فرسان البحر

(في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(1)

مِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

**********

 عزيزي القارئ: في حلقات سابقة من ديوان العرب: تحدثنا عن السيوف والرماح، والخيل، والبطولة، والأبطال، من الراجلين والفرسان.. أعني فرسانَ البرِّ الذين كانت مطيتهم الخيول. أما هذه الحلقة فهي للحديث عن "فرسانِ البحر" الذين كانت مطاياهم الأساطيل، وميادينهم عباب البحار.

 وينقل لنا التاريخ أن المسلمين استطاعوا أن يحققوا بطولات رائعةً في معاركهم البحرية التي خاضوها ضد أعدِائهم، واستطاعوا خلال عشرات من السنين أن يهيمنوا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ويؤمنوا الإبحار في مداه الواسع، حتى وصفه بعض كتاب الغرب، بأنه أصبح "بحيرة إسلامية".

**********

 ومن أشهر المعارك البحرية التي سجل فيها المسلمون انتصارات باهرة معركة (ذات الصواري) . كما استولى المسلمون  في عهد عثمان  رضي الله عنه  على جزيرة قبرص، وفي عهد معاوية استولوا على جزيرة رودس وجزيرة كيريت وغيرها  وظل يحاصرُ القسطنطينية عاصمة البيزنطيين قرابةَ سبعَ سنوات، وكان أسطول معاوية في البحر المتوسط ألفاً وسبعمائة سفينة، وقبل أن نستنطق ديوان العرب ليبوح بما فيه عن فرسان البحر، تعالَ معنا لنرى بعضَ ما ما رصدهُ في وصف "مطايا" هؤلاء الفرسان.. نعني الأسطول.

 وربما كان أقدم وصفِ لسفينة حربية ما قدمه مسلم بن الوليد في قصيدة منها الأبيات التالية:

إذا  أقـبلت راعتْ بقنة iiراهب
تـجـافى بها النوتيُّ حتى iiكأنم
أطـلـت  بـمجدافين iiيعورانه
فـحـامت  قليلاً ثم مرت iiكأنه



وإن أدبرت راقت بقادمتيْ iiنسر
يسيرُ من الإشفاق في جبل وعر
وقـومـها كبح اللجامِ من iiالدبر
عقاب تدلت من هواء على iiوكر

**********

 وفي مطالع القرن الرابع الهجري كان أسطول المعز لدين الله الفاطمي يحققُ انتصارات باهرة على الروم، ومن ضمنِ ما قاله فيه ابن هانئ الأبياتُ التالية:

أما والجواري المنشآت التي سرتُ
قبابٌ  كما تزجي القبابَ على iiالمه
أنـافـتْ  بـهـا أعلامها وسمالُه
إذا  زفـرت غيظًا ترامت iiبمارج
فـأنـفـاسهن الحامياتُ iiصواعق




لـقـد ظـاهـرتها عدةٌ.. iiوعديدُ
ولـكـن  مـن ضمت عليه أسودُ
بـنـاءً  عـلى غير العراءِ iiمشيدُ
كـمـا  شب من نار الجحيم وقودُ
وأفـواهـهـن  الـزافرات iiحديدُ

 وليس كل من امتطى ظهور سفن الأسطول من المقاتلين، فهناك من يشرفون على المؤنِ والسلاح، وهناك الخبراء المتخصصون في توجيه السفنِ وقيادتها، ومعرفة أحوال البحر من مد وجرز وأعماق. إنهم البحارة أو النوتية المتمرسون . وفي واحد من هؤلاء يقول مسلم بن الوليد:

أنافَ     بهاديها،    ومد   زمامه        شديدُ علاجِ الكفِّ معتمل الظهر

إذا ما عصت أرفى الجرير لرأسه        فملكها عصيانَها، وهي لا تدري

**********

 وفي منتصف القرن السادس الهجري ينتصر طلائع بن زريك على الفرنجة الصليبيين انتصارًا كاسحًا في معركة برية، ثم انتصارًا ساحقًا في معارك بحرية، وفي ذلك يقول الشاعر الأمير أسامةُ بن منقذ:

