الأسلوب والأداء التعبيرى
الفصل الثالث
الأسلوب والأداء التعبيرى
أ.د/
جابر قميحةالأسلوب والأداء التعبيري
تحدث ابن منظور عن الأسلوب في معجمه "لسان العرب" فقال: يقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب. والأسلوب الطريق والوجه والمذهب، يقال أنتم في أسلوب سوء، ويجمع على أساليب. والطريق تأخذ فيه. والأسلوب: الفن. يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أى أفانين منه.
"ومن هذا التعريف اللغوي يهمنا ما يتعلق بأسلوب القول، ويمكن أن نلحظ فيه النتيجة التالية: الأسلوب هو طريقة الأداء، أو الطريقة التى يعتمدها الأديب لنقل ما في نفسه من معان في عبارات لغوية"([1]).
ولابن خلدون كلام طويل في تعريف الأسلوب، أورده في فصل "صناعة الشعر وتعلمه" يقودنا إلى القول بأن الأسلوب صورة لفظية لمعنى ذهني، أى أن الأديب يتصور في ذهنه المعنى أولا، ثم يترجمه إلى الأسلوب (اللفظ)، دون النظر إلى علم البلاغة أو الإعراب أو الوزن([2]).
ومن أدق وأحدث تعريفات "الأسلوب" أنه طريقة يستخدمها الكاتب ليبين رأيه أو يعبر عن موقفه بألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفس قارئه أو سامعه، فتعرف شخصية صاحب هذا الأسلوب، وتتميز باختياره المفردات، وانتقاء التراكيب لأداء أفكاره حق أدائها.. ومن هنا قالوا: الأسلوب هو طريقة الكاتب في التعبير عن موقف ما، والإبانة عن شخصيته المتميزة عن سواها.وهو أنواع من أهمها:
(1) الأسلوب الأدبي: وأبرز صفاته الجمال، وقوة الإيحاء والتأثير، وبراعة الخيال والتصوير، ودقة توظيف المجاز، واختيار الألفاظ ذات الإيحاء والجرْس المناسب، مع التدفق العاطفي، وقوة الشعور.
(2) الأسلوب العلمي: ويغلب عليه الطابع العقلي، وتوظيف الحجج العقلية، واستخدام المصطلحات العلمية، والإحصائية، واستعمال التراكيب المباشرة، والألفاظ ذات المدلول الواحد، دون تنميق وخيال.
(3) الأسلوب العلمي المتأدب، أو الوسطي، وهو الذي يجمع بين صفات من الأسلوبين السابقين، ويستعمل غالبا في العلوم الإنسانية كالتاريخ والاقتصاد والتربية والسياسة([3]).
* * *
وأسلوب الإمام الشهيد يتسم بالسهولة والوضوح وهي سمة غالبة في كل أعطياته، كالخطب والمحاضرات والمقالات والرسائل، فلا غريب ولا مهجور من الكلمات، ويستطيع المتعلم العادي –بل العامي- أن يفهمه في سهولة ويسر، ولكنه –على سهولته ووضوحه- لا تجد فيه لفظة مبتذلة أو معنى مستهجنا.
وإذا كان الوضوح هو السمة المعنوية للأسلوب، فإن الترسل هو الصفة الشكلية العامة للأداء التعبيرى([4]). فنادرا ما نجد للسجع مكانا في أسلوب الإمام الشهيد، ومن هذا القليل النادر:
"أيها الإخوان المسلمون، أيها الناس أجمعون:
إن الله بعث لكم إماما، ووضع لكم نظاما، وفصل
أحكاما، وأنزل كتابا، وأحل حلالا، وحرم حراما..
..فهل اتبعتم إمامه؟ واحترمتم نظامه؟ وأنفذتم أحكامه؟..."([5]).
وقد يكون مع السجع ازدواج([6]) كقول الإمام الشهيد في رسالته إلى الملك فاروق:
"يا صاحب الجلالة.. بؤر الخمور، ودور الفجور، وصالات الرقص، ومظاهر المجون تغشى الناس في كل مكان.."([7]).
