شخصية الشيخ عبد الحميد كشك في الشعر الإسلامي المعاصر
(1933- 1997م )
تمهيد :
يحتار الإنسان كثيراً عندما يريد الكتابة عن النجم الذي هوى .. محامي الحركة الإسلامية .. الداعية الكبير المُفوه الشيخ عبد الحميد كشك .. ذلك لأن الأحزان المتواصلة برحيل الدعاة الكبار جعل الساحة الإسلامية تنتقل من حزن إلى حزن.. ومن مأتم إلى مأتم.. ومن الأسف البالغ .. لأن من يرحلون لا نجد من يسد فراغهم الكبير .
ففي هذا العام (1996مِ) – عام الحزن – رحل عنا فضيلة الأستاذ محمد حامد أبو النصر – المرشد العام السابق للإخوان المسلمين – ، ورحل حكيم الدعاة محمد الغزالي، ورحل الرجل الصابر الشجاع جاد الحق علي جاد الحق، والمؤرخ المسلم الكبير الدكتور حسين مؤنس، والجناح الطائر للحركة الإسلامية الدكتور سعيد رمضان، والكاتب الإسلامي خالد محمد خالد، وكانت خاتمة الأحزان برحيل الفارسين الكبيرين في أسبوع واحد: الدكتور عبد الرشيد صقر، والشيخ عبد الحميد كشك .. رحم الله هذا الجمع المبارك رحمة واسعة .
إنه الشيخ الداعية، الخطيب، المجاهد، الكفيف الذي لقب بفارس المنابر، ومحامي الحركة الإسلامية، ويعدّ أشهر خطباء القرن العشرين في العالم العربي والإسلامي، له أكثر من ألفي خطبة مسجلة، خطب مدة أربعين سنة دون أن يخطئ مرة واحدة في اللغة العربية ..وعاصر الملك فاروق وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ، وذاق الويلات في سجونهم وتفنن الطغاة في تعذيبه ولكنه بقي ثابتاً صامداً طيلة حياته، لم يغير، ولم يبدل ..فمن هو ؟ وما هي قصة حياته؟ وماذا قال العلماء والشعراء عنه ، هذه الصفحات تجيب عن بعض هذه الأسئلة ..
المولد والنشأة :
ولد الشيخ عبد الحميد بن عبد العزيز محمد كشك في 10 آذار عام 1933م في بلدة (شبراخيت) إحدى مراكز محافظة البحيرة بجمهورية مصر العربية، من أبوين ليسا من ذوي البسطة في المال، وكان ترتيب الشيخ عبد الحميد الثالث بين ستة من الأخوة، ونشأ في كنف والده السيد عبد العزيز محمد كشك الذي كان يعمل تاجر بقالة، فقيراً، توفي عام 1952م بعد مرض ألمّ به .
وبعد وفاة والده ضاق به وبأسرته العيش فانتقلت الأسرة إلى القاهرة حيث كان شقيقه الأكبر عبد السلام كشك يستأجر سكناً متواضعاً في حي دير الملاك بمنطقة حدائق القبة .
ولد الشيخ عبد الحميد كشك سليماً معافى وما إن بلغ السادسة من عمره حتى أصيب برمد صديدي اختلف إلى حلاق القرية فعبث بمروده في عينه مما أدى إلى ضياع العين اليسرى .
وعندما أصبحتْ سنه 17 عاماً أصيبت عينه اليمنى بمرض ( الجلوكوما) مما أدى إلى ضياعها هي الأخرى، وأصبح فاقد البصر بعد أن ظلّ يطلب العلاج حولين كاملين ..
دراسته ومراحل تعليمه :
ذهب إلى جمعية تحفيظ القرآن الكريم ليعوض عن نور البصر بنور كتاب الله، وكان والده يعمل تاجراً في محل صغير، وبعد أن حفظ القرآن في البلدة، وهو ابن الثانية عشرة .
التحق بمعهد الاسكندرية الديني في مسكن على حساب الأزهر، وتأثر هناك بالشيخ أحمد الكومي في الفقه والحديث والتفسير، والأستاذ محمد مصطفى جاد له باع طويل في النحو والصرف والأدب، وكان عمره عندما التحق بمعهد تحفيظ القرآن /13/ سنة .
صعد المنبر، وألقى أول خطبة له في المسجد البحري في بلدته وعمره /16/عاماً، وكان وقتها في السنة الرابعة الابتدائية .
كلفه عمه الشيخ عبد الفتاح كشك مأذون البلد بإلقاء خطبة الجمعة في الجامع الوسطاني في شبراخيت .
وفي الصف الرابع الابتدائي أعلنت جمعية الشبان المسلمين عن مسابقة القرآن الكريم حفظاً وتجويداً، فاشترك فيها الشيخ كشك، فحصل على جائزة قدرها /5/ جنيهات .
ثم أصيبت عينه اليمنى بالمياه الزرقاء، فتردد إلى طبيب نصراني جعل من عينه حقلاً للتجارب، ثم توجه إلى طبيب في القاهرة، فطلب منه 50 جنيهاً، فلم يملك الوالد الكلفة، وكان ذلك عام 1951م، فباعت أخته حليها، وباعوا المذياع، وأجريت العملية ولكنها فشلت، فانقطع الشيخ عن التعليم سنتين .
توفي والده في سبتمبر عام 1952م .وبسبب الضائقة المالية انتقلت الأسرة إلى القاهرة .
ثم عاد عام 1952م إلى الدراسة، ثم قدمت بقية الأسرة إلى القاهرة، وباعوا دارهم في القرية .
خطب في مساجد الجمعية الشرعية بعد أن ألقى خطبة أمام الشيخ أحمد عيسى عاشور نالت إعجابه، فتنقل في المساجد كل جمعة في مسجد، وتعرف على الكثير من الشباب المسلم .
نال إعجاب الأساتذة في القاهرة مصطفى الحديدي, كامل شاهين, محمد يوسف موسى .
وفي السنة الثالثة الثانوية حصل على مجموع 100 بالمئة ، ولما بلغ السنة الخامسة الثانوية كان ترتيبه الأول على طلبة الثانوية الأزهرية بمجموع 99 بالمئة، وفي أغلب هذه السنوات كان يشكو بشدة من عدم وجود رفيق دائم يأخذ بيده ويذاكر معه، وعلى الرغم من ذلك كان يمارس الدعوة إلى الله .
درس في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف .
خطب في مسجد المنوفي في حي الشرابية في القاهرة من عام 1954م إلى أن عين بوزارة الأوقاف بعد تخرجه في عام 1962م، وكان من أوائل دفعته .
حصل على العالمية مع تخصص التدريس حيث حصل على العالمية، وكان ترتيبه الأول على جامعة الأزهر، ومثّل الأزهر في عيد العلم سنة 1961م .