غـزوتـهـم في أرضهم iiوبلادهم
فـأفـنـيتهم  قتلا وأسرًا iiبأسرِهم
فـلـمـا  أبادتهم سيوفك iiوانجلت
غـزوتهم في البحر حتى كأنما iiال
بـفـرسـانِ  بحرٍ فوق دهم iiكأنه
يـصـرفـهـا  فـرسانها iiبأعنة
إذا دفـعـوهـا قلت فرسانُ iiغادةٍ






وجـحـفـلهم في أرضها iiمتزاحمُ
فـنـاجـيـهم  مستسلم أو iiمسالمُ
عـن  الأرض منهم ظلمةٌ iiومظالمُ
أسـاطـيـل  فيه موجه iiالمتلاطمُ
عـلـى  الماء طيرٌ ما لهنَّ iiقوادِمُ
جرت حيث لم توصل بهن الشكائم
سـروا  بـجـيـاد ما لهنَّ iiقوائمُ

ثم يقدم أسامة بن منقذ بعض لقطاتِ من شاهدِ الهزيمة الساحقة التي نزلت بالأعداء فيقول:

يـسـوقُ أسـاطـيلَ الفرنج iiإليهمُ
دمـاؤهـمُ  في البحر حمر iiسوابخ
فلم يخف في فج من الأرض هاربٌ
وعـادَ  الأسـارى مردفين iiوسفنهم
وما  دون أن يفنى الفرنجُ وتفتح ال




حـمـامٌ،  وطـيـر للفرنج iiأشائم
وهـامـهـمُ  في البر سحم iiجواثم
ولـم يـنـج في لج من الماء عائمُ
تـقـادُ  كـما قادَ المهارَى iiالخزائمُ
بـلاد سوى أن يمضي العزْمَ iiعازِمُ

**********

 وفي سنة أربع وتسعينَ وخمسمائة: نزلَ الفرنجةُ ، وحاصروا حصن تبنين بالشام وضيقوا على أهله برًّا وبحرًا، فلم يتركوا لهم مخرجا، فزحف إليهم الملك العزيز بن صلاح الدين الأيوبي، وخلص الحصن من الفرنجة وأنزل بهم هزيمة عاتيةً في البر والبحر.

 وقد نظم ابن سناءِ الملك قصيدة طويلة بهذه المناسبة استهلها بوصف جيش الفرنجة والحصار الذي فرضوه على الحصن وأهله فقال (مخاطبًا الملك العزيز) :

جـئـت لـتبنين ومن iiحوله
سـدوا عليها الطرق حتى iiلقد
سـاق  إليها الكفرُ أجناسه iiال
مـن كل من يزأر من iiغيظه
إمـا  عـلى البرأتى iiراكضً
وطـبـقـوا  البحر سفينًا iiفم





قوم  كأعداد الحصى iiللحصارْ
كـادوا يسدون طريق iiالقطارْ
عـظـام قادتها الملوك الكبارْ
كـأنه من مغربِ الشمسِ iiنارُ
أو بجناح القلع في البحر طارْ
وأحـدقـوا كالقيد لا iiكالسِّوار

 كانت هذه هي حال الفرنجة سيطرة.. وهيمنة وغرورا، قبل أن يزحف إليهم العزيز الأيوبي، فلما هبط عليهم تحولت حالهم إلى النقيض. ولنستمتع إلى ابن سناءِ الملك، وهو يوجه خطابه إلى العزيز الأيوبي:

وكـان  أهل الكفر في iiجمرة
وانـهزموا  للبحر إذا iiبصرو
وعـذرهم  إن هربوا iiواضحٌ
أمـنـت ذاكَ الثغرَ من عقرهِ
ومـن  حصار الكفر iiخلصته




فـعندما أطللت طاروا iiشرارْ
بـحر وَغى تغرق فيه البحارْ
هـل يثبت الليلُ أمام iiالنهار؟
ومـنـكَ لم يقدر عليه iiقداره
بالبأس من حلقات ذاك الإسار

 (2)

 عزيزي القارئ: كانت هذه إضاءات سريعة ألقاها ديوانُ العرب على فرسان البحر في المشرق، ولم يبق علينا إلا أن نتابع المسير في ديوان العرب لنتعرف على صورة فرسان البحر في غرب البحر الأبيض المتوسط والأندلس :

