الصليبية والاستعمار 3

الصليبية والاستعمار..

3

د. نجيب الكيلاني

بادئ ذي بدء يجب أن نقرر أن الإسلام له نظرته الخاصة إلى الأديان والأنبياء في مراحل التاريخ السابقة للدعوة الإسلامية، وهي نظرة عميقة خالية من أي زيف أو تعصب، فالأديان السماوية كلها من عند الله. والرسل والأنبياء مكلفون بتبليغ رسالة الإسلام إلى البشر "إن الدين عند الله الإسلام" (1) وعدد من آيات القرآن الكريم تؤكد هذه الحقيقة، ولا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن بالرسل والأنبياء والكتب التي أنزلت قبل الإسلام "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" (2).

هذا هو المسلم الذي لم يقع بينه وبين الأديان السابقة خلاف إلا حول النقاط التالية:

* أولاً: التحريفات والزيادات أو النقص الذي أدخله بعض ذوي الهوى والأطماع على الأديان السابقة.

* ثانياً: موقف أصحاب الأديان السابقة من محمد صلى الله عليه وسلم ومن رسالته التي جاءت مصححة لما أصاب الديانات السابقة من تحريف وزيغ وشك.

* ثالثاً: موقف أصحاب الديانات السابقة من الإسلام الذي أتى بأشياء تتفق وفطرة الإنسان وطبيعة الخلائق والأكوان ومن الشرائع المكملة المفصلة المهيمنة على الشرائع التي قبلها، وخاصة فيما يتعلق بعموم الرسالة المحمدية وشمولها والحقائق الأزلية التي تتفق مع كل زمان ومكان.

* رابعاً: قضية التوحيد التي هي لب الأديان كلها، فقد عمدت الأجيال التالية لكل دين إلى بث الأوهام والأخطاء والخلط في مفهوم التوحيد والألوهية.

فالذنب إذن ليس ذنب المسلمين فيما استحر من عداء وخلاف بين الرسالة المحمدية الصافية الصحيحة وبين غيرها من الرسالات التي اكتظت بالانحراف والتخبط والبعد بالتوحيد عن أهدافه السامية، وصورته السليمة.. ومن هنا دب الصراع، ونشبت الحروب بين الإسلامية وأعدائها، واستطال أمر هذه الحروب، وتفشى عبر القرون الطويلة، علماً بأن الإسلام يدعو أتباعه إلى أسلوب من الدعوة فيه الرفق والهوادة واللين، أسلوب يعتمد على الإقناع والمنطق "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين، وإن عاقبتم فعاقبوا مثل ما عوقبتم بي، ولئن صبرتم لهو خير الصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(1).

ذلك هو أسلوب الدعوة الإسلامية طوال حقب التاريخ، ولم يتزعزع هذا الأسلوب أو يضطرب حتى في الأوقات التي كانت للإسلام فيها سطوة أي سطوة، حينما انتصروا وسادوا وحكموا حيزاً ضخماً من العالم المعمور، وكان بإمكانهم أن يسوقوا الناس سوقاً إلى حظيرة الإسلام ترهيباً أو ترغيباً، لم يفعلوا ما فعله الأوربيون حينما انعقدت محاكم التفتيش في إسبانيا وغيرها، فأذاقت المسلمين الويل والثبور، وعظائم الأمور، فسفكوا الدماء، وقادوهم قسراً لاعتناق المسيحية، ولم يفعل المسلمون ما فعله رجال الكنيسة عندما اضطهدوا مخالفيهم في الرأي من المسيحيين أنفسهم، وحكموا عليه بالحرق أو قادوهم إلى المقصلة، وتاريخ التعصب الكنسي يعرفه كل من له دراية ولو قليلة بالتاريخ..