ثم حصل على شهادة تخصص في التدريس العالي ( الدراسات العليا) من كلية اللغة العربية بالأزهر .
عُين الراحل الكبير الشيخ عبد الحميد كشك معيداً بكلية أصول الدين عام 1957م، ولكنه لم يقم إلا بإعطاء محاضرة واحدة للطلاب بعدها رغب عن مهنة التدريس في الجامعة، حيث كانت روحه معلقة بالمنابر التي كان يرتقيها من سن 12 سنة، ولا ينسى فضيلته تلك الخطبة التي ارتقى فيها منبر المسجد في قريته في هذه السن الصغيرة عندما تغيب خطيب المسجد، وكيف كان شجاعاً فوق مستوى عمره الصغير، وكيف طالب بالمساواة والتراحم بين الناس، بل وكيف طالب بالدواء والكساء لأبناء القرية، الأمر الذي أثار انتباه الناس إليه والتفافهم حوله .
ثم انطلق في الخطابة بعد تخرجه من الجامعة، حيث عمل إماماً وخطيباً بوزارة الأوقاف، ثم تنقل بين عدة مساجد بمدينة القاهرة وغيرها داعياً إلى الله .
وفي عام 1964م خطب في مسجد الملك ( عين الحياة )، وعين إماماً فيه، وهو في حدائق القبة في حي دير الملاك بالقاهرة، وجعل من هذا المسجد خلية تنبض بالحياة : فهناك الدروس الخصوصية عربي, انجليزي .
والثقافة والإرشاد في دروس المساء وخطبة الجمعة, والتربية والتعليم في تدريس الطلبة, والصحة ومعالجة الفقراء بالمجان, ولجنة إصلاح البين فالمسجد يمثل وزارة العدل, ولجنة الشؤون الاجتماعية في أحوال الأسرة الفقيرة :كسوة، معونات، تموين...
ثم ألقى خطباً في مساجد جمعية الهداية ( مسجد الشهداء ) بمدينة السويس، ومساجد المحلة الكبرى وقراها، ومسجد الجمعية الشرعية بمدينة المنصورة، ومساجد أسوان .
وزاد الرواد على مسجده زيادة هائلة ، وكان المصلون يفترشون حديقة مسجده والشوارع المحيطة يوم الجمعة، وقد تمّ تشييد ملحق للمسجد من ثلاثة طوابق، كانت تكتظ هي الأخرى عن آخرها ..ورغم ذلك كان يضيق بالمصلين الحريصين على سماع خطبه .حيث كان يقوم بطرح المشكلات الاجتماعية ويضع الدواء الإسلامي الناجع لها ويعلق على أشهر القضايا المعاصرة ويدلي برأي الإسلام فيها بشجاعة ، ويرد على المستشرقين الكارهين للإسلام ومن على شاكلتهم من العلمانيين مما أرهب السلطات في مصر خوفاً من شجاعته الفائقة وصوته المسموع وجماهيريته الطاغية في مصر وعلى امتداد العالمين العربي والإسلامي .
أحواله الاجتماعية :
وللشيخ الجليل الراحل شقيقان هما : المهندس عبد المنعم كشك ، والمستشار عبد السلام كشك – أمين صندوق نقابة المحامين بالقاهرة – .
وله أيضاً شقيقتان متزوجتان، وقد تزوج في شتاء عام 1965م ، وله من الأبناء ثمانية، خمسة من الذكور، وثلاثة من الإناث، أما الذكور فهم : عبد السلام، وعبد المنعم، وهما محاميان، ومحمد متخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة، ومصطفى الطالب بكلية التجارة، وعبد الرحمن الطالب بالإعدادية ، أما بناته فهُنّ :
-أسماء وهي متزوجة ، وتوفي عنها زوجها ولديها طفل صغير اسمه يوسف.
- وخديجة : وهي متزوجة ولديها محمود .
- وفاطمة : الطالبة بالصف الثاني الثانوي ، ولعل الكثيرين لا يعرفون أن جميع أبناء الشيخ عبد الحميد كشك يحفظون القرآن الكريم كاملاً ، كما أخبر بذلك ابنه عبد المنعم فقد كان الفارس الذي رحل عنا مربياً ذكياً صبوراً محتسباً .
دخوله السجن :
وفي عام 1966م طلب منه المشير عبد الحكيم عامر أن يحلّ دم سيد قطب، فرفض ذلك وفي حفل إسلامي بجامعة عين شمس في آذار 1966م ألقى كلمة مؤثرة سئل بعدها: هل الاشتراكية من الإسلام ؟ فأجاب: الإسلام وحي معصوم انتظم شؤون الدنيا والآخرة أما الاشتراكية فهي مذهب اقتصادي وضعي فلم ترض هذه التصرفات الحكومة الناصرية، فسجن الشيخ كشك عام 1966م، ولقي في السجن الأمرين، وأفرج عنه في آذار عام 1968م .
وفي عهد السادات حاول توظيف الشيخ لخدمة الحكومة ولكن الله عافاه طلب منه الرئيس الحضور فلم يفض الرسالة إلا بعد انتهاء الموعد، وجرى نقاش يومها بين السادات وعمر التلمساني .
وفي سنة 1981م جرت أحداث الزاوية الحمراء في 17 يونيو 1981م بين المسلمين والنصارى حاول الشيخ توعية الناس والحذر من الفتنة وركوب اليهود أمواج الفتنة والصيد بالماء العكر، واستدعي الشيخ كشك من قبل النبوي إسماعيل، ووجه إليه تهمة التحريض على الفتنة فأنكر الشيخ أي علم له فيها .
ثم ألقى الخطبة رقم /425/ عن العدالة الاجتماعية في الإسلام في شهر سبتمبر عام 1981م .
وفي يوم الأربعاء من شهر سبتمبر 1981م ألقي القبض عليه؛ لأنه كان يجاهر برفض اتفاقية ( كامب ديفيد )، وكان معه ثلة من الدعاة إلى الله منهم : عبد المتعال الجبري، حسن أحمد عيسى عاشور، والمدرس سليمان الشيمي أستاذ العقيدة في معهد شبين الكوم الأزهري .
ولما علم المصلون في مسجد عين الحياة باعتقال الشيخ قاموا بالمظاهرات احتجاجاً على اعتقال الدعاة، وخطب السادات في 5 سبتمبر 1981م فطاش صوابه، وقال : إن الرئيس النميري شكا الشيخ كشك إلى السادات، وقال : إن الشيخ كشك مرمي كالكلب في السجن، وتهجم على الجماعات الإسلامية, وحقق مع الشيخ كشك في يوم 24 سبتمبر 1981م ، وكانت الاتهامات : إنك تهاجم نيلي ؟ وماذا تقصد بقولك على الذين يتمثلون بعمر أن يحذوا حذوه, ولماذا تهاجم عيد الأم, والكرة, والإعلام .
