يقوم الكيلاني بعد ذلك بشرح معاني ألفاظها، ومثال ذلك قصيدة في وصف العنكب(140):

وقانـص محتقـر ذميـم كُـدْرِيِّ اللوّن أغبر قَتِيمِ

مُشْتَبِكِ الأعجـاز بالحَيزوم ومخرج اللحظة بالخيشومِ

أضْيَقَ أرضاً من مقام المِيمِ أو نقطةٍ تحت جناحِ الجيمِ

ليـس بقعـديد ولا نـؤومِ ولا -عن الحيلةِ- بالسَّؤُومِ

لا يخلط الهمَّة بالتَّنوِيم

 ورغم ما وضعه الكيلاني من شروحات للمفردات على النص الشعري، يظل هذا النص، بمفرداته ومعانيه، شديد الصعوبة، ثقيلاً على النطق والسمع، فضلاً عن أن معظم الألفاظ التي استخدمها الشاعر قديمة ولا تستخدم في عصرنا إلا نادراً، كما إنها قد تكون مهجورة.. ولا فائدة للطفل من معرفتها في هذه السن المبكرة..

تكرار اللفظ :

 إن تكرار اللفظ وتشكيله كاملاً كان واضحاً ومنطبقاً على جميع قصص الكيلاني فهو يعمد إلى هذا التكرار عمداً وبوعي.

 ففي قصة "الغراب الطائر"(141) مثلاً، يردد المؤلف مجموعة كلمات في صفحة واحدة فقط:(142) (شائعة – شائعات) 5 مرات – (أنسى) مرتين – ثم يردد كلمات في صفحات متفرقة مثل: (غراب – الزوجة – طائر – الصامت ..) وفي قصة "جلفر"(143) نجد تكراراً لكلمة (ربَّان) أربع مرات في صفحة واحدة(144)، كما يكرر كلمات عربية في صفحات متفرقة: بضائع – سفينة – لصوص – زورق – جزيرة..) وغيرها كثير.

 ويحرص الكيلاني على تفسير بعض الكلمات التي يعتقد أنها أعلى من سن الأطفال الذين يكتب لهم القصة، وهو يقطع القصة عادة ويضع شرح الكلمات ضمن معكوفين، معتقداً أنه ييسرها على الطفل فيما لو وضع الشرح في هامش الصفحة، ونجد مثلاً في قصة "ابن جبير"(145) كلمات عديدة يقدم لها شرحاً فهو يقول مثلاً(146): "المراكب التي يصرفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة (متضامة) الإنشاء والتركيب". وهو أيضاً يشرح بعض الكلمات في الصفحة ذاتها: جوز النارجيل (الجوز الهندي).. يفتلون منه أمراساً (حبالاً). وفي القصة نفسها كلمات كثيرة مثل: النواتي (الملاحون)، ماء زعاق (مرُّ غليظ لا يُطاق شربهُ)، العفارتة (العفاريت)(147)، يضحل (يقل)(148)، جِبَاب (آبار)(149)

 وفي قصة "جبارة الغابةِ"(150) نجد الكيلاني يشرح الكلمات بشكل أكثر تفصيلاً، مثل: أثناء خَطرتهِ (في خلال مروره)، النسيمُ البليلُ (المُحَمَّلُ بالنَّدىَ، المُبَلَّلُ به)(151)، تغرِّد على أفنانِها (تغني على أغصانها)، جمجم النسيم (تكلم خافت الصوت)(152)، أوينا إليك (اتخذناك لنا منزلاً)، تلوذ (تلجأ وتحتمي)، يتلمسها (يتطلبها مرّة بعد أخرى)، لا يظفر بطائل (لا يرجع بفائدة)(153)، صوته الأبح (الغليظ الذي فيه بحة)(154)