وفي عصور الحروب الصليبية حدث شيء جديد.. إن أوربا تطلعت بعين الطمع والشراهة إلى بلاد المسلمين، حيث الثروات الضخمة والموقع الاستراتيجي الممتاز، وقد تلونك هذه الأطماع ببريق الأمجاد العسكرية والقومية، والأخذ بالثأر من الانتصارات الباهرة التي حققتها جيوش المسلمين في عصر الدعوة الإسلامية الأول، وقد وجد الملوك والنبلاء والقواد الفرصة سانحة لديهم كي يعقدوا أحلافاً غير مقدسة مع رجال الكنسية، ومن هنا اشتعلت مشاعر الجماهير المسيحية تعصباً وطمعاً، وانطلقت الجيوش الأوربية تحت شعار الجهاد المقدس، وظلت هذه الحروب مشتعلة الأوزار لأكثر من قرنين من الزمان، لقد امتزجت أطماع الاستعمار بوهم الجهاد المقدس لدى الأوربيين أملاً في استلاب ثروات المسلمين، والقضاء على تراثهم الديني وعقيدتهم السمحاء، ورغبة في فتح آفاق جديدة للتجارة، وكان ذلك بداية الاستعمار في العصر الحديث، وقد عانى المسلمون الكثير من جراء هذه الحروب الطويلة التي استنفدت طاقاتهم واستنزفت ثرواتهم، وصرفتهم عن البناء والامتداد السلمي لفترة.. وليس صحيحاً ما يقال عن أن هذه الحروب الصليبية قد قامت من أجل تأمين طريق الحج للمسيحيين إلى بيت المقدس، لأن العصابات التي كانت تتعرض للمسافرين أحياناً كانت مجرد انحرافات فردية، قوامها بعض اللصوص وشذاذ الآفاق، وكان هناك شبيه لهذه العصابات وقطاع الطرق في طريق الحج إلى مكة أيضاً، وكانت الحكومات في البلاد الإسلامية تحارب هؤلاء وهؤلاء وتقاومهم وتخضد شوكتهم، وكان في الإمكان التفاهم بشأنهم بين الدول المعنية وإبرام الاتفاقات بشأنهم..

مرة ثانية أؤكد ما أكده كثير من المؤرخين من أن التحالف الصليبي الاستعماري لم يكن يقصد وجه الله، وإنما كان الهدف منه مقاصد دنيوية، يكمن وراءها الكسب المادي، وخنق الحركة الإسلامية الصامدة الغالبة التي تقف حجر عثرة في طريق الأطماع الأوربية والهوس الديني الأوربي، وهذا لا ينفي بالطبع أن هناك فئة من المحاربين كانوا يتحركون بدافع القضاء على الإسلام للتمكين للمسيحية هؤلاء المخدوعون، كانوا يعتقدون أنهم يحاربون في سبيل الله، ويريدون نشر المسيحية وسيطرتها، وليس أدل على خداعهم من أن المسيحية نفسها لا تدعو لهذا اللون من الصراع الدموي الرهيب، وهذا الظلم الفادح أو التنكيل بالأبرياء، فرسالة المسيح محبة وسلام، وتفاهم وصفح وغفران، وهذا شيء لا يختلف عليه اثنان، ولو أن المسلمين قد أعلنوا التعبئة العامة، وأرادوا غزو العالم المسيحي في ذلك الوقت لكان للحروب الصليبية عذر في أن تشتعل، أما وأن المسلمين في تلك الحقبة الزمنية كانوا في موقف الدفاع عن النفس فإن ذلك كله يؤكد ما توصلنا إليه من أن هذه الحروب التي أشعلها الغربيون كانت تحركها الأطماع الاستعمارية، فاستغلوا التعصب أو الهوس الديني في تحقيق أغراضهم أو أهدافهم الخبيثة.

ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف وضع الصليبيون والاستعماريون أيديهم في أيدي اليهود –أعدائهم التقليديين الذين يلعنونهم في كل صلاة - ويمدونهم بالمال والسلاح لتدمير العرب والمسلمين، ويقتطعون جزءاً غالياً من أرضنا ويقدمونها قرباناً للصهيونية الجامحة، كي تنفذ لهم مخططاتهم الخبيثة لضرب الإسلام في عقر داره، ألم يقل "روستو" مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق "جونسون" في محاضرة له بإحدى الجامعات الأمريكية، بأن "إسرائيل هي الامتداد الطبيعي للحضارة المسيحية في الشرق، وأن وجودها ضروري لوقف الزحف الإسلامي الذي هدد أوربا قروناً عديدة". فوجود إسرائيل (اليهودية) امتداد للحضارة (المسيحية).. وهي في نفس الوقت ضمان لعدم تكرار الحروب الصليبية.. هكذا يقولون.. وهو قول لا يختلف كثيراً عما قاله القائد الفرنسي الذي وقف على قبر صلاح الدين بعد الاحتلال وأعلن في فخر قائلاً:

"الآن انتهت الحروب الصليبية..".

إنه ينظر إلى الحروب والاستعمار في القرن العشرين على أنهما امتداد للحروب الصليبية.. لكنه يزعم أن الحروب الصليبية قد انتهت.. لا.. إن الحرب الصليبية ما زالت قائمة وممتدة، ما دامت هناك مصالح وأطماع لهم في الشرق، وما دام هناك طائفة ممن يتصفون بالهوس الديني والتعصب الأعمى، وما دام هناك إجماع من أعداء الإسلامية على ملاحقتها وضربها في عقر دارها، ومحاصرتها حتى لا تنطلق أو تسود فتهدد مطامعهم ومخططاتهم.. وقد اتخذت الحروب الصليبية في عصرنا أسلحة شتى إلى جانب التهديد العسكري، والعدوان الصهيوني الذي يعتبر مخلباً للأحقاد الاستعمارية والصليبية، فهناك الغزو الفكري الذي اتخذ له من أدمغتنا وأفكارنا وعاداتنا وتقاليدنا وسلوكنا ميداناً له.. فأصبح المسلم نفسه، بعد أن شكلته التربية الغربية، وأثرت في سلوكه ومنهجه وفكره، أصبح هذا المسلم هو الجندي الجديد الذي يحارب أمته بأفتك سلاح وأخطره، ويا ليت قومي يعلمون..

وهناك نقطة أخرى في غاية الخطورة...

ألا نلاحظ أن الدعوة إلى المسيحية في أوربا قد تقاعست وانكمشت وفي نفس الوقت نرى الحركات التبشيرية، خارج أوربا، قد انتعشت، ورصدت لها الحكومات الإمكانيات الضخمة في آسيا وإفريقيا بالذات؟؟ إن المبشرين هم طليعة القوات الغازية المستعمرة، والمبشرون هم الطابور الخامس الذي لعب أخطر الأدوار في الصراعات الدامية على أرض هاتين القارتين، فقد ثبت بالدليل القاطع أنهم اشتركوا في التخطيط لكثير من المؤامرات والانقلابات والحروب الأهلية، وساهموا في إعداد جيوش المرتزقة، وقبض على الكثيرين منهم وأدينوا وحكم عليهم بالإعدام أو السجن أو الطرد، حدث ذلك في السودان وأوغندا وغيرهما، ولقد كانت مدارس المبشرين ومستشفياتهم وأماكن العبادة الخاصة بهم هي معامل التفريخ لتخريج المنحرفين والخونة والمتعصبين، وبعض هؤلاء وصل إلى مراكز القمة في كثير من البلدان، وتركوا بصماتهم على أجهزة الحكم، وأثروا أيما تأثير في مجريات الأمور بتلك البلاد، وقد أزيح الستار عن كثير من المخططات الرهيبة التي وضعتها المؤتمرات التبشيرية، ونشرت بعض الوثائق الهامة بهذا الصدد، وأصبح واضحاً أن ضرب الحركات الإسلامية، التي حاولت النهوض بالإسلام في العصر الحديث، في كثير من البلدان الإسلامية، كان ضرب هذه الحركات بتحريض أو بوحي من سدنة الحلف الشيطاني بين الصليبية والاستعمار، بعد أن تنبهت هذه الحركات لما يحاك ضد الإسلام من مؤامرات وتخطيطات جهنمية فتصدت لها كي تحد من خطرها، وتمنع المسلمين من شرورها، وتحمي الأمة من الفناء والدمار.