* * *
ومن هذا القبيل قوله:
"والإنجليز يضحكون من غفلتنا، ويعبثون بألباب
رجالنا وقادتنا، ويجرّونهم بخيوط الوعود الزائفة،
ومقاود الأوهام الباطلة، حتى يقفوا بهم على
حافة هاوية ما لها من قرار، وينتهوا معهم
إلى هذا المصير الذي يجمع بين النار والعار.."([8]).
وعلينا أن نلاحظ أن صفتي الوضوح والترسل من ألزم الصفات الأسلوبية للداعية، وخصوصا إذا كان داعية في حجم الإمام الشهيد الذى يقف على رأس كبرى الحركات الإسلامية في القرن العشرين،ويتحدث إلى طبقات مختلفة في مستواها الثقافي والاجتماعي، كما أن كثرة خطاباته الدعوية –كتابة وخطابة- تجعله ينطلق بطريقة عفوية، حيث لا يملك الوقت الذي يمكنه من المراجعة، والإعداد الجمالي النموذجي([9]). ولا يصدق هذا على ما قصد الإمام إلى أن يكون دراسة تتمتع بالعمق، وتحتاج إلى مراجع ومراجعات كالذى كتبه في العقائد والتفسير، والرسائل العامة إلى الملوك والرؤساء والوزراء.
* * *
وفي هذا السياق نلقى نظرة على "الجملة" في أدبيات الإمام الشهيد دون النظر إلى التفصيلات، وزحمة التقسيمات التي يلجأ إليها البلاغيون. وهي على أية حال- لا تخرج من ناحية الكم- عن الأقسام الثلاثة الآتية:
1- جمل طويلة
2- جمل متوسطة أو متساوية.
3- جمل قصيرة
والجمل الطويلة هي أكثر الجمل استعمالا في أدبيات الإمام الشهيد، وذلك لسببين:
الأول: أنها أقدر من النوعين الآخرين، وأكثر سماحة واتساعا لاستيعاب المعاني والأفكار. بصرف النظر عن التنميق اللفظى،والتجميل البلاغي.
الثاني: أن الهدف الدعوي هو التبليغ والإقناع قبل أن يكون التجميل،والتأثير العاطفي، وهو ما تتسم به الجمل القصيرة ذات الجرس والموسيقى الأخاذ.
ومن نماذج الجمل الطويلة ما نراه في النص الآتي:
"نحن الآن في السابع من المحرم، فنحن إذن في مدخل عام جديد، قرأت في بعض المطالعات لكاتبة فرنجية كلمة
أعجبتنى فوعيتها، وما زالت تتمثل أمامي، فيتكرر إعجابي بما
فيها من صدق وحق،والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها
فهو أحق الناس بها، إنها قالت: قلت للرجل الواقف
على باب العام: أعطني نورا أستضيء به في
هذا الطريق المجهول، فقال لي ضعي يدك في
يد الله، فإنه سيهديك سواء السبيل"،
وذلك حق؛ فالله تبارك وتعالى- هو الهادي إلى سواء السبيل ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾[النور:40]([10])
ومن أمثلة الجمل الطويلة من رسالة الإمام إلى على ماهر رئيس الحكومة سنة 1939 ".. وأنتم في هذه الظروف أحوج ما تكونون إلى أن تكون الأمة جميعا إلى جانبكم، تستمدون منها القوة في الرأي والتأييد في مواقف العنت.. ولقد وقف الإخوان المسلمون من كل وزارة سابقة –ومنها وزارتكم الماضية- موقف الحياد التام، ولم يتقدموا إلى واحدة منها بالمساعدة، كما أنهم لم ولن يطلبوا، ولم ولن يتقبلوا من واحدة منها مساعدة..([11])
وإذا كانت الجملة في الفقرة السابقة لا تتجاوز السطر وبعض السطر، فإن الإمام البنا قد يطولُ نفسُه في الجملة الواحدة حتى تبلغ عدة أسطر كما نرى في الجملة الآتية من الرسالة السابقة:
"والإخوان المسلمون - وهم يرون في المعاهدة المصرية الإنجليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل –يريدون من حكومة مصر ألا تتجاوز الحدود المرسومة- على ما فيها من إجحاف- بأية حال."([12])
فالجملة طويلة يبتعد خبرها (يريدون) عن مبتدئها (الإخوان) بقرابة سطرين. وقد يكون التباعد أوسع كما نرى بين الشرط (إذا جاليتم) وجواب الشرط (كان ذلك سببا) وذلك في الجملة الآتية من رسالة الإمام إلى على ماهر:
"..ونعتقد كذلك أنكم إذا جليتم للساسة البريطانيين حقيقة شعور الشعب المصري، وهو بلا شك صورة من شعور غيره من الشعوب الإسلامية، وأقنعتموهم بأن بريطانيا حين تفعل هذا تظفر إلى أبعد حد بالتأييد القلبي والعملي من الشعوب الإسلامية والعربية كلها، وتسد الباب على الطاعنين عليها، وتقدم بذلك دليلا على أنها تقدر العدالة والإنصاف- كان ذلك سببا للعمل من جديد على إنصاف فلسطين الباسلة.."