وتمادى السادات في ضلاله حتى زعم أنه لا يبدل القول لديه، وما هو بظلام للعباد، وسخر من الحجاب، واعتقل الشيخ عمر التلمساني، والشيخ أحمد المحلاوي، والشيخ كشك، وعاب على أهل اللحى، وتوعد من يعارض اتفاقية كامب ديفيد، فقيض الله له خالد الإسلامبولي، فقتله وذلك في 6 تشرين الأول 1981م .
ثم أطلق سراح الشيخ كشك، ومنع من الخطابة في عهد حسني مبارك .
وبعدها صار رهين المحبسين، لكن اليأس لم يعرف طريقاً إلى قلب الشيخ، فظل يؤلف الكتب والمقالات، ويساعد الفقراء والمرضى، ثم حوّل بيته إلى دار للإفتاء، وكان يظل كل يوم خمس ساعات جوار الهاتف يرد على أسئلة المسلمين من داخل مصر وخارجها .
مؤلفاته :
لقد تنوعت مؤلفاته بين الثقافة الإسلامية والخطابة، والدعوة ، وترك من الكتب /200/كتاباً بالإضافة إلى مئات الأشرطة وآلاف التلاميذ.
1- قصة أيامي .
2- حديث من القلب .
3- تفسير القرآن الكريم .
4- يا رب كيف أشكرك ؟
5- الوقوف بين يدي الله .
6- سياحة في بيوت الله .
7- الصلح مع الله .
8- من جوار الخلق إلى رحاب الحق .
9- أسماء الله الحسنى .
10- الفتوحات الربانية .
11- رسائل رحمانية النفحات .
12- بناء النفوس .
13- إلى فرسان المنابر .
14- كيف تكون خطيباً؟
15- جواهر المواعظ للخطيب والواعظ .
16- إلى حماة الإسلام .
17- حديث عن الصالحين .
18- بناء الأسرة المسلمة .
19- الإسلام وأصول التربية .
20- على مائدة الإسلام .
21- في ظلال الإيمان .
22- الذكر والدعاء .
23- صاحب الرسالة العصماء .
24- مع التوحيد والأخلاق .
25- الصلاة رأس العبادات .
26- الوصايا العشر في القرآن .
27- فضل القرآن يوم الحشر .
28- الحلال والحرام .
29- كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا ( رد على رواية نجيب محفوظ ) .
وتقوم دار الصحافة للنشر بمصر بجمع أشرطة الشيخ، وقد أخرجت 46 جزءاً من الخطب المنبرية، و25 درساً بعنوان ( دروس المساء بين المغرب والعشاء) .
وصدرت سلسلة ثانية تحت عنوان : جلساء الملائكة – صدر منها 27 جزءاً .
كما ترك 15 جزءاً من فتاويه تحت عنوان : هموم المسلم اليومية .
وترك كتاباً في السنة النبوية لم يمهله الموت لإتمامه .
وقدم لكتب بعض تلاميذه مثل : الخطب المنبرية – محمد حسان، كما قدّم لديوان إسلاميات للشاعر المصري أحمد عبد الهادي .
وكانت له مساهمات أخرى في الصحف الإسلامية، اليومية والأسبوعية والشهرية مثل : اللواء الإسلامي، والشعب، الوفد، عقيدتي، النور، ومجلات : الاعتصام ، لواء الإسلام، الدعوة، المختار الإسلامي، رسالة الإسلام، الإخلاص الإسلامية، التصوف الإسلامي، منبر الإسلام، وجرائد : المدينة، والمسلمون، والمسلمات الدولية السعودية .
وله بعض التراث السمعي والمرئي المتفرق لم يخرج إلى النور حتى الآن .
أقواله ومواقفه :
كان الشيخ كشك جريئاً وشجاعاً يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم فحين طلب القذافي أن يشتري قبر الزعيم الراحل شريكه في الظلم والإجرام جمال عبد الناصر بخمسمئة مليون دولار، وتوقع الشيخ كشك منذ أكثر من 20 سنة النهاية البائسة لمعمر القذافي، وقال: إن القذافي لن يجد مكاناً يدفن فيه، وها هو الآن تعفنت جثته، ولم يجد مكاناً ليدفن فيه .
وانتقد صدام حسين في حربه ضد إيران وقال له لمَ لم تجرؤ على حرب إيران زمن الشاه، ووقعت معه اتفاقية الجزائر .
كما انتقد حافظ أسد الذي أرسل جنوده إلى ألمانيا ليقتلوا امرأة هي الشهيدة بنان الطنطاوي وفقد الأسد بهذا الإجرام النخوة والمروءة، وطلب منه أن يرحل إلى أخواله في موسكو ..
كما انتقد النميري بشدة حتى شكاه إلى الرئيس السادات، وفضح الحبيب بورقيبة رئيس تونس الذي طلب من المفتي أن يحث المسلمين على الإفطار لزيادة الدخل القومي فالصيام يضعف الاقتصاد، وأشاد بموقف الطاهر بن عاشور الذي اعترض على الرئيس، وقرأ آية الصيام ، وختم حديثه بصدق الله، وكذب بورقيبة، فاستحق الخلود ..
وشدد النكير على سياد بري رئيس الصومال الدموي الأحمر الذي تفنن في قتل الدعاة وفقأ بيوضهم بالحجارة أمام النار، ثم أحرق، ونكل بهم ، وجرد قلمه ليسنّ قانوناً يعطي الذكر مثل حظ الأنثى .
ولم يترك طاغية إلا وفضحه وكان مصيره السجن والتعذيب .
وبالمقابل فالشيخ عبد الحميد كشك أشاد بالدعاة المخلصين من أمثال الإمام البنا، والشهيد عبد القادر عودة، ومحمد الفرغلي ، وسيد قطب ..وكان معجباً بالإمام العز بن عبد السلام ومواقفه من الحكام المماليك في عصره .
وأثرت عنه أقوال بليغة من مثل قوله :
الحق لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت اعمل ما شئت، كما تدين تدان.
وكانت كلماته تخرج من القلب فتقع في القلب ..ولو خرجت من اللسان لما جاوزت الآذان .
وفضح الشيخُ الخطيب المفوه المنافقين من العلماء من أمثال: أحمد حسن الباقوري الذي أجاز الصلاة بالمايوه، وأجاز تولي المرأة للإمامة مستشهداً بالسيدة بلقيس ملكة اليمن، واستدل الشيخ بحديث ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) .
ودافع الشيخ عبد الحميد كشك عن قيم الإسلام، وعن المظلومين، والمحرومين، والفقراء، فكان بحق أحد حماة الإسلام وحراس العقيدة، وأحد جنود مدرسة عريقة مكتوب على بابها ( هنا مدرسة محمد ) .
