المعنى غاية التفسير وثمرة النحو في التعامل مع النص 6

أ. د. عبد السلام حامد

المعنى غاية التفسير

وثمرة النحو في التعامل مع النص

الحلقة السادسة

أ. د. عبد السلام حامد

أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر

الصلة بين النحو والتفسير صلة وثيقة نظراً لفاعلية المعنى النحوي في تفسير النصوص وكشفها([1])، ونظراً لأن النحو مقدمة ضرورية للتفسير والشرح، يقول ابن هشام: " فإن أولى ما تقترحه القرائح وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح، ما يتيسر به فهم كتاب الله المنزل ويتضح به معنى حديث نبيه المرسل … وأصل ذلك علم الإعراب الهادي إلى صوب الصواب "([2]). وبناءً على ذلك وجدنا للنحاة وغيرهم جهوداً كثيرة في تفسير القرآن والأحاديث ونصوص الشعر وشرحها. وقد بدأت هذه الجهود باكرة مع بداية التأليف النحوي المنظم في كتاب سيبويه؛ حيث لا نعدم فيه تحليلاً فنياً لمعاني بعض آيات القرآن الكريم، وهو الأمر الذي يؤكد أنه حمل البذرة الأولى للتفسير اللغوي الفني للقرآن الذي نما وتطور فيما بعد على أيدي أصحاب كتب إعراب القرآن ومعانيه([3]).

ومن منطلق هذه العلاقة بين تفسير النص أو تناوله بصفة عامة ـ والنحو نجد أننا بعد الانتهاء من الإلمام بكل جوانب تفاعل الدلالة الأولية للمفردات مع المعاني النحوية، نستطيع أن نفسر الاعتناء بالدلالة في النحو من هذه الزاوية، أي زاوية معالجة النص ـ بأن معنى النص ومضمونه أو مغزاه جزء كبير منه يعد ثمرة من ثمار معاني النحو وأحوالها، ولا شك أن الاهتمام بالثمار والنتائج ـ وهي هنا المعاني والدلالات ـ تدفع إلى الاهتمام بكل مقدمات الإعداد لهذه الثمار والنتائج، وهذا معناه في المجال الذي نتحدث فيه توجيه العناية إلى ربط النحو بالدلالة.

ويمكننا أن نذكر أمثلة لكون الدلالة مترتبة ترتباً واضحاً على معاني النحو وكونها في بعض أسسها ثمرة من ثمار هذه المعاني ـ من خلال جعل التمثيل لهذه المسألة في مستويي تناول النص الأدبي والنظر فيه، وهما: مستوى فهم النص وتفسيره، ومستوى الاستدلال من خلال النص؛ وذلك لأنني أرى أن معالجة النص الأدبي لا تخرج في مجملها عن هذين المستويين اللذين هما في الحقيقة غرضان للنظر في النص.

(أ‌)                              مستوى فهم النص وتفسيره:

وهذا المستوى لـه درجتان أو صورتان متصلتان أشد الاتصال. الصورة الأولى: صورة التفسير الأوليّ، والثانية: صورة التفسير الجمالي. فأما صورة التفسير الأوليّ فأعني بها التفسير الذي يعتمد أساساً على مقولات النحو، ويتوجه في المقام الأول إلى بيان ما يتم به فهم المعنى واستيعابه وتصوره وإن كان من الممكن أن يتجاوز ذلك. وهذا يصدق على كثير من كتب الإعراب ومعاني القرآن وشروح الشعر وما يماثل ذلك مما يرد في كتب النحو. ومن أمثلة هذا توجيه العكبري لقوله تعالى: " ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الذي ينعِقُ بما لا يسمعُ إلا دعاءً ونداءً، صُمٌّ بكمٌ عُمي فهم لا يعقلون " [البقرة : 171]، حيث يقول: " قوله تعالى ( ومثلُ الذين كفروا ): مثل مبتدأ، و " كمثل الذي ينعق " خبره؛ وفي الكلام حذف مضاف تقديره: داعي الذين كفروا؛ أي مثل داعيهم إلى الهدى كمثل الناعق بالغنم، وإنما قدر ذلك ليصح التشبيه، فداعي الذين كفروا كالناعق بالغنم ومثل الذين كفروا كالغنم المنعوق بها. وقال سيبويه: لما أراد تشبيه الكفار وداعيهم بالغنم قابل أحد الشيئين بالآخر من غير تفصيل اعتماداً على فهم المعنى([4]). وقيل التقدير: مثل الذين كفروا في دعائك إياهم. وقيل التقدير: مثل الكافرين في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بالغنم "([5]). فنحن نرى أن هذا الكلام الغرض منه بيان المعنى الأساسي في الجملة وقد جاء هذا المعنى ثمرة للتوجيه النحوي المعتمد على القول بتقدير حذف مضاف أو معطوف عليه ـ كما هو في قول سيبويه ـ أو حذف جار ومجرور ومفعول به.