الأمر واضح لا يحتاج إلى تفصيل أو تحليل، لكن المشكلة أننا نحن المسلمين، لم نزل نغط في نوم عميق، ونستبعد أن تكون الأمور على هذه الصورة من الخبث والدهاء، وكلما قلنا هذا الكلام رد المخدوعون قائلين بأننا نعلق أخطاءنا وتخلفنا على مشجب الاستعمار والصليبية، ويا ويلنا إن بقينا على هذه الحال من السذاجة أو حسن النية..

لقد أدخلت أوربا في روعنا أن التمسك بالدين هو التخلف، وأن التصدي للصليبية المخادعة الطامعة هو التعصب بعينه، وأن رفض البدع الحضارية المدمرة لأخلاقنا وقيمنا هو محاربة للتقدم والمدنية. وأن الحفاظ على مكونات شخصيتنا الإسلامية وتراثنا الحضاري هو الرجعية وإهدار القيم الإنسانية، وأوهمتنا أننا في مرحلة الطفولة أو المراهقة ولا نقدر الحرية قدرها، ومن ثم فلا بد أن نعيش في ظل التبعية والانتماء للقوى الكبرى، واستغلت جهلنا وسذاجتنا وانحراف بعض المفكرين فينا، فاستولت على مقاليد أمورنا، ونزحت ثرواتنا وخاصة بترولنا ومعادننا، وأقامت على أشلائنا وتعاستنا وعذابنا حضارتها الصناعية الجبارة، لقد أخذت أوربا علومنا ومعارفنا، وجعلتها أساساً لتفوقها العلمي والتكنولوجي ثم رمتنا بالجهل والتخلف، كانت تترجم تراث أجدادنا ومناهجهم في البحث والفلسفة والعلوم الرياضية والطب وغيرها إلى لغاتهم، ثم يتفوقون علينا ويزعمون أنهم أساتذة الأجيال، مع أن تراثنا هو أستاذهم الأكبر، بل إن الكثير من تشريعاتنا الإسلامية قد اقتنصوها وأخذوا منها وزادوا فيها أو أنقصوا منها، وجعلوا الكثير منها أسلوباً لهم في بعض مناحي حياتهم ثم نسبوها إلى علمائهم ومفكريهم.. وهذا شيء لا نعيبه عليهم ولكننا ننكر منهم رمي تراثنا بالتخلف، ومحاربة إسلاميتنا التي كانت سبباً في سيادة حضارتنا، كما كانت أساساً لنهضتهم في أوربا، وهذ1 دليل آخر على ما تشتمل عليه إسلاميتنا من بذور صالحة للنمو والعطاء.

كثيرون من مفكري الغرب قد أكدوا تلك الحقائق التاريخية، ودعموها بالأدلة الدامغة، والوثائق والبراهين، فلنقرأ "كتاب شمس العرب تشرق على الغرب" ولنقرأ كتاب "الإنسان ذلك المجهول" ولنقرأ ما كتبوه عن ابن سينا والبيروني والفارابي وابن رشد وابن النفيس وابن الهيثم وجابر بن حيان والإدريسي وابن بطوطة وابن خلدون والغزالي وغيرهم، فكيف نتقاعس ونتكاسل ونحن نملك البذرة الطيبة، والتربة الصالحة، والثروات الضخمة، والقوى البشرية الهائلة، والأرض الشاسعة، والمواقع الرائعة، والأنهار الفياضة، وشواطئ البحار، والتاريخ الرائع، والمواهب الفذة، والتراث الإسلامي الخالد؟