 وهذا الأمر كثير مطرد في جميع قصص الكيلاني، فقد قدم لغة أعلى من لغة الطفل المستهدف وإن حاول شرح بعض مفرداتها، بنية نبيلة من جهته، جُوبِه الكيلاني بسببها بنقد شديد، خصوصاً وأنّه لم يحدد المراحل العمرية التي يكتب لها على كل كتبه بشكل واضح، باستثناء مجموعة واحدة عنوانها "قصص رياض الأطفال" كما أشرنا من قبل، "أما كتاباته الأخرى فقد تركت دون توجيه، أو ليحددها القارئ بالنظر لحجمها أو عنوانها أو موضوعها، والنصُّ على المرحلة العمرية ليس لمصلحة الطفل المتلقي فحسب، إنه مطلوب المؤلف أصلاً"(155)، لهذا فقد جزم بعض الباحثين(156) أنّ هذه المسألة لم تكن محسومة عند الكيلاني، وليس هذا فحسب بل اتهم الكيلاني بأنه لم يشعر بأهميتها، وأول دليل وجدوه في لغة السرد للاعتناء بالهدف التلقيني وتغليبه على الهدف التعليمي، في اعتبارها - أي لغته - أعلى من مستوى الحكاية ومستوى القارئ، وقد قادهم ذلك للتأكيد "أن الكيلاني لم يختلف في شيء عن أدباء جيله الذين كتبوا للكبار؛ في أنهم يربطون بين أدبية الأسلوب وحشده بالمفردات غير الشائعة أو الكلمات الصعبة والحرص على اصطناع إيقاع لا يتطلبه المعنى ويحصلون عليه بالترادف أو السجع مثلاً"(157).

 ويلاحظ ذلك في كثير من القصص، منها مثلاً في قصة عفاريت اللصوص(158): "وكان الزارعُ يُحدِّثُ بَعضَ أصْدقائه –ذات يوم- بأنه عازم على قَتل حماره، فسَمِعَ الحِمارُ كلامَ سيِّدهِ –لحسن حظُه- فخاف على نفسه، وفكر في الهرب من بيت سيده إلى إحدى الغابات..".

 ومثلها في "قصة لا تنتهي" وهي من سلسلة "جُحا قال يا أطفال": "حكاية حدثت في بلدٍ من البلدان، في زمن من الأزمان، كان يعيش ملك عظيم الجاه والشان، له جبروت وسلطان، ظل هذا الملك يرعى قومه في بلده البعيد في سلام وأمان.." "لم يكتف بما عنده من موهبة، وما أوتي من معرفة طيبة، لم يدخر وسعاً في المطالعة والمراجعة، وفي المحاورة والمشاورة، لَبِثَ يَمُدُّ عقله بمختلف الآراء الواسعة والمعلومات النافعة، أحاط في مجالات الحياة بالأخبار الدقيقة، والحقائق الوثيقة.." (159).

 ونشير هنا إلى مسألة تتعلق أيضاً باللغة وهي أن المؤلف الذي كان حريصاً على شرح بعض المفردات؛ نراه كثيراً ما يغفل عن شرح كلمات تبدو أكثر صعوبة من الكلمات التي يقوم بشرحها، ففي قصة "بطولة سوسنة" التي تبدو من حيث شكلها وفكرتها موجهة لأطفال صغار السن – دون أن يحدد المؤلف جمهورها – نجد جملاً قد يتعذر فهمها على من هم في سن الشباب فما بالك بالناشئة، ونورد منها على سبيل المثال:

 "أرض قاحلة غبراء..، جدبة جرداء".

 "كلما أحسَّت الثعالب والذئاب عضة الجوع، لم تجد ما يسد جوعها، ويروي ظمأها، اشتد بها الحقد على أهل الوادي البهيج"(160).