ونلاحظُ أن وصف الأساطيل قد تطوّر تطورَ الأساطيلِ نفسها ببناء الشواني أي البوارج الضخمة، ذاتِ الأبراجَ التي كانت ترمي سفن الأعداء بالمقذوفات النفطية الحارقة، وفي ذلك يقول ابن حمديس في مدحه للحسن بن علي أحد أمراء بني زيري:

أنـشـأت شواني iiطائرة
بـبـروج قـتال iiتحسبه
ترمي ببروج إن ظهرتْ
وبـنـفط  أبيض iiتحسبه



وبـنـيت على ماء iiمدنا
فـي  شـم شواهقها iiقننا
لـعـدو  مـخرمة iiبطنا
مـاء،  وبه تذكي iiالسكنا

لقد برع الشاعرُ ابن حمديس في وصف السفنِ الحربية قاذفة اللهب، وسر براعته أنه كان يصدر عن رؤية حقيقية. لقد رأى ابن حمديس واحدة من هذه السفن الحربية، وهي تقذف بحممها على سفن الأعداء، في معركة ضارية سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. ومما قاله فيها:

رأوا  حـربية ترمي iiبنفط
كأن المُهل في الأنبوبِ منه
كـأن  منافس البركان iiفيه
نحاسٌ  ينبري منه iiشواظٌ



لإخماد  النفوس له iiاستعار
إلى  شيِّ الوجوه له iiابتدارُ
لأهوال  الجحيم بها iiاعتبارُ
لأرواح  الـعـدو به iiبوار

ولكن هذه القذائف ما كانت تنطلق من "الحربية" إلا إذا أحكم إطلاقها أبطالٌ أقوياء شجعانٌ مهرة، حتى ليعتقد الرائي أنهم من الجن لا الإنس

**********

 ونجد هذا المعنى في بائية عليِّ بن محمدٍ الإيادي، إذ يقول:

وكـأنـمـا جـن ابـن داود iiهـمُ
سـجـروا جـواهـم بينهم فتقاذفو
من  كل مسجون الحريق إذا iiانبرى
عـريـان يـقـدمـه الدخان iiكأنه



ركـبـوا جـوانبها بأعنف iiمركب
مـنـهـا  بـألـسن بارج iiمتلهب
من سجنه انصلت انصلات الكوكب
صـبـح  يـكر على ظلامٍ iiغيهب

**********

ويخاطب علي محمود طه واحدًا من فرسان البحار قائلاً:

يا  ابن البحارِ وليدًا في iiمسابحه
يا عالم الماء؟ يا ربان، صفْه لن
ومـا  حـياة الفتى فيه؟ iiأتسلية
مـصـارع لـلـفدائيين يعشقه
مـنـيـة  كـحياة كلما iiذكرت




ويـافـعـا يؤثر الجُلى ويختار
فـما تحيط به في الوهم iiأفكارُ!
وراحـة؟ أم فـجاءات وأخطارُ
مـستقتلون  وراء البحر iiأحرارُ
تـجددت لك في الأجيال iiأغمارُ

**********

 ولكن تبقى قصيدة: علي محمود طه في طارق بن زيادٍ وفتحِ الأندلس مِنْ أخلد القصائد العربية، وأجملها تصويرًا، وقد استهلْ الشاعرُ قصيدته بالحديث عن أبطال هذا الفتح العظيم الذين كانوا اثني عشر ألفًا على أسطول كبير. وفي هذا الاستهلال يقول علي محمود طه :

أشـبـاح جن فوق صدر iiالماءِ
أم  تلكَ عقبان السماء وثبن iiمن
لا،  بـل سفينٌ لحنَ تحتَ لواء


تـهـفـو بأجنحة من الظلماء؟
قنن الجبالِ على الخضم النائي؟
لـمن  السفينُ ترى وأيُّ iiلواءِ؟

 ويمضي الشاعرُ بطريقةِ الاستفهامِ التعظيمي يرسمُ الملامحَ الحسية والنفسيةَ لطارقِ بن زياد "الفتى الجبار" وهي صورة حية آسرة، تعتمد على اللون والحركة. يقول الشاعر:

ومن الفتى الجبارُ تحت iiشراعه
يـعـلي  بقبضته حمائلَ iiسيفه
وينيل  ضوء النجم عالي iiجبهة
ذهـبٌ  ببوتقة السنا من iiذوبه
لون جلت فيه الصحارىَ سحره