فالجملة الأم- في المثالين السابقين- في سبيل استيفاء المعنى- تضم بين دفتيها جملا أخرى تابعة كالجمل الاعتراضية والجمل الاحتراسية([13]).
* * *
ومن لوازم هذه السمة الأسلوبية: "التكرار" وهو نوعان:
1- تكرار لفظي: ويكون بإعادة ذكر الكلمة أو الجملة بنصها، كما نرى في قول الشاعر:
أخاكَ أخاكَ،إن من لا أخا له كساعٍ إلى الهيْجا بغير سلاحِ
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾[الشرح:5، 6]
2- تكرار معنوي: ويكون بتكرار المضمون الفكرى مع اختلاف بنية الكلمات، وقد يقال لكلماته مترادفة وفي أدبيات الإمام الشهيد وخصوصا رسائله –يكثر الترادف أى التكرار المعنوي، بالإلحاح على الفكرة الواحدة بأساليب متعددة، متساوية في المعنى، أو متقاربة فيه.
والهدف من ذلك ترسيب الفكرة في نفس المتلقي، وتأكيدها في نظره، وإقناعه بها، وحتى لا يكون هناك وجه للتأويل، وإخراج المعنى عن مساره المقصود. والأمثلة أكثر من أن تحصى، منها من رسالة الإمام للملك فؤاد سنة 1352 بسبب ظهور شرور التبشير في مصر "... راجين حماية شعبكم المخلص الأمين من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه وفلذات كبده...وقد جعلكم الله تبارك وتعالى حماة دينه، والقائمين بحراسة شريعته، والذائدين عن حياض سنة نبيه.."([14]).
ونرى ظاهرة التكرار المعنوي كذلك في المقالة الآتية. وغيرها كثير:
"ولكن شيطان الإنس أقوى عزما، وأنفذ سهما، وأقدر على تدبير المكائد،وإذكاء الشر، وإثارة الخصومة فما هو إلا أن مر بهؤلاء المتحابين رهط من يهود نفسوا عليهم وحدتهم، وحسدوهم على نعمة الله التي أنعم بها عليهم، وامتلأت قلوبهم غيظا وحنقا، فقال بعضهم لبعض: من لهؤلاء يذكرهم الأحقاد الماضية، والضغائن السابقة، ويثير في أنفسهم حمية الجاهلية، ويفرق من كلمتهم ما اجتمع من شملهم ما توحد؟؟"([15])
* * *
وتأتي الجمل المتساوية، والجمل القصيرة في المرتبة الثانية بعد الجمل الطويلة، والرسالة الواحدة تجمع هذه الأنواع الثلاثة بالترتيب الكمي المذكور. كما نرى في رسالة المرشد إلى صدقي باشا في 8 من أكتوبر 1946 "... ولكن المفاوضة طالت حتى أسأمتْ وأملَّتْ، واستُؤنِفَتْ، ثم انقطعتْ، ووُصِلَتْ، ثم يتجنى علينا المفاوضون الإنجليز، فهزوا أكتافهم، وجمعوا أوراقهم، وانصرفوا عنا إلى بلادهم، هازئين ساخرين"([16])
وكذلك في ختام رسالة إلى النقراشي باشا في الأول من مايو سنة 1947 "يا دولة الباشا –لقد تقدمتُ لدولتك بمثل هذه النصيحة منذ عام مضى، وهأنذا أتقدم بها اليوم، وأعتقد أني بذلك قد أبرأتُ ذمتي، وأديت أمانتي، والوقت من ذهب، فسر على بركة الله، والله معك، ولا تتردد..".([17])
* * *
ومن الجمل القصيرة الخالصة قول الإمام –رحمه الله- ".. فإذا ألف الإنسان الجهاد، وعرف طريق الرشاد،
وأصبح جنديا مدربا، ومحاربا للشر مجهزا، وواظب على المراقبة
والاستشعار، والتوبة والاستغفار، استطاع
أن يستشعر الأمر قبل وقوعه، فيتخذ له أهبته، ويرد على الشيطان مكيدته.."([18]).
