التقليم والتطعيم
التقليم والتطعيم
محمد محمود كالو
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
قرأت كثيراً في كتب الأدب واللغة ،فوجدت بعض الجمل غير صالحة ، لأنها تبعث الضعف ، وبعضها غير صالح ، لأن العلم الحديث ، أثبت كذبه ، فمثلاً قول بعضهم : الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك قول مبهرج لا معنى له ، فليس بصحيح أن السيف إن لم تقطعه قطعك .
وقرأت خطبة لسعيد بن سويد :
(لا يزال الإسلام منيعاً ما اشتدَّ السلطان ، وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ، ولا ضرباً بالسوط ، ولكن قضاء بالحق ، وأخذ بالعدل)
فقلت : هذا قول حق، يصلح لكل زمان ومكان ، ويُعَلَّمٌ لكل ناشئ.
إن عملية التطعيم و التقليم هي قانون الحياة ،نشذب الشجر لينبت العود الصالح، و نقطع العضو الفاسد في الجسم حتى لا يسري فساده إلى السليم ، و نطعم الشجرة ، لينتج خير الثمار ، و أحسن الأزهار ، و لا بد من التنقية و الاختيار.
أما اللغة ، فقد جاء الإسلام و رأى أن اللغة الجاهلية لا تكفي ، فنماها من ناحيتين :
1- من ناحية استعمال الكلمات الجاهلية ، في معان جديدة لم تكن تستعمل فيها من قبل كالصلاة و الزكاة و الجهاد و الهجرة و غير ذلك .
2- من ناحية تعريب كلمات من لغات أخرى، كالريبة و هي :مجمع أهل الفسق و الفساد ، وبيوت الخمارين ، و هي تعريب : ميخور ، و كذلك التسخان : قال حمزة الأصفهاني في كتاب الموازنة : التسخان تعريب تشكن ، و هو اسم غطاء من أغطية الرأس ، كان العلماء و الموابذة يأخذونه على رؤوسهم خاصة دون غيرهم ، قال : و جاء ذكر التساخين في الحديث .
إذن لا بد من عملية التقليم و التطعيم ، تقليم معاجمنا و مراجعنا ، و تقليم التفسير لبعض الكلمات بما كان جارياً و معروفاً أيام المعاجم و الكتب القديمة، ثم تغير بتقدم العلوم .
وقد قرأت ذات مرة في كتاب( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) لابن حجر وكذلك في كتاب ( تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي ) للمباركفوري _و هما من مراجعنا المعتبرة في شرح الحديث _ عن الأرنب ، و يقال : إن الأرنب تكون سنة ذكراً و سنة أنثى .
نريد لهذه الأخطاء أن تباد من كتب تراثنا ، التي ملئت من خَرَفات تفسد العقل ؟
وفي تراثنا أيضاً : (القاف :جبل محيط بالأرض أو من زمرد وما من بلد إلا و فيه عرق منه ) ، قال الأصفهاني في مفرداته : و هذا من الإسرائيليات مما لا يصح .
وفيها ما ذكره الفيروز آبادي في قاموسه :
( و الهرمان ، بالضم : العقل ، و بالتحريك :بناآن أزليان بمصر ، بناهما إدريس عليه السلام ، لحفظ العلوم فيهما عن الطوفان ، أو بناء سنان بن المشلشل ، أو بناء الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم ، وفيهما كل طب و سحر و طلسم ) .
وفيها ما ذكره الفيروزآبادي في قاموسه أيضاً : ( أبو عروة : رجل كان يصيح بالأسد ، فيموت ، فيشق بطنه ، فيوجد قلبه فد زال عن موضعه ، قال النابغة الجعدي :
زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم
إلى غير ذلك من الهذيان، كل هذا يجب أن يقلم ، و يطعم بدلاً منه ما هو مفيد و نافع.
أما التعريب ، فلقد كان العرب يأكلون الثريد و المضيرة ، ثم صاروا يأكلون الفالوذج و السكباج و الكباب ، فلما أكلوها عربوا أسماءها ، و أدخلوها في لغتهم ، و كانوا يسكنون الخيام فأصبحوا يسكنون الدور مزينة بالفسيفساء (1) و القاشاني (2)، فلما استعملوها عربوها ، و بعض العلوم ما كانت معروفة عندهم ، ثم عرفوها ، فواجهوا مصطلحات العلوم من جبر وهندسة و منطق و طب و فلسفة .
و ليس كل كلمة لا تجدها في القاموس هي غير عربية ، فقد ظن بعض الناس، أن القاموس نص على كل كلمة عربية ، و ما لم يوجد فيه فليس بعربي ، وهذا غير صحيح مطلقاً ، فصاحب القاموس لم يذكر (الرحمن الرحيم ) في مادة » رحم « و قال ، » الشنار: أقبح العيب و العار« و لم يذكر » العار « في مادته ، وقال في أول كتابه:
» الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي « و لم يذكر في مادة » لغة « أن تجمع على لغى.
وقال في الخطبة أيضاً : » فصرفت صَوْب هذا القصد عناني « ولم يذكر في مادة » صوب « أن من معانيها الجهة ، هناك كثير من الأمثلة في هذا المضمار .
فلا ضير أن نستعمل تعبير ( من جديد ) إ ذا استسغناه و لو لم يرد في المعاجم.
إن اللغة وسيلة للتفاهم ، وكل ما في الأمر أنه لا يصح أن تكون فوضى ، ينطق كل من شاء بما شاء ، و الواجب أن يكون في الأمة متخصصون أحرار، عالمون بالعربية و أسرارها، مطلعون على حاجة الأمة ومطالبها اللغوية، و يوسعون على الناس في كلامهم وفق أسس اللغة ، و هذا عمل المجامع اللغوية ، و هكذا نجد أن اللغة و الأدب ، بحاجة ماسة إلى عمليتي التقليم و التطعيم.
(1) ـ الفسيفساء : فن زخرفة الجدران والسطوح بقطع صغيرة ملونة من الرخام أو الزجاج أو الأصداف مثبت بعضها إلى جانب بعضها الآخر فوق الجص أو الإسمنت بحيث تتألف منها صور أو رسوم أو أشكال مختلفة.
لقد استخدم هذا الفن المصريون والسومريون في زخرفة المباني، حتى إذا انتقل إلى بلاد اليونان اقتصر استخدامه بادئ الأمر على زخرفة الأرضيات.
وقد اصطنع الرومان مكعبات الزجاج الملون في زخرفة الجدران, على ما نرى في أطلال مدينة بومبيي، ومن ثم ازدهر هذا الفن على أيد البيزنطيين, وعلى أيدي المسلمين من بعدهم، ومن أروع ما وصل إلينا من خوالده في العصر الإسلامي فسيفساء قبة الصخرة في القدس, وفسيفساء المسجد الأموي في دمشق.
(2) ـ القاشاني : نوع من الخَزف النقي يُنسب إلى قاشان (كاشان)، المدينة الفارسيّة التي كانت لها سمعتها العالية في هذا المجال، وقد أنتجت قاشان آثاراً من العمارة الإسلاميّة على جانب كبير من الروعة والدقة والذوق، وعُرفت ببلاطاتها الخزفية المربّعة والمسدّسة والمنجّمة.
وفي العراق وتركيا وإيران أيضاً يُطلق اسم «الكاشي» و «القاشي» على البلاطات الخزفية التي تغطي الأبنية كلّها أو جزءً منها من أجل زخرفتها أو حمايتها من الرطوبة؛ تحريفاً لهذا الاسم من لفظة «قاشاني.