وأما الصورة الثانية ـ وهي صورة التفسير الجمالي ـ فأعني بها تفسير النص تفسيراً فنياً قائماً على التحليل والتذوق اللذين يحاولان أن يرصدا معارج الإبداع والجمال في بنيته، وأن يكشفا مواطن رقي البيان فيه نحو الوصول إلى المعنى. وخير الأمثلة على ذلك يمكن أن نجدها عند عبدالقاهر الذي ربط " النظم " ـ وهو تفسيره للبلاغة في أرقى صورها ـ بتعلق بعض الكلمات ببعض في هيئة معينة عن طريق معاني النحو. من ذلك كلامه في قوله تعالى: " وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغِيضَ الماءُ وقُضي الأمرُ واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين " [هود: 44]، قال عبدالقاهر: " ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء " بيا " دون " أي "، نحو " يا أيتها الأرض "، ثم إضافة " الماء " إلى الكاف دون أن يقال: ( ابلعي الماء )، ثم أن أتُبع نداءُ الأرض وأمرها بما هو من شأنها، نداءَ السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: " وغيض الماء: فجاء الفعل على صيغة ( فُعل ) الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقديره بقوله تعالى: " وقضي الأمر " ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمورة وهو: " واستوت على الجودي "، ثم إضمار ( السفينة ) قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة " قيل " في الخاتمة " بقيل " في الفاتحة؟ .. كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من اتساق عجيب "([6]).

ويمكننا أن نطبق طريقة عبدالقاهر هذه في الاعتماد على معاني النحو في التحليل الفني الذي يكشف سر جمال النصوص على أي نص، ومن ذلك مثلاً الحديث الذي رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يتبع الميتَ ثلاثٌ: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عملُه "([7]). وذلك أننا من أول وهلة نلحظ البدء بالفعل مسنداً إلى " ثلاث " مع تقديم المفعول به الذي يفيد تكثيف الدلالة على معنى المفعولية في " الميت " حيث يصبح جثة هامدة متبوعة لا طاقة لها بفعل تفعله ولا عهد لها بحركة تصدر منها، هذا بالإضافة إلى ما في التقديم من لفت الانتباه إلى قضية الموت نفسها. ونجد أيضاً ضمن ما نجد الإبهام ثم التفسير، ويتحقق ذلك عن طريق إبدال " أهله وماله وعمله " من " ثلاث "، وعن طريق إجمال رجوع اثنين وبقاء واحد ثم تفصيل هذين بعد ذلك، وفي هذا ما فيه من تشويق وإثارة للترقب وإعمال للذهن. وكذلك أيضاً نجد روعة التصوير في المجاز المتحقق من خلال كسر قانون الاختيار بين المفردات، وذلك بإسناد الأفعال المضارعة إلى ما لا تسند إليه في الأصل:

( يتبع الميتَ مالُه وعملُه ـ يرجع مالُه ـ ويبقى عمله) ([8]).