 - "لا تغتروا بالقوة وحدَها، فربما كان لهذه الحيوانات الوادعة، الأنيسة، تفكير سليم، وتدبير هادئ، يُحيل انتصاركم الظاهر إلى هزيمة منكرة، على الرغم من القوة والبطش، يحسن أن تستعملوا الحيلة، وتصطنعوا المكيدة ومن الحيل والمكايد ما هو أنفع من القوة وأجدى"(161).

 ولا يخفى صعوبة هذه الجمل السابقة من حيث المبنى ومن حيث المعنى، ولو أردنا إحصاء مثل هذه العبارات لاحتجنا إلى سفر كبير، وذلك لتواردها في مواقع كثيرة في القصص، ومنها قصة "بطولة سوسنة"(162).

 ورغم ذلك، لا بد من التأكيد على أن المؤلف، ومنذ البدء، كان من بين أهدافه الارتقاء بلغة الطفل وزيادة حصيلته اللغوية، لكنه بالغ في كثير من قصصه حتى كاد ينحرف عن حبكة القصة نفسها فتحول من أثر أدبي إلى أثر تعليمي، أو بالأحرى تلقيني كما أشرنا سابقاً.

 وكان الكيلاني مهتما بتقديم قصصه بثوب أنيق جاذب، كما كان حريصاً على ربط محتوى القصة بالصور المعبِّرة الموضحة، وخصوصاً في مراحل الطفولة المبكرة، ويوضح الكيلاني سبب اهتمامه بذلك في مقدمة قصة "الحمار القارئ" بقوله: "نستقبل هذه المجموعة المبدعة، أطفال الرياض في مطلع تعليمهم، فتفتنهم ألوانها الجاذبة وتعينهم صورها المعبِّرة على فهم خلاصة القصص، فيغريهم ذلك بالإسراع في تعلم القراءة، ليتعرفوا من الألفاظ تفصيل ما فهموه من التصاوير، فهي خير ما تزدان به رياض الأطفال من زهرات، وهي أسلوب مبتكر في تحبيب القراءة لأطفال الروضة، يقوم على أساس تربوي ناجح: في تعليم الأطفال القراءة وتكوين الجمل، مستعينة على تفهيم المعاني بالتصاوير المعبرة الفاتنة التي تسترعي الانتباه وتثير التطلع"(163).

 ونجد أن الكيلاني حرص في قصصه على هذا الأسلوب؛ وإن كان العثور على القصص التي طبعت في حياته وتحت إشرافه المباشر أمراً شديد الصعوبة، فما وصلنا كان من طبعات متأخرة(*)، بعضها تجاوز الطبعة رقم (20)، لكننا نجد معاصريه يشيدون بتلك الطبعات، فهي برأيهم "متقنة الطبع، جيدة الورق، جميلة الرسوم"(165). كما كانت قصصه –كما يقول معاصروه أيضاً- من حيث الطباعة" في غاية الغايات من الرونق والإتقان"(166).

البناء النفسي:

 ربما يكون هذا المحور من أهم الأجزاء المميزة للأسلوب الكيلاني، وهو يتكامل مع السمات السابقة بشيء من الاتساع والرحابة.. وهو ذو أبعاد نفسية وتربوية واجتماعية وفكرية متصلة حيث يصعب الفصل فيما بينها، بل على الأصح؛ نجدها تتناغم وتتآلف وتتناصر في سبيل تنمية الإنسان –الطفل، وبنائه شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال بواسطة القصة المبتكرة والأسلوب الحيّ المزدحم بالنشاط.. وهنا نجد ثمانية جوانب رئيسية تظهر في البناء النفسي والمعنوي من حيث:

1.توفير مادة توضح للطفل الخطأ وعواقبه وتربِّيهِ على الابتعاد عن الخطأ..

2.وليس ذلك فقط، بل تعمل القصص على غرس المعاني الحميدة عبر مُثل وأحداث درامية معينة تساهم في تنقية ذهنية الطفل أولاً من الشوائب التي قد تعلق به في سني عمره الأولى والعمل على وضع مفاهيم عليا وجعلها جزءاً لا يتجزأ من ذاته.

