إطلالة على عالم المعري
أحمد الشمالي
[email protected]
أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري (363
-449ه)، (973 -1057 م)
مالئ الدنيا وشاغل الناس مثله مثل المتنبي والذي كان يصف المتنبي على أنه أستاذه ..
المعري ذلك الإنسان الذي بلغ المجد من جميع أطرافه وحاز من الصفات التي لم تجتمع
لأحد من قبله ولا من بعده فإن شئت قلت المعري :
1- الشاعر
2- الأديب
3- الناقد اللغوي
4- الفيلسوف
5- اللغوي
6- الراوي
7- القاص
8- الناقد الإجتماعي
وأوصاف أخرى كلها تصب عند رجل واحد وتلمسها وأنت تطوف بين أرجاء عالمه الواسع .
بدأت حياته بالمصائب والابتلاءات ومنذ نعومة أظفاره فمن العمى إلى فقد أمه "الصدر
الحاني عليه"
إلى فقد أبيه ، إلى غربته وتغربه
ومن ثم إلى كثرة حاسديه ومتهميه بانتحاله أدبه وعلمه من فلسفات ماأنزل الله بها من
سلطان ،واتهامه في عقيدته أقدس شيء يملكه .
والعصر الذي عاش فيه المعري يعتبر من أكثر العصور التي مرت على أمتنا والتي استشرت
فيها الفتن
واستمرأ الناس فيها الحسد والبغضاء ، مما أوغر عليه صدور من أعمتهم الفتنة .
وصدق فيه القول المأثور لكل شهرة ضريبة لابد منها !
كان المعري حاد الذكاء تنم عن ذلك عبقريته التي كانت تبهر معاصريه ، ويعود ذلك إلى
الثراء العلمي الذي أحاطه فقد درس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه
والشعر على نفر من أهله، وفيهم القضاة والفقهاء والشعراء، وقرأ النحو في حلب على
أصحاب ابن خالويه ويدل شعره ونثره على أنه كان عالما بالأديان والمذاهب وفي عقائد
الفرق، وكان آية في معرفة التاريخ والأخبار. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة .
سافر في أواخر سنة 398 ه، إلى بغداد فزار دور كتبها وقابله علماؤها . وعاد إلى معرة
النعمان سنة 400 ه، وشرع في التأليف والتصنيف ملازما بيته وكان كاتبه اسمه علي بن
عبد الله بن أبي هاشم .
عاش المعري بعد اعتزاله زاهداً في الدنيا، معرضاً عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان
حتى قيل أنه لم ياكل اللحم 45 سنة، ولا ما ينتجه من سمن ولبن أو بيض وعسل، ولا يلبس
من الثياب إلا الخشن. ويعتبر المعري من الحكماء والنقاد. وتوفي المعري عن 86 عاما
ودفن في منزله بمعرة النعمان. ولما مات وقف على قبره 84 شاعراً يرثونه.
وعن عقيدة الرجل فقد أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي،
ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه ملحد ورووا أشعاراً اصطنعوا بعضها وأساؤوا
تأويل البعض الآخر، غير أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة عقيدته وأثبتوا
أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه.
وممن وقف على صدق نيته وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660
ه، وأحد أعلام عصره، فقد ألّف كتابا أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن
أبي العلاء المعري وفيه يقول عن حساد أبي العلاء " فمنهم من وضع على لسانه أقوال
الملاحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوباً
وحسناته ذنوباً وعقله حمقاً وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين
والإسلام، وحرفوا كلامه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه. و كان يحرم إيلام الحيوان
ولذلك لم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة رفقا منه بالحيوان.
وأسوق لكم مثالاً لما حُرف من نظمه من قبل حساده :
فقد ورد في اللزوميات البيت التالي:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
واستوت في الضلالة الأديان
والبيت المروي على هذا النحو يلصق تهمة الإلحاد بأبي العلاء ،
إذ ينسب الضلالة إلى جميع الأديان ،
غير أننا إذا رجعنا إلى كتاب (شرح المختار من لزوميات أبي العلاء)
لابن السيد البطليوسي المتوفي سنة 521ه أي بعد أبي العلاء بسبعين سنة ،
وجدناه ينشد البيت على هذا النحو:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
ونهتنا -لو ننتهي- الأديان
ورواية البطليوسي أوثق من رواية اللزوميات المطبوعة ، لأنها أقدم من مخطوطاتها التي
اعتمدت عليها . على أن القصيدة التي ورد فيها هذا البيت تدل على تحريفه المتعمد فهو
في القصيدة يمجد عظمة الخالق .
والمعري نفسه قد علم بما سيدس حساده عليه فكان يقول : أنا الشيخ المكذوب عليه ،
وهذا ما جعل بعض من اتهمه بالإلحاد يرجع عن اتهامه،كما فعل ابن الوردي حين اتهمه في
كتابه (تتمة المختصر في تاريخ البشر) ثم رجع عن اتهامه وأثنى على حسن اتقاده وسلامة
يقينه بعد أن أطلع على كتابه (ضوء السقط) .
وكأن المعري أحس بمن يدسون عليه فنراه يعتذر لنفسه محتسباً ذلك عند خالقه :
ليفعل الدهر ما يهم به
إن ظنوني بخالقي حسنة
لاتيأس النفس من تفضله
ولو أقامت في النار ألف سنة
ومن العصر الحديث فإن أشهر من دافع عن المعري أمير البيان محمود محمد شاكر ، حيث
أفرد له كتاباً سماه أباطيل وأسمار للرد على مشويهي صورة المعري
ومن العصر الحديث أيضاً ممن تعرض لهذه القضية أديب آخر من أعلام العصر الحديث وهو
أحمد باكثير
حيث كتب مسرحية ثلاثة أيام مع رهين المحبسين ، حاول فيها الدفاع عن بعض ماأثير حول
المعري من شكوك .
وممن تتلمذ على المعري كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب ، ومنهم :
أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي .
أبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي.
أبو الطاهر محمد بن أبي الصقر الأنباري.
أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي.
فلم نجد أحد منهم إلا مثنيا على علم المعري وفضله، ومعجبا بشدة فطنته وقوة حافظته،
ومعترفا بحسن عقيدته وصدق إيمانه. وقد شهد جميع شعراء عصره بفطنته وحكمته وعلمه .
نماذج من شعره :
* في تواضعه :
دعيت أبا العلاء وذاك مين
ولكن الصحيح أبا النزول
* في سبب اعتزاله عن الناس :
هذا زمان ليس في أهله
إلا لأن تهجره أهل
حان رحيل النفس عن عالم
ما هو إلا الغدر والجهل
إن ختم الله بغفرانه
فكل مالاقيته سهل
* وفي الرياء والخداع بمظاهر الدين يقول :
إذا رام كيداً بالصلاة مقيما
فتاركها عمداً إلى الله أقرب
ويقول أيضاً :
يحرم فيكم الصهباء صبحاً
ويشربها على عمدٍ مساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى
فمن جهتين لا جهة أساء
رأيه في حكام زمانه :
يسوسون الأمور بغير عقل
فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فاف من الحياة وأف مني
ومن زمن رئاسته خساسة
فلنستمتع مع هذا الفريد الفرد في عالم الأدب واللغة بما أثرى المكتبة العربية بما
لاينكره إلا جاحد .