ماذا بقي من مؤهلات التقدم والتطور والنجاح حتى نخطو الخطوة التاريخية الحاسمة التي تعيد الحق إلى نصابه، وتضع مقاليد الأمور في الأيدي الأمينة الطاهرة التي تستطيع أن تنهض بالعالم من كبوته، وتحقق السعادة والرخاء لبني البشر؟؟

نعود فنقول: إن الأعداء يخافون على مصالحهم أكثر مما يخافون على دينهم.. وأن عداءهم للإسلامية أكثر بكثير من حبهم لدينهم.. وأن تعاطفهم مع الصهيونية ليس هياماً وعشقاً لمبادئها، وإنما أملاً في ضرب القوى الإسلامية، وتخلصاً من مشاكل الصهيونية وخبثها ونواياها السيئة الغادرة، ومشاركتها للشيوعية في ضرب المسلمين، وبث الخلاف والشقاق بينهم، لا من أجل سواد عيون الماركسية، ولكنه نابع من حقد صليبي قديم يدفعهم إلى الرغبة في اقتسام الغنائم لدينا، والأخذ بنصيب من ميراث الإسلام والمسلمين، وليست "سياسة الوفاق" المزعومة بين الكتلة الشيوعية وأمريكا إلا ستاراً يخفي وراءه الحقيقة المرة ألا وهي سياسة "تقسيم مناطق النفوذ" سواء أكنا ندري أو لا ندري، فالكفر ملة واحدة..

وهناك لعبة أخرى دأب الاستعمار الصليبي أو الصليبية المستعمرة على القيام بها، وهي إثارة الفتن بين الدول العربية والإسلامية وتمزيقها وتقسيمها، نرى ذلك واضحاً في مشاكل الحدود التي لا يكاد شعب من الشعوب الإسلامية إلا ويعاني منها، وما حادث الصدام بين الهند وباكستان ببعيد، وهناك التقسيم الذي حدث في باكستان ثم انفصال مصر والسودان، والحرب الأهلية في لبنان، والأزمة المستحكمة بين اليونان وتركيا، والخلافات في الحدود بين الإمارات في الدولة الواحدة، وخلافات في المغرب العربي والمشرق العربي، ثم أليس عجيباً أن تعاني الأقليات الإسلامية الأمرين دائماً في مختلف أنحاء العالم الإسلامي سواء في الهند أو الفليبين، وما حدث من مجازر في نيجيريا وأثيوبيا وأندونيسيا وغيرها لأكبر دليل على التخطيط التبشيري والاستعماري في تلك المناطق، وأحياناً يختلق الإعلام الغربي الأزمات المفتعلة بين الدول الإسلامية، فتتحول الظنون والشائعات إلى صدام مسلح وحروب عسكرية وإعلامية، تضيع فيها الدول الإسلامية طاقاتها هدراً، وتؤخر عملية النمو والتطور، وبذلك تظل تلعق جراحها، وتؤرث أحقادها، وتبدد طاقاتها فيما يضر ولا ينفع، إن مثل هذه الخلافات يجب أن تسوى وتوضع لها الحلول السريعة الحاسمة بوحي من الأخوة التي تربط بيننا، وبدافع أننا أمة واحدة متآزرة تظلها راية واحدة، هي راية الإسلام، ولن نستطيع أن نحشد قوانا الإسلامية في مواجهة العدوان الاستعماري الصليبي، وفي مواجهة التخلف الحضاري إلا إذا أدركنا هذه الحقائق مجتمعة، وفهمنا من يقومون بتحريك الحزازات والخلافات، ويبذرون بذور الشقاق والخلاف بين طهرانينا، ولا شك أن الاستعانة بالنزعة الإسلامية أقوى وأجدى من إثارة النزعات العنصرية أو الوطنية الضيقة..