وفاته :
ولم يعد إلى منبره حتى توفي، وكان الشيخ يدعو الله أن يقبض روحه وهو ساجد ، فتوضأ الشيخ الجليل يوم الجمعة وصلى ركعتي سنة الوضوء، وقبضت روحه وهو ساجد عن عمر يناهز /63/ عاماً، وذلك في شعبان 1997/1417هجرية، ولم يخرج طيلة حياته من مصر إلا لحج بيت الله الحرام عام 1973م ..
أصداء الرحيل :
وفاة الداعية الشيخ عبد الحميد كشك :
ونعاه فضيلة الشيخ محمد سرور زين العابدين، في مجلة السنة، فقال : ( من أحداث هذا الشهر المهمة وفاة الداعية الشيخ عبد الحميد كشك، فقد نعته بعض الصحف المصرية بكلمات مقتضبة لا تتناسب مع مكانته الاجتماعية، وعمق أثره الفعال كخطيب وواعظ في العالم الإسلامي كله، وليس في مصر وحدها.
إن الموت حق، وكل نفس ذائقة الموت، ولا ينفع المرء في دنياه إلا عمله الصالح، ومما يذكر للشيخ كشك رحمه الله أنه ابتلي في سبيل الله فسجن عام 1966م، ولم يخرج من سجنه إلا بعد هلاك الطاغية الأول ومجيء الطاغية الثاني.
وعاد بعد خروجه من السجن إلى عمله كخطيب ومدرس وواعظ، ولم يهّزه السجن أو يضعف عزيمته، فكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، كما كان قوياً في مواجهة الظالمين بظلمهم وفسادهم وانحرافهم، وقد استقطبت خطبه جماهير الناس في مصر، فكان مسجده والشوارع المؤدية إليه تزدحم بالمصلين، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: لا يعرف العالم الإسلامي مثيلاً لأشرطة الشيخ كشك في الانتشار.
لم يستطع فرعون الصغير احتمال هذا الحشد الجماهيري كل أسبوع، وخشي من نتائجه، فأصدر أمره بمنع الشيخ من الخطابة والتدريس والوعظ، وقد اعتدنا مثل هذه التصرفات من هذا الفرعون، بل من جميع فراعنة عصرنا، نسأل الله أن يكفينا شرورهم، ويعجّل لهم العقوبة في الدنيا، ويجازيهم بما يستحقون في الآخرة.
التزم الشيخ رحمه الله بيته المتواضع بعد صدور هذا المنع، يستقبل محبيه، ويتدارس وإياهم الكتب والمراجع الإسلامية في القديم والحديث... وجاءته العروض والمغريات من أهل الخير في دول الخليج، وله أن يختار الراتب الذي يريده، وعندما رفض هذه العروض، عرضوا عليه المساعدات السخية [وهذا ما أخبرنا به بعضهم]، أبى ذلك بكل عزة وكرامة، وآثر حياة الفقر والبساطة وخشونة العيش، كما يقول لنا جلساؤه، كما قالوا لنا إنه كان يقرأ منشوراتنا، ويحرص عليها، ويذكرها بخير. رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيخ جنانه مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال عنه يوسف القرضاوي :
الخطيب المصقع الذي هزّ أعواد المنابر، وأرعب أرباب الكراسي، صاحب الطريقة المتميزة، والبيان المتدفق والأسلوب الساخر الذي شدّت خطبه الجماهير المسلمة في مصر وانتشرت أشرطته في المشارق والمغارب .
وقال عنه فهمي هويدي :
وجدت تسجيلاته منتشرة فيما بين طهران وداكار، ومجموعة أشرطته تباع بالكامل فيما بين بيروت والمغرب ، في حين فرّغت هذه التسجيلات وصارت كتباً معروضة في لندن هذا الرجل ليس فرداً ، وإنما ظاهرة تستحق الدراسة .
وقال عنه المفكر والمستشرق الفرنسي ( جياز كيبل) :
( إنهم يستمعون لكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي حي المغربة بمرسيليا، فهو نجم الدعوة الإسلامية ) .
وصفه الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة بقوله :
(إن عبد الحميد كشك العالم في موكب العلماء ..قد احتلّ مكانه حين أخلص للعلم ، وتجرّد للحق وزهد في الدنيا، وارتفع فوق الدنايا في وقت هرع فيه علماء إلى أبواب الحكام واستطيبوا السير في موكب السلاطين ).
وأثنى عليه الداعية محمد عبد الله السمان فقال :
( لم أدهش وأنا في ماليزيا حين سمعتُ صوته مدوياً ،كلما زرت بلداً عربياً أو إسلامياً سئلت عن الشيخ كشك وكم عرض عليَّ بعض الأسخياء أن أحمل معونة إليه ، وكنتُ أقنعهم بأن الشيخ سوف يتألم لو سمع ذلك، وأقول لهم : إن الشيخ كالخليل بن أحمد الذي عاش فقيراً وكان يقول : إني لأغلق علي بابي فلا يجاوزني همي ).
ومدحه د . محمد عمارة بقوله :
( كان الشيخ كشك – رحمه الله – نموذجاً متميزاً للداعية، تميز بالإخلاص الشديد والتجرد للدعوة الإسلامية واقترب فكراً وأسلوباً من رجل الشارع . فكانت له جاذبية شديدة ، واعتقد أنه مثّل مدرسة في الأسلوب الشعبي للدعوة الإسلامية تخرج منها كثيرون ربما يكونون قد تجاوزها إلى سبل مختلفة ومستويات متعددة لكن الفضل في إضاءة الطريق الإسلامي أمامهم يعود إلى هذا الداعية )
وقال عنه د . سعد ظلام :
( لقد أدى الشيخ كشك دوراً من أعظم الأدوار وأخصها كما يؤدي السفراء واجبهم دنيا وخلقاً ، كان على حسن الظن به ، وأداء الأمانة التي أؤتمن عليها، لم يفرط ولم يتهاون بل كان على درب رسول الله صلباً صحيح الإرادة قوي الهمة ، ثابت العقيدة حيث يصدق فيه قوله تعالى : ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ) ، لقد كان المرحوم كشك رسالة وكلمة وأمانة بفضل هذه العقيدة التي صنعتْ منه رجلاً تتحرك منه الجبال وتتزعزع ولا يتزعزع ، كانت خطبته للجمعة عيداً وموسماً للمسلمين يجتمعون فيها من كل مكان ، حيث لا يبالي في سبيل أداء دعوته ما يبالي الآخرون ) .
