حكايةُ بيْتيْنِ من الشِعر

ياسين سليماني

[email protected]

"كبِّر على العلْمِ ولا تَرُمـْه    ومِلْ إلى الجهلِ ميلَ هائمِ

وعِشْ   حماراً تَعِشْ سعيداً     فالسَّعدُ في طالِعِ البهائِمِ"

من الطبيعيّ والمعقول أن نقول أنّ صاحب هذين البيتين شاعر من الصعاليك أو من الذين لا أرَبَ لهم في العلم ولا زاد ، أو من الذين لم يأخذوا حظا منه قلّ أو كثر، ولكنّنا نتفاجأ أيّما مفاجأة حين نعرف أنّ قائلهما هو العالم الكبير الإمام عبد القاهر الجرجاني.

وشرح هذين البيتين مُتيسّر مع ترجمة المؤلّف وذلك في كتابه الشهير "دلائل الإعجاز" وهو كما يلي:

"كبِّر على العلم:أي كَبِّر أربع تكبيرات، وهي صلاة الجنازة، فقد مات العلم ولم يبق منه فائدة"

أمّا " الهائم فهو المُحبّ المدلَّهُ بالحب. في طالع البهائم: يشير إلى علم النجوم ومعرفة الطالع، فالبهائم وُلِدت وكواكب السعد طالعة، في حين أنّ المُتعلّمين من الناس وُلدوا وكواكب النحس طالعة" (1)ً

هذا العالِمُ الفذُّ هو صاحبُ هذين البيتين الذين يُصلّي فيهما صلاةَ الجنازة على العلم، ولابدّ لنا من التساؤل عن سبب ذلك، لأنّه بلا ريب حادث هام جعله يقول مقالته هذه.

لقد وُلِد الجرجاني في مطلع القرن الخامس الهجري، وهو من أصل فارسيٍّ ، من أهل جرجان (شمال إيران بين طبرستان وخرسان) ، فنشأ في هذه المدينة الحافلة بالمدارس والمجالس، وبعد أن أتمّ تعلُّمه وأتقن بعض العلوم تصدّر للتدريس في بلده، وبرز ابتداءً في مجال الشعر وحاول أن يتكسّبَ به غير أنّ الحظَّ لم يُحالِفه ، واشتدَّ سخطه على الدنيا وأحوالِها بعدما أضجره الشعر ، فمالَ إلى التأليف والتدريس وأبدعَ فيهما، وقيلَ أنّه تُوفِّيَ في 441 هـ دون أن يعرف المؤرخون سنة ميلاده.

وقد بلغ كتاباه" أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" من الشهرة ما لم تبلُغْه كتبه الأخرى مثل"المُغني" في ثلاثين جزءاً.

وكانت جُلُّ مؤلَّفاته في النحو، غير أنَّ فيها ما سوى ذلك، مثل" المختار من دواوين المتنبّي والبحتري وأبي تمّام" وقد طُبِع تحت عنوان "الطرائف الأدبيّة" ، ضمَّ عملُ الجرجانيِّ القسمَ الثاني من الكتاب المذكور.(2)

ولعلَّ قلّة الخير الموصول له من الشعر هو ما جعله يقول البيتين، خاصّةً أنَّ الشعر عند الجرجاني، كونُهُ عالِماً نحويّاً ، ليس قولاً على السليقة فقط، بل مجال لمدارسة اللغة وشؤونها أيضاً ولهذا قال ما قاله.

ويطرح البيتان المذكوران قضيَّةَ "العلم" من باب أنَّ التعلُّم يكون لذات العلم أم لغاية أخرى كالمال والشهرة، ولهذا كثُر شعراء المدح، كما كثُر شعراء الزهد، كلُّ واحدٍ من الجانبين يستعمل الشعر لغايةٍ ما...

فالضجر الذي يظهر جليّاً من كلام صاحبنا"الجرجاني" ليس ضجراً بالعلم ذاته- وإن بدا ذلكَ من ظاهر قوله- ولكنّهُ ضجر من المكانة التي ينالها صاحب العلم ، فإذا كان "العلماء ورثة الأنبياء" ، أي أنَّهم ذوو مكانةٍ عليا في حقيقة الأمر، ففي حالة الجرجانيِّ وواقعه المَعيش نرى أنَّه لم يأخذ حقَّه كما ينبغي من جهة الوضعيّة الماديّة في ذلك الوقت على الأرجح، رغم المكانة التي تبوَّأها بين جهابذة اللغة عبر العصور.

أمّا عن نُصحِه للمُتعلِّمِ أن يعيش كالحمار، فلا يراه الرائي إلاّ قولاً جاء في لحظة عصيبة من القلق والتوتُّر جعلته يتفوَّه بهذا الحديث وما يدرينا أنَّ آذاناً تلقَّفته فجرت الألسنُ في قوله فنسخه الناسخون وحفظه الحُفّاظُ وأضحى الناس يقول : الجرجاني يقول كيت وكيت...

وممّا يوطِّدُ الظنَّ بأنَّ الجرجاني قال مقالته تلك في الحالة التي ذكرنا هو قوله في موضع آخر:

قولوا وإلاّ فأصغوا للبيانِ تروا   كالصبحِ مُنبلِجاً في عينِ رائيه(3)

فانظر-وقال الله- كيف لهذا العلَم ذي اليد الطولى في المعرفة يقول عن البيان- وهو من المعارف- أنَّه صبح منبلج أو كالصبح المُنبَلِج تأكيداً على أهميته وعُلُوِّ كعبه بين العلوم، فإذا قرَّ هذا في دخيلة أنفسنا بأنَّه لإقرار بمكانة هذا العِلم (وهو خاص) فكيف يظنُّ الظان منّا أنَّ الجرجاني يحتقرُ العلمَ ومريديه؟!

وهذا البيتُ الذي ذكرناه آخراً هو نهاية منظومة شعرية نظمها حولَ "النحو" بدأها بقوله:

إنّي أقول مقالاً لستُ أُخفيه   ولستُ أرهبُ خصماً إنْ بدا فيه  

فإذا أجاز الجرجاني لنفسه الإبحار في النظم حول علم من العلوم فأنّى له-كما ذكرنا أنفاً- أن يحتقر العِلم بشموليته وإطلاقيته.

هذا عن قصة البيتين.

رحِم الله الجرجاني فقد كان-ولا يزال- ملأ السمع والبصر في الأدب والنحو ، وأثابه عن اللغة العربية الشامخة الجزاء الوافر.

              

(1)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، شرح وتعليق: محمد ألْتُنْجي ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان،ط1، 2005م، ص06.

(2)  المصدر نفسه، ص07.  

(3)  المصدر نفسه، ص17.