مـتـربصًا  بالموجِ، iiوالأنواءِ
ويضم  تحت الليل فضل iiرداءِ
مـن وسـم إفـريقية iiالسمراءِ
مـسـحت محياه يد iiالصحراء
تـحـتَ  النجومِ الغر iiوالأنداء

 ويمضي الشاعر في رومانسيتيه المستغرقة عن السماء، وبحرِ الأساطير الذي يشقَ طارقً عبابه، وعن المدائن السحرية ثم يلتفت بعد ذلك إلى طارقِ قائلاً:

حـتـى  طـلـعت به فكنت iiحديثه
ويـسـائـلـونَ  بك البروق iiلوامعً
مـن  عـلـم الـبدوي نشر شراعه
أيـن  الـقفارُ من البحار؟ وأين iiمن
يا ابن القباب الحمر: ويحك من رمى




عـجـبًـا! وأيُّ عـجائب iiالأنباء!!
والـمـوجُ فـي الإزبـادِ iiوالإرغاء
وهـداهُ  لـلإبـحـارِ iiوالإرسـاءِ؟
جـنّ  الـجـبـال عرائس iiالدأماء؟
بـك فـوق هـذى الـلجة الزرقاءِ؟

 وينزلُ طارق بجيشه على شاطئ الأندلس، ويسحق جيش الفرنجة، ويقتل قائدهم الملك "لوذريك"، ويخطبُ طارقُ في جيشه قائلاً: "العدوُّ أمامكم، والبحر خلفكم، وأنتم في هذه الجزيرة أضيعُ من الأيتام على موائدِ اللئام، وليس لكم ما تأكلونه إلا ما في أيدي أعدائكم". وقام بحرق الأسطول الإسلامي كله، حتى يستميثت جنوده في القتال، ولا يلجأ واحد منهم إلى الهرب. وقد قدمَ الشاعرُ هذا المشهدَ في الأبياتِ التالية:

ووقفت  والفتيان حولك، iiوانبرت
"هـذى الـجزيرة إن جهلتم أمره
الـبـحـر خلفي، والعدو iiإزائي
وتـلـفـتوا، فإذا الخضم iiسحابةٌ
قـد  أحـرق الـربانُ كل سفينة




لـك  صـيحة مرهوبة iiالأصداء
أنـتـم بـهـا رهط من iiالغرباء
ضاع الطريقُ إلى السفينِ ورائي"
حـمـراء  مطبقة على iiالأرجاء
مـن خـلـفـه إلا شراع iiرجاء

**********

 ونأخذ على الشاعر هنا: أنه يردد أكذوبة رددها بعض المؤرخين،  وربما أغلبهم  وهي حرق طارق للأسطول، نعم إنها أكذوبة لا تصمدُ أمام النقد الحصيف :

 فالأسطول لم يكن مخصصًا لحمل الجنود فحسب، بل إن بعضَ سفنه كانت مخازن للسلاح، والذخيرة والطعام.

 ولأن "طارق" لا يجرؤ أن يتخذ مثل هذا القرار الخطير دون الرجوع إلى رئيسه الذي بعثه على رأس هذه الحملة، وهو موسى بن نصير.

 ولأن الجبان المخلوع القلب لا يوقفه عن الهرب شيء، وجيش طارق كان من البربر الشجعان الأقوياء، وكانتْ عقيدة الجهاد في سبيل الله هي أقوى البواعث على الثبات، والتقدم.

 والأسطول "مال عام" وحرقه عمل مخالف للشرع، وخصوصًا أنه لا مبرر معقولاً له. في وقت كانت صناعة سفينة واحدة فيه عملاً كبيرًا يستنفد كثير من الوقت والمال والمجهود.

 والجيش على المدى الطويل يحتاج إلى الأمدادِ من الرجال والسلاح، ولا وسيلة لذلك إلا الأسطول.

 وحرْق الأسطول يأتي بنتيجة عكسية. إذ يجعلُ الفرنجة يقاتلون بضراوة، إذا علموا أن طارق حقق بيديه ما كانوا يطمعون في بعضه، وأن وسيلة الأمداد الوحيدة قد حرقت.

 إنها أكذوبة من حقنا ومن حقك أن نرفضها، لكن يبقى فتح الأندلس صفحة وضيئة في سجل البطولة البحرية الإسلامية. وإلى اللقاء في حلقة جديدة من ديوان العرب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.