تلك الأمور يجب أن يعيها جيداً شبابنا المثقف، وقادة الفكر والفن والرأي في بلادنا، ويجب أن يتعمقها الدعاة إلى الإسلام في عالمنا المعاصر، وقد يقول قائل: إن مشاكل الحياة اليومية، وما تعانيه شعوبنا من فقر وتخلف، أجدر بالنظر والاهتمام من المشاكل السياسية الكبرى، والواقع أن الداء كل لا يتجزأ سواء أصاب القلب أو الكبد أو الرأس، والعلاج الحاسم يحتاج إلى دواء شامل، يجتث الداء من جذوره ويقضي على الميكروب، فنحن كالجسد الواحد سوف تظل شكوانا قائمة، ونظل نتألم حتى ولو كانت هناك بثرة صغيرة متقيحة في أنملة من الأنامل، أو في حيز صغير في جسمنا..

فلو تصورنا كيف أن عدونا يفكر عندما ينتج سلعة من السلع ويعمل على الترويج لها وتسويقها لوجدنا عجباً، إنه يجري الدراسات والتجارب، ويعرف أمزجة الجماهير واحتياجاتهم، ويعرف كيف يؤثر فيهم، ويجعلهم يقبلون على سلعته، إنه يدرس نفسية الأفراد وطبيعة المجتمع، ويفهم عن كثب كل احتياجاته، ثم يقدم في النهاية سلعته في ثوب قشيب، ويملأ الدنيا ضجيجاً وإعلاماً واعياً خبيثاً عنها، فنشعر أننا نراها في الصحف والإذاعات والتلفزيونات وفي دور السينما، وفي ملاعب كرة القدم، وعلى الحيطان وفي اللافتات الملونة، وفي كل مكان وزمان نسمع عن تلك السلعة ونعرف عنها أكثر من الحقيقة..

ذلك هو دأب العدو اللدود في كل تخطيطاته وأسواقه، وهو يطبق نفس الأسلوب بالنسبة لكل فنونه وأفكاره وسياساته، إنه يقلب الحق باطلاً، ويجعل من الباطل حقاً، فالمجاهدون الذين يطالبون بحريتهم واستقلالهم يعتبرون في نظره مجموعة من الإرهابيين والعصابات والخونة، أما المستغلون المغتصبون فهم أبرياء شرفاء، وأصحاب حق، ودعاة مدنية وحضارة، ألا يحدث ذلك بالنسبة لمناضلي حركة تحرير فلسطين؟ ألا تلصق هذه التهم بكل الثوار الشرفاء في كل أنحاء العالم؟ حتى وكالات الأنباء العالمية لا تنقل من الأخبار والتحليلات الإخبارية إلا ما يتفق ومصالح أعداء الإسلامية، كي يكتموا صوت الحق، ويلوثوا شرف المخلصين الأمناء، ويكيلوا المديح والتبجيل للخونة والمارقين والمستبدين عملاء الصليبية المستعمرة.

نحن في عالم كثر فيه الزيغ والتزييف والترويج للأباطيل، ولن نستطيع أن نتصدى لهذا الركام الهائل من المفاسد والحقد إلا بأسلوب التربية الصحيحة، والعلم الصادق، وحشد الإمكانيات المادية والمعنوية، والتسلح بالوعي الشامل الحقيقي، واتخاذ الأهبة لكل ما يجد، ولا بد من أن  ننتج الآلة والسلاح، فلا يمكن أن نكسب معركة ونحن نحارب العدو بسلاح نشتريه منه، ولا يصح أن يزعم زاعم أننا لا نستطيع ذلك، فإن لدينا من المال والثروات والمواد الخام ما لو أحسن استخدامه وتوجيهه لفعلنا المعجزات، إن آلاف الملايين من الدولارات التي يملكها العرب، وخاصة دول البترول والدول المنتجة للمواد الخام، تستطيع أن تغتنم الفرصة في هذا العصر وتحقق القوة المادية، بالإضافة إلى القوة المعنوية، كي يسير الاثنان في خط متواز وعندئذٍ نكون قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الآمال وعلى شبابنا أن يعي ذلك جيداً لأن الفرصة المتاحة اليوم على حد تعبير أحد الكتاب لن تتوفر لنا مرة أخرى قبل قرون قد تطول..