(ب‌)                          مستوى الاستدلال من خلال النص:

الاستدلال النحوي الذي أقصده من خلال النص حالة خاصة بالنص الديني ، أعني على وجه الخصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف؛ وذلك لاشتمال هذا النوع على جانب التشريع الذي ينفرد به عن غيره من النصوص. وما أريد أن أبينه هنا، أن التراكيب اللغوية والجمل يستدل بمعانيها النحوية في هذه الصورة من التعامل مع النص على الأحكام الفقهية. وفي هذا شكل من أشكال بيان قيمة الدلالة النحوية التي تدل على ضرورة الاعتناء بالدلالة في النحو بوجه عام. وهذه أمثلة توضح ما أقوله أسوقها من القرآن الكريم:

1-     الاستدلال على حل أكل بعض الأشياء:

قال تعالى: " إنما حَرَّمَ عليكم الميْتةَ والدمَ ولحمَ الخنزيرِ وما أُهِلَّ به لغير الله "[البقرة: 173]. تضمنت هذه الآية حكم إباحة أكل السمك والجراد والكبد والطحال. والدليل على ذلك أن " أل " في قولـه " الميتة والدم " للعهد الذهني، ومعنى ذلك أن المقصود بهذين هما الميتة والدم المعهودان في أذهان الناس، وهذه الأشياء ليست معهودة في أذهانهم ولا معدودة من الميتة والدم. ويقوي هذا الاستدلال أن " أل " في " الدم " يمكن أن تكون للعهد الذكرى([9]) فيكون المقصود بها الدم المسفوح الذي ورد ذكره في آية أخرى سابقة في النزول على مثل هذه الآية، وهي قوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً " [الأنعام: 145]، ومن ثم لا ينصرف الذهن إلى الكبد والطحال عند ذكر الدم لأنه لا يصدق عليه صفة المسفوح([10]).

2-     الاستدلال على حكم التسمية عند الذبح:

قال تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يُذكرِ اسمُ اللهِ عليه وإنه لفسق " [الأنعام: 121]. دلت هذه الآية على النهي عن أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها. ولكنّ هناك خلافاً على رأيين في تفصيل هذا الحكم، ولكل رأي دليله من فهم الآية نحوياً بهذا الشكل:

أ- ذهب فريق إلى أن الذبيحة لا يحل أكلها إذا ذكر اسم غير الله عليها، أما إذا لم يذكر اسم غيره فإنها تحل ولو لم يُسمِّ  الذابح، وأخذ بذلك الشافعية. والدليل على هذا الرأي من دلالة التركيب أن الواو في قوله " وإنه لفسق " للحال، والجملة التي بعدها في محل نصب حال، أي لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حالة كونه فسقاً. وبناء على أن الحال قيد لعاملها يصبح  النهي عن الأكل مقيداً بكون المأكول فسقاً، وإنما يكون فسقاً إذا ذكر عليه اسم غير الله، لأنه تعالى بين المراد بالفسق بقوله: " أو فسقاً أهل لغير الله به "[الأنعام: 145]، أما إذا لم يتحقق هذا القيد ـ وهو الإهلال لغير الله ـ فلا بأس بالأكل ولو تركت التسمية ([11]).

ب- ذهب فريق آخر إلى أن الذبيحة لا تحل بمجرد ترك التسمية سواء أذكر غير الله أم لم يذكر، وأخذ بذلك الحنفية. ودليل هذا الرأي من دلالة التركيب أن الواو ليست للحال وإنما هي للاستئناف، وبهذا يكون النهي عن أكل متروك التسمية مطلقاً ولا يقيد بكونه فسقاً، وحينئذ تكون جملة " وإنه لفسق " لا محل لها من الإعراب تعليلاً عن أكل متروك التسمية، أي: لا تأكلوا من ذلك لفسقه، لما في " إنّ " من معنى التعليل([12]).

3-     الاستدلال على حكم تحريم زواج أمهات الزوجات:

قال تعالى: " وأمهاتُ نسائكم وربائبُكم اللاتي في حُجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناحَ عليكم ". [النساء: 23].

ثمة خلاف بين العلماء في حرمة أمهات الزوجات: أيحرمن بمجرد العقد على البنات، أم بالدخول بهن؟

أ- ذهب بعض إلى أن أم الزوجة إنما تحرم على الرجل إذا دخل ببنتها لا بمجرد العقد. وحجة هذا الرأي أن الآية جمعت أمهات النساء والربائب بصفة واحدة ـ وهي الدخول بهن ـ بوساطة الاسم الموصول في قوله " اللاتي دخلتم بهن " فهذا الاسم ينسحب الوصف به على أمهات النساء بالرغم من مجيئه بعد ذكر الربائب.