3.ويرى الكيلاني أن ذلك يحتاج إلى الاهتمام بما تُحدث القصة من آثار نفسية إيجابية تبرئ الطفل من النزاعات وتشفيه من سموم الجهالة، وبذلك يخرج الكيلاني عن كونه أديباً وكاتباً فقط، بل عالماً وخبيراً بالطفولة وعالمها، مدركاً لنفسية الطفل وحاجاته. ويبدو ذلك واضحاً من خلال:

4.مراعاة سن الطفل ورغباته.

5.النزول إلى مستوى مداركه وتزويده بالعلوم.

6.تقديم كل ذلك بأسلوب يحبب الكتاب للطفل.

7.التركيز على اللغة كأداة توصيل هامة لتعويد الطفل على المضمون اللغوي السليم.

8.يبقى أن نشير إلى أن الجانب المضموني للأسلوب عند الكيلاني راعى فيه قضية جوهرية وهي ما يصيب الطفل عادة من ملل أثناء القراءة، ولذلك كان الكيلاني يأمل بنزع ملل الطفل القارئ من خلال تبسيط المعنى في الأسلوب..

 لكنّ السؤال هو: هل نجح الكيلاني فعلاً في تضمين قصصه كل هذه الجوانب التي كان يرددها دائماً في كتابات وأحاديث كثيرة؟ أم أنه نجح في بعض القصص وأخفق في بعضها الآخر؟ وقد تكون هذه المسألة محوراً لمجالات دراسية أخرى إذ ليس ممكناً معالجتها دون فحص جميع قصص الكيلاني واستخراج القيم المستفادة منها من خلال استطلاع رأي عينة من الأطفال للكشف عن مدى ملاءمة هذه الإشارات لنفسية الطفل والتأكد من رجع الصدى الحادث..

 وقد تعرض بحث مطوّل لجوانب من هذا المحور(*)، وجاءت نتائجه لتحدد مجموعة من الحاجات التي قام الكيلاني بتلبيتها من خلال قصصه على النحو التالي:(168)

جدول رقم (1)

حاجات الطفل من القصة

الحاجات

عدد التكرار

النسبة المئوية

1- العقلية

702

52.6%

2- الدينية

4

0.3%

3- الاجتماعية

239

17.9%

4- النفسية

373

28%

5- الفسيولوجية

16

1.2%

المجموع

1334

100%

 

 ونجد الكيلاني حريصاً على هذا الجانب المضموني ، وكان يؤكد أهمية الجانب النفسي معتبراً بعض مجموعاته القصصية: "خلاصة رائعة لحقائق الحياة، ومعرضاً جميلاً تتجلى فيه نزعات النفس الإنسانية، وتظهر أخلاقها ورغباتها في الإساءة والإحسان"(169).

 ويؤكد الكيلاني على دور بعض قصصه في التركيز على الآثار النفسية وتثبيت الفضائل وذلك عندما يقول للطفل القارئ: ".. وأنت إذا تدبرت هذه الأقاصيص حق التدبر، وجدتها موافقة لما يظهر حولك من أخلاق الناس وغرائزهم، فهي إنما تصف طباعاً مكينة، وغرائز أصيلة ثابتة تلابس الناس، وتتصل بهم في كل عصر ومصر، وسترى في هذه المجموعة التي تخيرتها لك: أمثلة عليا تحبب إليك الفضيلة، وتبين لك – من مزاياها وحسن آثارها- ما يزيدك تمسكاً بما طُبعت عليه من نبيل الخِلال، وكريم الخِصال، وحميد السجايا، ومحمود الطبائع، ومَرضِّي الأخلاق"(170).