ونختم بوصف السيد رزق الطويل للشيخ :
( استطاع بأسلوبه أن يجمع حوله جماهير غفيرة بلغت آماداً طويلة في الشرق والغرب ..وكانت هذه الجماهير تحرص على سماع خطبه سواء في المسجد أو من خلال شرائط الكاسيت ..وكانت خطب شيخنا الراحل تتميز بالنقد اللاذع الذي يصل في كثير من الأحيان إلى نقد الحاكم ، وهو ما شفى قلوب كثيرة من الجماهير التي كانت تنتظر سماع هذا النقد ..
وتحدث في الجموع الحاشدة التي شهدت العزاء الأستاذ مصطفى مشهور – المرشد العام للإخوان المسلمين – الذي أشار في كلمته إلى الرحلة الجهادية والدعوية للشيخ كشك، وقال: إن رحيل الدعاة إلى الله كالدكتور عبد الرشيد صقر، والشيخ كشك لهو شكوى خالصة إلى الله عز وجل، وقال: إن الشيخ كشك كان واحداً من فرسان المنابر القلائل والمعدودين، وكان من الدعاة المخلصين العاملين، وإننا جميعاً نتعزى فيه، ونسأل الله أن نفيد من علمه الذي ملأ الدنيا وأنار بصائر الناس .
كما تحدث فضيلة الدكتور محمد عبد المنعم البري – رئيس جبهة علماء الأزهر – الذي قال : إن حُزني على الشيخ كشك لا يعدله حُزن أبداً .. ذلك لأنني كنت البديل له عندما يتغير عن منبره، وإن اخوتي له تستمر على مدى خمسة وثلاثين عاماً، ما عهدته خلالها إلا أسداً من أسود الحق لا يبالي في الله لومة لائم، وكان يعتبر نفسه جندياً في أرض الرباط، ولذلك رفض الرحيل من مصر رغم العروض والإغراءات التي انهالت عليه من كل مكان، ولكنه كان يقول: إن فرار العلماء من مصر خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخها، كالتولي يوم الزحف، لأن مصر هي قلب العالم الإسلامي، وإذا مات القلب مات الجسد كله .
أما الشيخ تاج الدين الهلالي – مفتي قارة أستراليا ، وأحد الأصدقاء المقربين جداً من الشيخ كشك – فقال في كلمته : لقد حدثته من يومين بالهاتف، فقال لي : أقبل لكي أراك .. لعلها رؤية مودع، وبالفعل كانت رؤية مودع ، ثم قال فضيلته في كلمة العزاء التي هزّ بها جموع المعزين : أما آن للأيدي الشلاء التي قيدت كلمات الله ، وكبلت الدعاة إلى الله أن تفيق ، فإن عدونا على الأبواب ، فأفيق أيها الناس فإن الأمر جد خطير ، وما عهدنا مصر هكذا .. تأكل أبناءها ..
وتحدث كذلك بين التلاوات القرآنية المتعاقبة لمشاهير القراء، كل من الدعاة الإسلاميين: الشيخ طه السماوي، والشيخ نشأت الدبيس، والدكتور عاطف أمان، والشيخ شعبان الغرباوي، وكيل أول وزارة الأوقاف، الذي قدم عزاء الوزارة في الشيخ الجليل الراحل، ثم تحدث المهندس إبراهيم شكري – رئيس حزب العمل ، والمفكر الإسلامي الدكتور جمال عبد الهادي ، والشيخ المجاهد حافظ سلامة – رئيس جمعية الهداية الإسلامية ، الذي بكى وأبكى الناس باستعراضه عدداً من المواقف الجليلة للشيخ كشك رحمة الله عليه .
ثم تحدث الداعية الكبير الشيخ يوسف البدري ، والشيخ المجاهد أحمد المحلاوي، الذي قال: أحسن الله عزاءنا معشر المسلمين ، وعظم الله أجرنا بني الإسلام ، ورحم الله ميّتينا .. ففي أسبوع واحد لقيا ربهما عالمان جليلان، وداعيان إسلاميان عظيمان، ما أحسب أن التراب الذي واراهما سوف يطمس اسميهما في أذهان وقلوب وأسماع الملايين، بل لعل وفاتهما تجعل من علميهما زاداً ومداداً على الطريق ... عرفتهما المعتقلات – كما عرفت غيرهم من الرجال – أمثلة للصبر والسداد وعرفتها المنابر من فرسان الحق الذين يجولون به وله ، وعرفتهما ساحات العطاء الإسلامي، والإصلاح الاجتماعي .. ينزلان على الناس بردا وسلاماً، كما ينزل ماء السماء، فيحيي به الله الأرض بعد موتها .
ولك وحدك يا رب نقول: " إلى الله المشتكى " .
مع أسرته :
وفي لقاء المجتمع بأبنائه رحمة الله عليه، كانت لقاءات مع أفراد الأسرة جميعاً .. وظل أبناؤه يتحدثون عن مآثره كوالد ومُربٍ، فقال (ابنه عبد المنعم ): هل تعلم أن والدي لم يضرب أي واحد منا نحن الثمانية طوال حياته أبداً .. وهل تعلم أنه قام بتحفيظنا القرآن الكريم بنفسه، رغم ضيق وقته، وكثرةُ شواغله وهمومه، ثم قال : كان والدي – رحمه الله – يظل في محبسه هذا بجوار الهاتف، يرد على أسئلة واستفسارات الناس لمدة طويلة كل يوم كانت تصل في بعض الأيام إلى أكثر من خمس ساعات .. وعندما كنا نشفق عليه من هذا الجهد المزعج، كان يقول: لا بد أن أعمل هذا، لكي يكون راتبي من وزارة الأوقاف حلالاً .
ثم قال : إن ابنتي " هالة " هو الذي سماها بهذا الاسم .. وعندما سألناه لماذا ؟ قال : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُحب هذا الاسم ، لأن خديجة أم المؤمنين رضوان الله عليها كان لها أخت اسمها هالة ، وكانت تشبهها تماماً ، وبعد وفاة السيدة خديجة كانت أختها هالة كلما رآها الرسول صلى الله عليه وسلم ازداد سروراً ، وكان كلما طرق بابه طارق يقول : اللهم هالة .