* * *
وبهذا الأسلوب الذي راعى فيه الإمام الشهيد مقتضى الحال، مستمدا من طاقته الإيمانية، وثرائه اللغوي، وقدرته على التصرف، وبراعته في الانتقاء والاختيار.. استطاع الإمام الشهيد أن يصل إلى قلوب الناس وعقولهم مستميلا مقنعا.
([1] ) الشامل98.
([2] ) انظر: مقدمة ابن خلدون 1099-1100(دار الكتاب اللبناني- بيروت- طـ(2)- 1979. وانظر: صلاح فضل. علم الأسلوب105-107 (النادي الأدبي الثقافي بجدة- طـ(3)- إبريل 1988.
([3] ) انظر التونجي: المعجم المفصل في الأدب: 1/93-94.
([4] ) الترسل هو صفة النثر المرسل الذي لا يعتني صاحبه بالصنعة من سجع وجناس وازدواج وغيرها، بل ينطلق الأديب على سجيته دون قيوم إلا سلامة اللغة وحسن اختيار الكلمات والعبارات (راجع السابق 1/243).
([5] ) مجموعة الرسائل111.
([6] ) الازدواج هو توافق الفاصلتين في الوزن، ولو لم يتوافقا في التقفيه. مثل قوله تعالى"..ونمارق مصفوفة، وزرابي مثوثة.." [طبانة: معجم البلاغة العربية 266]
([7] ) نشرتها مجلة النذير في 8 من المحرم1358، ولم يوردها الإمام الشهيد في مذكراته، أو مجموعة رسائله.
([8] ) جريدة الإخوان المسلمين اليومية –السنة الثانية- العدد 615- 21 من جمادى الآخرة 1367ﻫ- 30 من إبريل 1948.
([9] ) في مطلع الخمسنيات –بعد استشهاد الإمام بثلاث سنوات- حكى لي الأستاذ وهبة الفيشاوي أن الإمام كان دائم الانشغال فكان يملي عليه مقال الصحيفة على دفعات لانقطاع تواصله بالهاتف أو الحديث إلى بعض الإخوان.
([10] ) جريدة الإخوان المسلمين اليومية –السنة الثانية- العدد477- 8 من المحرم 1367ﻫ-21 من نوفمبر 1947م.
([11] ) مذكرات الدعوة والداعية 350-351.
([12] ) السابق352
([13] ) المذكرات361. وفي تعريف الاحتراس والاعتراض انظر: طبانة (مرجعا سبق) 161، 408.
وكذلك محمد التونجى (مرجعا سبق)1/36، 108.
([14] ) انظر مذكرات الدعوة والداعية 203-204.
([15] ) جريدة: الإخوان المسلمين اليومية –السنة الأولى- العدد271 28 من ربيع الآخر1366ﻫ- 21 من مارس 1947.
([16] ) انظر. محمود عبد الحليم الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ 1/337-379( دار الدعوة- الإسكندرية-1979).
([17] ) السابق1/387-389.
([18] ) جريدة الإخوان المسلمين اليومية –السنة الأولى- العدد24- 30 من جمادى الآخرة 1365ﻫ- 31 من مايو 1946م.