شعر الحداثة بين الواقع المفروض والواقع المسلَّم به

شعر الحداثة

بين الواقع المفروض والواقع المسلَّم به

البيّاسي

[email protected]

من السياق العام للدراسات النقدية للشعر العربي , في الوقت الحاضر , يتوهم القارئ أن هذا الطارئ على الشعر العربي الذي هو شعر التفعيلة و الشعر الحر وما شاكلهما , هو أمر مسلّمٌ به ومقبول , و أننا لبسناه و طعمناه و شربناه و رضينا به , و أن هذا النوع من الشعر اصبح جزءاً لا يتجزأ من تراثنا و من أدبنا و أنه نوع جديد من الشعر لا يمكن الاستغناء عنه في أدب الاجيال العربية القادمة.

 و الواقع غير ذلك تماما , لأن هذه  النماذج الشعرية الدخيلة على الشعر العربي ,     و التي تشكل جزءا كبيرا من صورة الحداثة المقيتة , هي واقع مفروض على الشعر العربي و ليست واقعاً مسلّماً به, و الفرق بين هذا وذاك كبير جدا , فالاحتلال الفكري هو كأيّ احتلال على الأرض لا بدّ أن يزولَ و يحول , و لا بدّ للأمور أن تعود الى نصابها و لو طال الزمن , و الشعرُ العربيّ منذ بدء الفتوحات الاسلامية تعرّض لكثير من التغيرات و لكنه ظلّ محافظاً على شكله التقليدي الأصيل على مدى العصور و الأزمان الى أن وصل الى ذلك اليوم الأسود من عام  1947 في العراق حيث ألبستْه نازك الملائكة والسيّاب بدلَ العمامة قبّعة و بدل العباءة سروالاً , وقد قُوبل هذا المظهر الجديد عند كثير من الناس في ذلك الوقت بالاستهجان , ولكنْ بسبب التأثر بالواقع الذي كان يفرضه الاحتلال و الانتداب ثم الوصاية بعد الاستقلال و التبعية في كثير من الامور, فقد تم تسويق هذا الشكل المسخ عن طريق بعض وسائل الاعلام غير المسؤولة و التي ربما لم تدرك في حينها أنها تسوّق  لأحد أكبر المعاول الهدامة للتراث العربي و التي أفرزت فيما بعد الصنم الاكبر أدونيس الذي يحاول بمعوله ليس تحطيم التراث الشعري العربي فحسب بل و التراث الاسلامي و العربي ككل.

يقول  لويس سيديو : إن اللغة العربية حافظت على وجودها وصفائها بفضل القرآن ، ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام ، يتخفى وراء عبارات كاذبة ومضللة.

فبعد أن كان امرؤ القيس ولبيد و الخنساء ومجنون ليلى وجرير والفرزدق و المتنبي , وأحمد شوقي , هم مثلا الرموز التي يُفطم عليها رضيعُ الشعر, أصبح شارل بودلير بعبثيته و انحلاله الاخلاقي و عُقَدِه و خروجه حتى على النص الفرنسي التقليدي و تقمص شعره للبالاد* المستورد , هو المثل الاعلى للأقلام الضعيفة التي تحاول اثبات نفسها في ساحة الشعر العربي بشكل خاص و الثقافة العربية بشكل عام , ومعلوم أن نازك الملائكة اخترعت هذا النوع من الشعر باعترافها , لعجزها عن تصوير مأساة الكوليرا التي تفشّت في مصر في حينها و حصدت مئات الآلاف من القتلى , فلجأت الى القوالب الفرنسية لترجمة حالتها النفسية , إذن وباعتراف المخترع نشأ هذا النوع من المسخ الشعري بسبب عجز الشاعرة وليس بسبب عجز الشعر !!                    كان العجزهو الدافع أيها السادة و ليس الحاجة أو الابداع.

ونذكر تماما شعر الموشحات الذي نشأ على الراجح في الاندلس و الذي يُعلّقُ أكثرُ الحداثيين اليومَ حماسَهم للحداثة على شمّاعته و شماعة بعض الاقوال الشاذة و المؤوّلة لبعض فقهاء اللغة العربية في المتأخر من العصر العباسي و عصور الانحطاط .    ومع أنّ هذا النوع من الشعر قد نشأ في القرن التاسع الميلادي وازدهر على مدى خمسة قرون حتى شاع في المشرق شيوعه في المغرب.. تلاشى و اندثر ولم يبق الا اثراً بعد عين, و لا نرى اليوم أيَّ شاعر أصيل أو حداثيّ يحاول حتى النظم على بحوره المولّدة و المنشقة عن عصا الشعر العربي الاصيل , مع أنه شعرٌ بعذوبته و لطافته كان وما يزال يشق القلوب.