لذلك فقد أطلق عليها هذا الاسم الحبيب للحبيب صلى الله عليه وسلم، ونحن نعتبر أن الذخيرة التي تركها الراحل الكبير من الأشرطة التي تضم خطبه ودروسه، كانت من أهم روافد التربية الاسلامية خلال العشرين سنةً الماضية، وقد كتب الله لها الذيوع والانتشار في شتى أنحاء الأرض، وقد وصلت إلى 425 خُطبة جمعة، وأكثر من ثلاثة آلاف درس، وكانت آخر خطبه رضوان الله عليه هي الخطبة رقم 425 الشهيرة قبيل اعتقاله عام 1981 م، والتي بدأها بقوله تعالى " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مُقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدنهم هواء " ( إبراهيم : 42، 43 )
وعاب عليه الألباني إيراد بعض القصص الواهية والاستشهاد بالأحاديث الضعفية، وقال عنه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (اليمن ) :
( كشك -إخواني في الله- واعظ مؤثر، لا أعلم له نظيراً، نعم أنا لا أعلم له نظيراً في تأثيره، وفي قدرته على الخِطابة، ويا حبذا لو وُفِّقَ للذهاب إلى أمريكا لينتفع به المسلمون، أو إلى أي بلد ينتفع به المسلمون، ولكنَّه حاطب ليل، فهو يسرد الأحاديث الضعيفة والموضوعة سرداً، لا يُعتَمد على خُطبه في الأحاديث، وأيضاً سمعت له شريطاً في التحامل الشديد على جماعة الحرم المكي الذي ادعى المهدية كما صرح الإعلام، وإلى غير ذلك ، كفى أن تقول إنهم بغاة خرجوا على دوله مسلمة، والدولة المسلمة أيضاً ما أرادت الحق، ولا أرادت أن تُحكِّم كتاب الله، وسنّة رسول الله ، وهي المعتدية عليهم، وتسببت في تفريقهم وتشريدهم، وهكذا تكون الانفجارات ...
ولكن يبقى الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله تعالى- كان أفضل من الألباني، والوادعي، وأتقى لله منهما ، وأكثر إخلاصاً ، وأقل أخطاء، وأكثر نفعاً للمسلمين، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً ....
اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله .
وقد كتب عنه الباحثة سمر عمر محمد الصفدي رسالة ماجستير تحت عنوان ( منهج الشيخ عبد الحميد كشك في تفسيره ( في رحاب التفسير)، والتي أشرف عليها د. مروان أبو راس في جامعة غزة في فلسطين بتاريخ 2003م .
شخصية الشيخ عبد الحميد كشك في الشعر الإسلامي المعاصر
هو شيخ الأمة وعالمها، وضميرها الحي، وحسها المرهف، وشعلتها المتوقدة، إنه نسيم السحر هبّ معطراً بالأريج، ونفح بشذاه العالم الإسلامي، وهو فارس الكلمة والمنبر، والعالم الجسور والداعية القدير، والمجاهد العظيم الذي قاتل على جميع الجبهات ، وخاض غمار الحروب مع أعداء الإسلام، في جميع الميادين، والمقاتل المقدام الذي لم تلن له قناة، ولم تضعف له عزيمة، ولم تستكن له همة، إنه هزار الدعوة الإسلامية، وبلبلها الشادي في القرن العشرين .
والصرح الشامخ في وجه الأعاصير والرياح الهوج .
والجبل الأشم الذي لم تزحزحه العواصف العاتية عن مكانه قيد أنملة .
وهو الناطق الرسمي والصريح بلسان الأمة الإسلامية في القرن العشرين الإمام الكبير الشيخ عبد الحميد عبد العزيز محمد الكشك .
رثاه العديد من الشعراء منهم : يوسف الفرشوطي، وصبري صبري، ولكني لم تقع يدي على تلك القصائد؛ بسبب بعدي عن مكتبتي فبيني وبينها مفاوز وقفار، فقد حالت الظروف الحبيبين.
أسد المنابر :
وقد رثاه الأستاذ عبد الرحمن سماحة بهذه الأبيات المؤثرة :
يا للفجيعة يوم نخسر عالماً أسد المنابر فارس الميدان ِ
هو للجميع موجه وبحكمةٍ كيف الحِمام يحيط بالفرسان
عبد الحميد وأنتَ فارس عصرنا يا بؤسنا بعد الفراق نعاني
بل كيف نصبر لافتقادك سيدي وصدحت في الأرواح بالقرآن
يا من ملأتَ قلوبنا نور الهدى صيغت من الإحكام والتبيان ِ
ونشرت في كلّ الربوع حقائق مزدانة الأنوار والأركان ِ
لقد جعل الشاعر من الشيخ موجهاً حكيماً ومربياً لشباب الأمة، فهو فارس العصر، ترك إخوانه يعانون من الأسى والحزن واللوعة على رحيله، إنه ملأ قلوب الأتباع بهدى القرآن وأنوار التوحيد، ونشر الحقيقة في ربوع العالم الفسيح .
الشيخ القدوة :
ورثاه الشاعر الإسلامي المعاصر وحيد الدهشان بقوله :
شعري بساح الشيخ يبدو قاصراً والعجز مني كاد يبلغ منتهاه
لكنما القلب المحبّ نبضة من نوره قد سار ملتمساً خطاه
وماذا يمكن أن يقول الشعر في وصف الإمام لقد عجز البيان عن وصفه وحارت العقول في تصوير كمالاته ، فعلى شباب محمد أن يقتدوا بمكارم أخلاقه .