وأعداء الإسلامية على يقين من ذلك، ومن ثم فهم يضعون العراقيل في مسيرتنا، ويضعون التعويقات المختلفة كي يعطلوا نمونا ونهوضنا من كبوتنا، ويعملون جاهدين ليصرفونا عن منابع الإيمان والصفاء والوحدة والقوة، لأنهم يؤمنون أن في انتصارنا فناء لهم، وفي تقدمنا تقهقراً لنفوذهم وسلطانهم، فالدجاجة التي تبيض الذهب يجب أن تحيا مهيضة الجناح واهنة ضعيفة حتى تظل تعطي الذهب..

إن أعداءنا دائبون على دراسة كل ما يصدر عنا من فكر وفن، ويتناولونه بالدراسة والتمحيص، حتى يستخلصوا اتجاهاتنا وتحركاتنا ولا يكفون عن ملاحقة تجمعاتنا السياسية والفكرية كي يعرفوا ماهيتها وفحواها، فإن كانت تسير في الخط الذي يخدم مصالحهم ومخططاتهم، شجعوها وصفقوا لها، وإن كانت تدعو إلى الصحوة الإسلامية، دعوة الخلاص والحرية والانطلاق، انصبت سهام حقدهم وكيدهم عليها، وحاولوا خنقها في المهد قبل أن تنمو وتترعرع، وهناك آلاف الشواهد على هذا السلوك العدائي المسموم، فكم من شخصيات فذة في عالم الإسلام ناشتها حرابهم ورماحهم المسمومة، فأثاروا حولها الشبهات ورموها بالتهم جذافاً، وهي من كل ذلك براء، وإذا استعصى عليهم هدمها، لجأوا إلى التصفية الجسدية عن طريق الاغتيال، وكثيراً ما كان هذا الاغتيال عن طريق عملاء لهم من بيننا بوحي من تدبيرهم الخبيث..

ترى متى نفيق من غفوتنا، وندرك الحقيقة العظمى وهي أننا مسلمون، نؤمن بإله واحد وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبكتابنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تلك حقيقة بسيطة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي كفيلة بأن تنتشلنا من الهوة التي تردينا فيها، وتخلصنا من الانهيار والعفن والتمزق الذي شل حركتنا، ولا يهم بعد ذلك أن تتعدد المذاهب، وتختلف الآراء، فالأصل لا خلاف عليه، وهو جماع الخير كله، فليحكمنا من يشاء ما دام دستوره كتاب الله وسنة نبيه ولا ضير أن يكون من أية أسرة من الأسر، أو متناسلاً من هذا أو ذاك... فالإسلامية أوسع وأعمق من تصارعات اللون أو الجنس أو الشعوبية أو المذهبية، هي الأم الحنون لكل التيارات الفكرية المختلفة، التي تؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وبكتاب الله شريعة ومنهاجاً..

أما أعداؤنا فقد جعلوا من المذهبية تديناً آخر.. مع أن كلها تنبع من دين الله.. وجعلوا من أئمة الفكر والمذاهب متعادين متناحرين في البلد الواحد، وتحت ظل الدين الواحد، أية حماقة نصبتها شراك الأعداء فسقط فيها رجالنا الضيقو الأفق الذين أعمتهم الأهواء ومظاهر الحياة الزائفة عن إدراك الحق الذي لا يتجزأ..

ترى هل يستطيع شبابنا ومفكرونا –على مختلف أفكارهم وميولهم- أن يعيدوا النظر في الموقف.. وأن يتخذوا منهجاً جديداً لمواجهة الزحف الأسود الرهيب الذي يريد القضاء على تراثهم وحاضرهم ومستقبلهم!...

(يتبع)

              

(1) آل عمران آية 19

(2) البقرة آية 285

(3) النحل آيات 125 - 128