وهذا الشعر أصلا استُنبط في معظمه من الدوائر العروضية للفراهيدي وأخذ منها ما أُهمل , أو استعمل البحر العروضي الخليلي معكوساً و ما شابه, ثم تطور بعد ذلك و نما و تشعب وصارت له منظومته الخاصة, و كانت الغاية الرئيسة من استحداث هكذا أوزان ليست لنبذ أوزان الخليل و احلالها محلها, و لكن لمسايرة الفورة الغنائية التي كانت سائدة في ذلك الزمان , فمع طغيان الترف واللهو كان لا بد أن يزدهر الغناء، فاشتهرت الأغاني والألحان واشتهر أصحابها ، وكان الموشح، هو المؤهل لمناسبة الازدهار الغنائي فغادر بيئته الشعرية التي نشأ فيها، وانسلخ عن القصيد ليصبح نموذجاً للأغنية الأندلسية الفصيحة , ولكنه لم يتعرض لكثير من مواضيع الشعر المعروفة اصلا و انما اقتصرعلى مواضيع معينة تقريبا كالغزل ووصف الطبيعة و بعض المدائح , و لكنه في النهاية كما قلت بادَ و انتهى و اصبح ذكرى.                        

نعود الى الواقع المفروض و الواقع المسلّم به..

حاولت فرنسا على مدى عشرات السنين أن " تُفَرْنِسَ " الجزائر , و أن تحل  الفرنسية تماما محل العربية وكانت تعاقب بالقتل في أحيان كثيرة من ينطق بالعربية , فماذا كانت النتيجة ؟

كانت النتيجة أن فرنسا خرجت أخيراً من الجزائر تجرُّ ذيولَ خيبتها و عاد الشعب الجزائري العظيم الى عربيته و عروبته ’ برغم الاثار السلبية الخطيرة التي ما زال يعاني منها الى الآن جراء القهر والاستبداد الفرنسي في أثناء الاحتلال .

 المقصود , إنّ  " فَرْنَسَة الجزائر"  كانت واقعاً مفروضا و ليس واقعاً مسلّماً و مرحّباً به, و ما فرضته فرنسا في حينها "لفَرْنسة" الجزائر كان لتمييع التحام الجزائري بعربيته , و فكّ الارتباط بين الجزائري و ثقافته العريقة الاسلامية و التي كانت قبل الاسلام , و سلخه تماما عن أمّه الأمّة العربية المسلمة و أبيه الوطن العربي المسلم.

و الفرنسة أو التغريب اتخذا شكلين جديدين اليوم يتمثلان في الاحتلال الفكري و الثقافي و سلخ العربي عن الجسد العربي الكبير وإلحاقه بركب الحضارة المادية الزائفة , و السكين الأمضى في هذا السلخ هي تشكيك العربي بأصالته واتهامها بالتخلف والقصور , و إلباس العبثية الغربية أثواباً مبهرجة تشد اليها ضعفاء النظر.

والذي يفرض هذا الواقع هو هيمنة الفكر الغربي في العالم وسيطرته على وسائل الاعلام العالمية و المحلية في أحايين كثيرة وارتباط الوطن العربي بشكل او بآخر بالسياسات الغربية , ومعلوم أن القوي يفرض ثقافته و فكره على الضعيف بطريقة    أو بأخرى , فالثقافة الغربية فرضت نفسها في الوطن العربي أفكاراً و مناهجَ فـــي الادب و الفلسفة  والسياسة و الاقتصاد وفي الفنون كالغناء و الرسم وحتى في المأكل  و الملبس والعادات و التقاليد ما صغر منها وما كبر , وهذا مما لا ينكره الا مقيمٌ على سطح القمر.

بمعنى , أن الغزو الثقافي الغربي واضح و جليّ في الوطن العربي و في العالم أجمع, و هو احتلال فكري مفروض , و لكنه كأيّ احتلال سيزول يوما من الايام و سوف تشرق الثقافة العربية من جديد لتأخذ موقعها الحضاري القديم و العريق , و مكانتها المرموقة السامقة وعرشها الازلي المرتبط ارتباطا لا فكاك منه بالاسلام , و سوف تنفضُ عنها كل ما علق بها من الدرن و الاوساخ.

يقول وليم جيفور ويلجراف : متى توارى القرآن و مدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد و كتابه و لا يمكن أن يتوارى القرآن حتى تتوارى لغته .

ايها السادة ...

إن الشعر الاصيل و اللغة العربية يتعرضان للقهر كما يتعرض له الاسلام تماما.

فكلُّ قلمٍ أصيل يُقتل في مهده قبل أن ينطق ببنت شفة , و تُشنّ عليه حروبٌ شعواء من كل حدب و صوب و يُتّهم بالرجعية و التقليد والتخلف و القصور و ما الى هنالك من الاوصاف التي لا تنطبق الا على قائليها .

أما أقلام الحداثيين فتُقام لها أعيادُ الميلاد حتى قبل أن تولد و تُقام لها المنابر الاعلامية والمهرجانات التسويقية و تحظى بالدعم المعنوي و المادي لمجرد احساس الجهات المعنية بانتساب هذه الاقلام الى الغرب ثقافة و فكراً , و مقتِها بطريقة أو بأخرى للموروث العربي و الاسلامي .

* البالاد : هو نص يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما على جمود الكلاسيكية . وقد وجد بودلير ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من بالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والالمانية الى الفرنسية ليخرج بها على الكلاسيكية السائدة في ذلك الوقت.