الكريم الحرّ ليس له عمر :
وها هو الشاعر محمود دغيم، الذي كتب قصيدة عام 1989م في رثاء الشيخ عبد الحميد كشك، وكان يومها في سجن تدمر، ثم تبين له أن خبر الوفاة كان كاذباً ، فقال :
- فقد جاءنا من مصر نعي لعالم ٍ أصاختْ له الدنيا وباهتْ به مصرُ
- ويا ليته قد أمهل الموت شيخنا وحيث الكريم الحرُّ ليس له عمرُ
- قضى نحبه عبد الحميد مخـــــــــــــــــــلّفاً وراءه مـــــــــــــــــا فيه لأمتنا ذخــــــــــــــــــــرُ
- وذلك صوتُ الكشك في كلِّ بقعةٍ ورعد له في الخافقين وهدرُ
ناصر التشريع :
ثم كتب قصيدة أخرى أثنى فيها على دور الإمام في الخطابة وإلهاب مشاعر الجماهير، وإحياء رسالة المسجد في الإسلام، حيث يقول :
يا ناصر التشريع إني شاعر أهدي إليك قصيدة ومشاعراً
حملت إليك خواطري مشفوعةً بالودّ أهديها الإمام الأكبرا
أحييت في الخطباء شيئاً ميتاً وبعثتَ فيهم رفعة ً وتفاخرا
أسرع بنا يا عبد الحميد فإننا جند الإله وقوة لن تُقهرا
مواعظ الإمام كشك :
مواعظ الشيخ تهز القلوب، وتحرّك الوجدان، وتلهب المشاعر، وكم من مدمن على الخمر سمع خطبة للشيخ، فأوقف سيارته، وألقى بالخمرة في وادٍ على جانب الطريق:
وصلت مواعظك العظيمة أرضنا فكأننا الوسنان هبَّ من الكرى
نلتف في بيت ٍ لنسمع صوتكم وتهيجنا الذكرى لتعلو المنبرا
والله ما غاليت أو بالغتُ في مدحي لكم أبداً وهذا ما جرى
وذكرتُ سائلة تقول بلهفة ٍ أو ما رأيت الشيخ كشكاً يا ترى
فأجبتها إني رأيت إمــــــــــــــــــــــامنا والله قد خلق العيون لكي ترى
آياته مبثوثة ٌ مـــــــــــــــــــن حولنا وخواصه العلماء في كل الورى
ذكرى الإمام :
ويتذكر الشاعر الساعات الجميلة التي قضاها مع الإمام، حيث كان يسارع إلى المسجد الذي يخطب فيه الكشك، ويتشوق إليها، فيقول :
أنا ما ذكرتك في المجالس سيدي إلا وهمت إلى ربوع القاهــــــرة
وتنبه الصحب الجلـــــوس ليسمعوا من صبّكم هذا الحديث العاطرا
ولقد عُرفتُ بحبكم في محنتي وبنهجكم وبفكركم متأثرا
وسئلت عن سرّ المحبة هذه فأجبتهم ماذا عسى أن أذكرا
عن عالم ٍ أحيا البلاد بعلــــــــمه وشعاره الإخلاص لا أن يظهرا
وذكرت أيامي بمصر فلم أجد أحلى من اليوم الذي فيه أرى
نفسي بقربك في صبيحة جمعة أصغى ومن فرح أطير إلى الذرا
يمّمتُ شطرك زائراً ومودعاً وتشدني الأنوار في أن أنظرا
هذي التحية من محبٍ صادقٍ أضحى أميراً في مفاوز تدمرا
وخرج محمود دغيم من السجن، ونسي تلك السنوات العجاف، وكان شغله الشاغل أن يرى حبيب قلبه الشيخ عبد الحميد كشك، حيث يقول :
وتمرُّ أعوام السجون وتنقضي عقــــــــداً وثلث العقد إلا أشــــــهرا
ورجعت للدنيا أعيش كحائرٍ إذ أذكر الماضي القريب وحاضرا
وكأن عهد السجن رغم سنينه أمسى خـــــــــيالاً في حياتي عابرا
والحلم مني أن أراك وأن أرى بحراً خضماً بالعطاء تفجرا
والمسلمون على شواطئ رفده يستخرجون لآلئاً وجواهرا
وإذا بحلمي قد ذوت أغصانه أهٍ وأقسم أن سيبقى طائرا
ويعاهد الشاعر شيخه على البقاء على حبه والوفاء بعهده إلى يوم القيامة، فيقول :
حتى القيامـــــــــــــة والبرازخ بيننا والله أعلم كم سنرقدُ في الثرى
وأتى الحساب وقد تحلّى بارزاً ما قــــــــــدم الإنسان فيه وأخرا
يا سيدي أدعـــو لحبكم الذي الوزرُ أثقله ويرجــــــــــــــــــو مغفرا
صقر مصر :
لقد عاش الإمام كشك صقراً يحلق في أجواء الطهر والفضيلة، وينقض على خصوم الإسلام فيدكُّ حصونهم، ويفضح باطلهم، على منبر الحق :
أرثي بشعري نسر مصر وصقرها ينقض خطافاً ومن قمم الذرى
وعلى حصون خصومنا فيدكها ويحيلها ترباً وقاعاً مقفرا
من للصحافة هاجمت إسلامنا أو بعد فقدك للدفاع قد انبرى
فيفند الشبهات بل يغتالها ويخوض حرباً في الكنانة دائرا
ويعود منتصراً على أعدائه نصراً عزيزاً خالداً ومؤزرا
ويصور هول المصيبة ووقع نبأ الوفاة على نفسه، فهو يبكي بدموع غزيرة كلما تذكر وفاة الإمام :
ياسيدي لما أتاني نعيكم والجرح مني لم يزل مستنفرا
هاجتْ عليّ وأحرقتْ جمراته قلبي ودمعي سال دُرّاً أحمرا
يا سيدي أنا ما ذكرتك مرةً وسمعتُ صوتكَ في النوادي عابرا
إلا كأني الآن قد واريتكم ورجعتُ أجلسُ في العزاء مصابرا
ما خفف الخطبُ الأليم سرادق كلا ولا ماثار موجاً هادرا
لكن بعدك ثروة ً خلفتها للمسلمين وتلك أعظم ما أرى
أنى اتجهت سمعتُ صوتكَ عالياً ومجلجلاً بهديره بين الورى
وختامها أهدي لقبر ضمكم من التحية والسلام العاطرا
ولروحكم كلي سلام سيدي ما دمتُ حياً والفؤاد تذكرا
وعلى محبتكم وتسري في دمي أرجو إلهي أن أموت وأحشرا
ويهدي السلام والتحية إلى قبر الأمام كشك ويعاهد الله على البقاء على محبته وإجلاله ، ثم ذهبَ الشاعر محمود دغيم لمصر ، فبادر إلى زيارة قبر الشيخ، والتقى بأولاده فقال مكملاً قصيدته :
وقصدتُ مصرَ لكي أزور ربوعكم شوقاً وأحيي عهدَ أنس غابرا
ووقفتُ فوق القبر أنعي أمة ً كبرى بشخص ٍ نام في بطن الثرى
ورجعتُ بالتطواف بين ربوعكم عشرين عاماً أنقضت متذكرا
لقد عرج الشاعر على بيت الإمام، فوجده مغبراً موحشاً، لقد ذبلت فيه الأزهار، وتبدل روضه رماداً، ثم ذهب إلى المسجد، فوجد أعواد المنبر تنوح على نابغة الخطباء:
وإذا المنازلُ أقفرتْ من أهلها والجو أضحى عاكراً ومغبّرا
ما كان بستاناً بعهدك مثمراً مرّ الفصول وكان مرجاً أخضرا
أضحى رماداً لا تبض بقطرة ٍ وغدا هشيماً أسوداً متناثرا
آه ومسجدك البهيج وأنسه قد صار بعدك موحشاً بل مقفرا
وسألتُ نفسي والشجون تهزني وأكادُ أسقطُ ذاهلاً مما أرى
وتنهنه القلب الصديع من الجوى هل يرجعُ الماضي ليصبح حاضرا
هيهاتَ يا صرحَ الدعاة وتاجهم والعالم النحرير يعلو المنبرا
يا صاحب الصوت الجهير بأمة ٍ نامتْ وغطّتْ في الرقاد وفي الكرى
فاستيقظتْ من نومها وسباتها لترى طريق الحقّ أبلجَ نيّرا
وأشاد بأخلاق الشيخ، وأثنى على سجاياه، فقال :
يا سيدي إن المبادئ قيمةٌ جلّتْ مقاماً أن تسام وتشترى
ولقد عرفتك صرحها وعميدها وجبينها العالي الأغرّ الأزهرا
أرثيك ما ناح الحمام وما بكى فوق الغصون هديله وتذكرا
وإلى اللقـــــــــــــــــــــاء بجنة يا سيدي إن شاء ربي أن يمن ويغفرا
لقد رفع الإمام المبادئ وأشاد صرحها، وكان عميدها، وجبينها الأغر، ويتمنى الشاعر أن يجتمع به في مستقر رحمة الله .