 ويلاحظ ذلك في جميع قصص الكيلاني التي اطلعنا عليها، وإن اختلفت النسبة فيها وتنوع الأسلوب من مباشر إلى معرِّض إلى خفي. وكثيراً ما نجد تعليقات من داخل النص أو من خارجه تشير إلى ذلك مثل قوله: "لقد دفعك الفضول إلى مثل ما دفعنا إليه ولقيت من الجزاء ما لقينا وهذه عاقبة كل من يتدخل فيما لا يعنيه"(171).

 وكان يحث الطفل على المثل العليا والأعمال المناسبة لسنه، ويشجعه على العلم والصداقة والتعاون، وقال في ذلك:

 "إن طفلين صغيرين كانا في مثل سنك وذكائك، عاشا في مدينة "بغداد" في منزلين متقابلين على نهر "دجلة"، وقد جمعتهما مدرسة واحدة كما جمعهما حيٌّ واحد، وبلدٌ واحد وزمن واحد، وكان كلاهما محباً للدرس مقبلاً على العلم لا يقصر في أداء واجب مدرسي، ولا يقرُّ قراره حتى يسبق لداته أو أترابه، ويبذُّ أقرانه وأصحابه في طلب العلم وتحصيله، والاستزادة من فنون الثقافة وأفانين المعرفة، أي: أساليبها وأجناسها وطرقها"(172).

 واهتمام الكيلاني وحرصه على تزويد الطفل بالعلوم والمعارف لم يكن مقتصراً على بعض المعلومات التي يقدمها في قصص متفرقة، بل أدى حرصه هذا إلى وضع مجموعة خاصة من عشر قصص تحت عنوان قصص علمية*.

 وقد لا يكتفي الكيلاني بالقصة نفسها، حتى يتبعها بمادة علمية خصبة، مثلما نجد في نهاية قصة "مخاطرات أم مازن" حيث يقدم "إلمامه بالنمل"(174) يقول في مقدمتها: "قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية ليكون مرجعاً للمدرس في تدريس قصة أم مازن"، وهي تحوي معلومات غزيرة جداً، ومن عناوينها: خواص النمل – أجسام النمل – طوائف النمل – مزايا النمل – مساكن النمل – تلاقح النمل – جماعات النمل – آراء بعض الباحثين – النمل والحرارة – نمال البرازيل – نمل العسل.

 وهكذا نلاحظ مدى اهتمام الكيلاني من تنوع أهدافه في مضامين قصصه، وسعيه الحثيث لبناء جيل مثقف قوي متماسك. ومن قوله في هذا الإطار موجها كلامه لابنه "رشاد" كواحد من أطفال العرب:

 ".. آليت على نفسي أن أسليك وأثقفك، وأقرب لك – جهد ما أستطيع- تلك الثمار اليانعة…، أما جهد الابتكار والإبداع فقد ألقيته على عاتقك لتؤديه إلى أطفال جيلك القادم، متى كبرت سنك وكملت ثقافتك، وليس في قدرتي أن أزيد على وضع الأساس الصالح، أما البناء فقد وكلته إليك، وأنا على ثقة أنك محقق هذا الرجاء، ومؤدٍّ هذا الدَّين – متى أصبحت في عداد الرجال الراشدين – إلى أبنائك وحَفَدَتِك على أحسن وجه وأوفى غاية"(175).

 من أجل ذلك يقرر الباحثون "أن مجموعات الكيلاني تسعى في النهاية لتحقيق هدف تربوي وآخر تعليمي، حرص عليهما الكيلاني، أما الهدف التربوي فغايته غرس الفضائل والمثل العليا التي ارتضتها الجماعة، وتوجيه الطفل العربي نحو أنماط السلوك والقيم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، والتمسك بكل ما هو إيجابي منها ونبذ كل ما هو سلبي، وذلك من خلال منظور وطني قومي وإسلامي.. أما الهدف التعليمي فغايته أن يصل الطفل بتراثه الأدبي من ناحية، وينمي ثروته اللغوية المضبوطة ضبطاً صحيحاً من ناحية أخرى بعد شرح ما يستحق منها"(176).