ب- ذهب الجمهور إلى أن قوله: " وأمهات نسائكم " جزء من جملة مستقلة بنفسها ولا تسري عليه الصفة المذكورة للربائب بعده، ولذلك يبقى تحريم أم الزوجة مطلقاً عن التقييد بالدخول بالبنت. وحجة هذا الرأي القائم على جعل " اللاتي دخلتم بهن " صفة للفظ " نسائكم " الثاني فقط، أننا لو جعلناه صفة للفظ " نسائكم " الأول أيضاً لحصل محذور نحوي لا يصح الوقوع فيه وهو وجود صفة لموصوفين اختلف عاملهما؛ حيث إن لفظ " نسائكم " الأول مجرور بإضافة " أمهات " إليه والثاني مجرور بالحرف (من)، وهذا ممنوع عند جمهور النحاة، فهم لا يجيزون أن يقال: هذا زيد وقام عمرو الظريفان، على جعل " الظريفان " صفة لهما؛ إذا لا بد من اتحاد عاملي الموصوفين([13]).

              

([1]) انظر: د. محمد حماسة عبداللطيف، النحو والدلالة ص161 وما بعدها.

([2]) ابن هشام: مغني اللبيب، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ( مكتبة صبيح بالقاهرة ـ د.ت ) 1/9، وانظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن ( دار الفكر ـ 1980 ) 1/13.

([3]) انظر: د. إبراهيم رفيدة، النحو وكتب التفسير ( الدار الجماهيرية ـ ليبيا ـ 1990) 1/101 ـ 106، 145-148.

([4]) أصل عبارة سيبويه: " فلم يشبهوا بما ينعق، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع ..". الكتاب لسيبويه 1/222 (تحقيق وشرح عبدالسلام هارون ـ مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ 1980).

([5]) أبو البقاء العكبري: التبيان في إعراب القرآن، تحقيق علي البجاوي ( دار الجيل ـ بيروت ـ 1987 ) 1/140.

([6]) عبدالقاهرالجرجاني: دلائل الإعجاز ص45، 46. وارجع إلى مثال قرآني آخر واضح ص403، 404 وانظر د. محمد حماسة عبداللطيف: النحو والدلالة ص 99، 100.

([7]) انظر: العكبري، إعراب الحديث النبوي ص79، وموسوعة السنة: المجلد22 ـ مسند أحمد ـ ج3، ص110، والمجلد3 ـ صحيح البخاري ـ ج7 ـ كتاب الرقاق ـ باب سكرات الموت ص193.

([8]) نجد كلاماً في بلاغة تراكيب الحديث النبوي الشريف بصفة عامة في " الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية " للدكتور محمد حمادي ( مؤسسة المطبوعات العربية ـ بيروت ـ 1982 ) ص166 وما بعدها. وارجع من أجل أمثلة أخرى شعرية تطبيقية لبيان طاقة النحو في تفسير النصوص وتحليلها إلى أستاذنا الدكتور محمد حماسة عبداللطيف في مواضع متفرقة من كتبه: الجملة في الشعر العربي، واللغة وبناء الشعر، وبناء الجملة العربية.

([9]) ارجع إلى أبي حيان: البحر المحيط 4/241.

([10]) انظر: د.عبدالقادر السعدي، أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية ( دار عمار بعمّان ـ 2000) ص 184، 185.

([11]) انظر: السابق 170.

([12]) انظر: السابق ص 170، 171 والبحر المحيط لأبي حيان 4/212، 213.

([13]) انظر: د. عبدالقادر السعدي، أثر الدلالة النحوية واللغوية ص 179-183، والسيوطي: همع الهوامع ( دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1998 ) 3/123. وانظر أمثلة أخرى لهذه القضية في كتاب " حروف المعاني بين دقائق النحو ولطائف الفقه " للدكتور محمود سعد ( منشأة المعارف بالإسكندرية ـ 1998 ).