وبعد :
هذا غيض من فيض ذلك الإمام العالم الرباني، الذي كان الخطيب المفوه، حيث اهتدى على سماع خطبه آلاف الناس، كان – رحمه الله – مثال الصدق والإخلاص، دعا الله أن يموت ساجداً، فقبض الله روحه، وهو ساجد قبيل صلاة الجمعة ، أعطاه الله الكرامات، فهو الذي حذر القذافي بأنه لن يعرف له قبر ومضت الأيام وحقق الله فراسة الشيخ ودعوته، ودفن العقيد في صحراء ليبيا ولم يعرف أحد قبره إلى الآن .
لقد كان الشيخ رجل المبادئ، رفع شعاره : ليحيا المبدأ ، وليسقط النفاق .
كره الظلم وعانى من سجون الظالمين في عهد عبد الناصر والسادات، وتقف عن الخطابة في عهد حسني مبارك، فحرمت الأمة من خيره وتوجيهاته، فالتفت إلى الكتابة والتأليف، فكان مكثراً، فسر القرآن، وتناول موضوعات فكرية وتربوية وسياسية هامة، وترك وراءه ذرية نحسبهم من الصالحين.
ومفاتيح تلك الشخصية الفذة الفريدة : فإننا نرى أنها تتلخص في أربعة أمور :
أولاً : الإخلاص العميق في كل علم وعمل .
ثانياً : الصدق والثبات والشجاعة إلى أقصى حدّ .
ثالثاً : الذكاء الحاد وخفة الظل التي قرّبت منه مفاهيم الدعوة للناس .
رابعاً : المواهب الشخصية التي حباه الله تعالى بها ، كالذاكرة الذهبية ، واللباقة والفصاحة التي لا مثيل لها .
وإذا كنا نذكر في عصرنا الحاضر للشيخ الشعراوي مثلاً أنه قد جعل من علم التفسير علماً شعبياً، ونذكر للشيخ الغزالي – رحمة الله عليه- أنه الحكيم الأول للدعوة الإسلامية المعاصرة، ونذكر للقرضاوي أنه فقيه الصحوة الإسلامية العالمية، ونذكر للشهيد سيد قطب أنه المفسر الدعوي للقرآن الكريم، ونذكر للمرحوم سعيد حوى أنه المفكر الموضوعي لعلوم القرآن والسنة، ومن قبل ومن بعد نذكر للإمام الشهيد حسن البنا، أنه البنّاء الأول للفكر الإسلامي المعاصر، فإننا نذكر للشيخ كشك رحمة الله عليه أنه المحامي الأول للحركة الإسلامية المباركة فقد دخل بالدعوة – بالمفاتيح التي سبقت الإشارة إليها آنفاً – إلى كل مكان .
كنتَ تسمع في أشرطته عند أساتذة الجامعات كما تسمعها عند سائقي السيارات وبائعي الفاكهة والعصائر، وكان يُحبه العلماء والمثقفون ، كما يحبه العامة والفلاحون والعمال .
وفي هذه الفترة – فترة إعادة التأسيس للعمل الإسلامي المعاصر – كانت المفاهيم الشمولية للإسلام قد غابت عن الناس كثيراً ، وكانت النظرة التكاملية للفكرة الإسلامية قد عبث بها أصابع الاشتراكية والماركسية والناصرية، وكانت رموز العمل الإسلامي تنتقل من كرب إلى كرب، والفضل يرجع – بعد الله تعالى – إلى هذا الرجل الراحل الشجاع، الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس، فدوّت على المنابر أسماءُ حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد فرغلي، وعبد القادر عودة، ويوسف طلعت، تماماً كما تُدوي أسماء ابن حنبل، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام، كذلك كانت لخبرة الشيخ كشك الواسعة في الحياة، وأنماطها الاجتماعية، وتمكنه من طرح رؤيته في مسائل المرأة والشريعة والتربية والجهاد والإصلاح الاجتماعي .. كان لذلك كله أبعد الأثر في التحليق بالدعوة في كل مكان .
وإذا كنا جميعاً نذكر للشيخ كشك أنه يكاد يكون الداعية الوحيد الذي ظل يخطب أربعين عاماً، ما أخطأ مرة واحدةً في اللغة العربية، فإننا كذلك نذكر له أنه كان أحد الثقاة المعدودين في علوم الحديث، فما رجع الناس إليه في مُعضلة إلا وجدوه بحراً زاخراً من العلم الأصيل العميق الدافق، فقد كان -رحمة الله عليه - يُفتي في مسائل الميراث شفوياً – وكان يحُل أعتى مشكلات الفقه والأصول، وكأنه يسكب ماءً زلالاً.
كذلك لا ننسى له أبداً .. أنه كان الداعية الأول الذي كسر حاجز الخوف عند الدعاة والمدعويين، فما كان لنا أن نكون بهذه الجرأة على المنابر، إلا حين وجدنا الفارس الأول الشيخ عبد الحميد كشك قد سبق بفدائية وجسارة إلى كسر هذا الحاجز، خاصة في فترات إعادة الحركة الإسلامية لنشاطها في بداية السبعينيات .
رحم الله شيخنا الجليل الراحل الشيخ عبد الحميد كشك – ورحم الله الداعية الجسور الراحل الدكتور عبد الرشيد صقر، الذي مع الشيخ كشك في نفس اليوم ، وسلام على الصادقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
والله أكبر، ولله الحمد
مصادر البحث :
1-قصة أيامي: مذكرات الشيخ كشك، المختار الإسلامي في مصر، ط 1987م .
2-ديوان تدمر : ص 155 .
3-ديوان تدمر: دار النواعير، بيروت – ط1، عام 2013م – ص 285- 287.
4-آفاق عربية – ديسمبر 1996م .
5-الحقيقة – شعبان 1417ه / ديسمبر 1996م ..
6- مقالة فهمي هويدي في مجلة العربي ( الكويت ) .
7- مجلة السنة – التي يصدرها في لندن الشيخ محمد سرور زين العابدين .
8- الموسوعة الحرة .
9- رابطة أدباء الشام – التي يشرف عليها د. عبد الله الطنطاوي .
10- منهج الشيخ عبد الحميد كشك في تفسيره (في رحاب التفسير ) – سمر عمر محمد الصفدي – رسالة ماجستير في جامعة غزة بتاريخ 2003م .
وسوم: العدد 770