 ولا نريد التوسع كثيراً في هذا الجانب فمجاله خصب ورحب، وسوف نتناول بعض التفاصيل منه في الجانب التطبيقي من البحث.

لكن قبل الانتهاء من هذا الفصل نتوقف عند بعض النقاط التي نرى أهمية الوقوف عندها:

1.لا نستطيع عموماً تحديد منهج معين سار عليه الكيلاني في كل قصصه وذلك لاختلاف المراحل العمرية وما يناسب كل مرحلة من أسلوب وخطة تناسب عقول أطفال المرحلة.

2.لكن يمكن دراسة القصص بعد تقسيمها حسب المراحل العمرية مع العلم أن الكيلاني لم يحدد تماماً العمر المقصود بكل قصة، باستثناء مجموعة واحدة خاصة برياض الأطفال، لكن يمكن وضع خطوط تقريبية فيما بين قصصه بناء على ما رتبه بنفسه وبناء على اللغة المستخدمة.

3.ولا بد من الاعتراف أن لغة الكيلاني وطريقة استخدامه للصور البيانية المتنوعة والجمل الرشيقة الخفيفة والأنغام المتجانسة في فواصل الجمل تجعل النصوص كتلة من الموسيقى المشحونة بالأسرار.

4.وهذا لا يعني أن أسلوب الكيلاني يخلو من السلبيات التي قد ينقسم إزاءها الباحثون، وخصوصاً في اتهامه بأن لغته المستخدمة وأسلوبه الذي يعتمده، هما أعلى من مستوى الطفل المخاطب، ويشفع بذلك نية المؤلف في الارتقاء بمستوى الطفل اللغوي، كما إنه لا بد من ملاحظة مستوى لغة العصر الذي عاش فيه، حيث إن لغته أخذت حجمها الطبيعي.

5.إن الجهود الحثيثة التي بذلها الكيلاني، مؤلفاً ومترجماً ومقتبساً، تصب في نهايتها في قالب تربوي تعليمي، مع وجود بعض الثغرات الدرامية التي تجعل القصة تسير عنوة في الطريق الذي يريده المؤلف، وهذا يخل حتماً بسياق النص ويعتبر من العيوب الرئيسية فيها – سنشير إلى هذه القضية في الجانب التطبيقي – مما يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً في أن الكيلاني يصب اهتمامه على الجوانب التعليمية التربوية والقصة كعمل أدبي متكامل تعتمد على التطور الدرامي واللغة هي أداة لها، ولا ينبغي للقصة أن تؤسر في ما يريده المؤلف من أهداف تعليمية لغوية، لا سيما وأن دراسة النص يجب أن تكون دراسة من داخله دون اعتبارات خارجية.

6.إن أسلوب التكرار الذي أتخم به المؤلف قصصه، إضافة إلى إكثاره من الكلمات الصعبة واضطراره إلى شرحها، وإزحامه النصوص بالظواهر البيانية واللفظية، يجعل الطفل يبتعد عن جوهر القصة ليغرق في بحر هذه الظواهر والبحث عن معانيها، مع ملاحظة إيجابياتها الكثيرة وإضفائها رونقاً على النص، وقد كان بالإمكان تفادي ذلك بترك النص يسير على سجيته دون أن يظهر تكلف المؤلف وإصراره على ذلك بشكل قد يبدو من ضرورات اللغة لا من متطلبات الدراما.

7.وجود بعض الملاحق والتعريفات والمعلومات والحكم والأناشيد يزيد من فوائد القصة مع اعتبارنا لها من خارج النص، مع ملاحظة وجود أناشيد ومعلومات وحكم تتصل بالنص مباشرة وتعتبر جزءاً لا يتجزأ منه، مع التحفظ على بعض النصوص ذات المفردات الغريبة.

يتبع ...