الرسائل في أدبيات الإمام حسن البنا

الرسائل في أدبيات الإمام حسن البنا

الثالث

الإمام الشهيد حسن البنا

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 الرسائل

  والرسائل تعد من أهم أدبيات الإمام الشهيد وأشهرها، وهي في مجموعها تلقى إضاءات قوية على فكر الإمام، وتوجهه الدعوي، وطبيعة مواقفه تجاه واقعنا الاجتماعي والسياسي. ونقف فيما يأتى أمام هذا النوع من أدبيات الإمام. بادئين بالتعرف على "مفهوم الرسالة لغة وفنا."

  جاء في لسان العرب: الإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه، والاسم: الرسالة والرسول والرسل... والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر، والرسول: الرسالةُ والمرسّل. وسمي الرسول رسولا لأنه ذو رسول أى ذو رسالة.

  وجاء في المصباح المنير:

  تراسل القوم أرسل بعضُهم لبعض رسولا أو رسالة، وجمعها رسائل.

  وجاء في أساس البلاغة:

  راسله في كذا، وبينهما مكاتبات ومراسلات، وتراسلوا، وأرسلْتُه برسالة وبرسول، وأرسلتُ إليه أن افعل كذا، وأرسل الله في الأمم رسلا...

  وجاء في مختار الصحاح:

  راسله مراسلة فهو مرسِل ورسيل، وأرسله في رسالة فهو مُرسَل ورسول. والجمع رسْل ورُسُل. والرسول أيضا الرسالة، وقوله تعالى ﴿رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: 16]. ولم يقل "رسولا رب العالمين" لأن صيغتي "فعول وفعيل" يستوي فيهما المذكر والمؤنث والواحد والجمع مثل "عدو" و"صديق". ورسيل الرجل الذي يراسله في نضال أو غيره.

  * * *

  ومن كلمات المعاجم العربية يمكن أن نستخلص مفهوما مركزا للرسالة وهو أنها تمثل موضوعا معينا يبلغه شخص ما إلى آخر أو آخرين بنفسه أو برسول وقد تكون الرسالة مكتوبة، وقد تكون شفاهة كما نرى في قول زهير بن أبي سلمى(1):

ألا أبلغْ الأحلاف عنّي رسالةً                   وذبيانَ هلْ أقسمتُمُ كلَّ مُقْسَمِ 

  وكذلك قول كعب بن زهير بن أبي سلمى مخاطبا أخاه بُجيرا(2)

ألا أبلِغَا عني بُجْيْرًا رسالةً            على أيِّ شيءٍ –وَيْبَ غيرِك- دَلَّكاَ؟ 

  وقد يطلق على "الرسالة" تسميات أخرى مثل الخطاب، والكتاب، والعهد، والصحيفة، والوصية، وإن لم تخْلُ من ملامح فارقة بينها(3).

  * * *

  وقد تتعدد تعريفات الرسالة في كتب الأدب بمفهومها الأوليّ المباشر، كما نرى في التعريفين الآتيين:

·    الرسالة هي الخطاب المكتوب في غرض جزئي، يبعث به صاحبه إلى آخر(4).

·    الخطاب أو الرسالة: نص مكتوب ينقل من مُرسِل إلى مُرْسَل إليه، يتضمن عادة أنباء لا تخص سواهما(5)

  وواضح أن الخلاف بين التعريفين خلاف لفظي، كما أنه قريب جدا مما استخلصناه من المعاجم العربية. ونرى الخلاف لفظيا كذلك في تعريف النقاد للرسالة بأنواعها الثلاثة وهي:

  1-الرسالة الإخوانية  2-الرسالة الديوانية  3-الرسالة الأدبية

  1- فالرسالة الإخوانية أو الشخصية أو الخاصة هي تلك التي تعبر عن مشاعر المرسِل في تعزية أو تهنئة أو توصية أو عتاب أو شوق أو تحذير ووعيد ونحو ذلك، مما يصور العواطف والصلات الخاصة بين الأفراد. وهي غالبا لا تكون إلا بين من تربطهم بينهم صلة دموية كالآباء والأبناء والإخوة، أو صلة إنسانية كالصداقة والزمالة والصحبة.

  2- الرسالة الديوانية أو الإدارية أو الرسمية أو العامة, وهي التى تختص بتصريف شئون الدولة وما يصدر عن دواوينها ووزاراتها ومصالحها الحكومية، أو يَرِد إليها متعلقا بأمور الإدارة والسياسة والقانون والوظائف.

  3- الرسالة الأدبية: وهي التى تتخذ موضوعها من القيم الإنسانية، والأخلاقيات، والأدبيات، وتقديم وجهة النظر في هذه الموضوعات. وتعتبر الرسائل الأدبية –كما يقول الدكتور مجدي وهبة- مرحلة تطوّر للرسائل الإخوانية، فبينما كان كاتب الرسالة الإخوانية يعبر  عن وداده لصديق معين مثلا، مال كاتب الرسالة الأدبية إلى التجديد، فأصبح يكتب عن الوداد والأخوة بصفة عامة(6).

  ورسائل الإمام الشهيد

  وبعد هذه التوطئة نرى للرسائل مكانا فسيحا رحيبا في حياة حسن البنا ومسيرة دعوته، وهذه الرسائل يمكن انتظامها في ثلاثة أنواع وهي:

  (1) الرسائل الدعوية الكتابية.

  (2) الرسائل العامة الموجهة.

  (3) الرسائل الشخصية أو الخاصة.

  والنوع الأول يشبه ما ذكرناه آنفا باسم "الرسائل الأدبية"، وخصوصا تلك التى كتبت ابتداء –دون أن تكون موجهة لشخص معين أو جماعة معينين. وتتمثل هذه الرسائل في كتب صغيرة، وهي تحمل فكرة الجماعة، وتعد المصدر الأصيل لهذا الفكر،وبعد استشهاد الإمام البنا جمعت هذه الرسائل في مجلد ضخم جاء في خمسمائة صفحة، ويضم بين دفتيه عشرين رسالة.

  ***

  يقول الإمام: كان أول ما طبع من الرسائل "القانون الأساسي للإخوان المسلمين واللائحة الداخلية"، ثم صدرت "رسالة المرشد" وظهر منها عددان فقط، وكانت الرسالة الأولى بتاريخ 5 من رمضان سنة 1949ﻫ الموافق 2 من يناير سنة 1931، والثانية بتاريخ 20 من شعبان سنة 1351 تقريبا، وهو الموافق 19 من ديسمبر1932(7)

  وتوالت بعد ذلك رسائل ونشرات في هذا الصدد منها ما هو للإشادة إلى أعمال الإخوان الاجتماعية، ومنها ما هو شرح لأهداف دعوتهم، ومنها ما هو توجيه للحكومات إلى الأخذ بتعاليم الإسلام(8).

  أنواع الرسائل الدعوية الكتابية

  وهذه الرسائل يمكن تقسيمها –على أساس

  صورة إعدادها، وآلية أدائها إلى:

  أولا رسائل مقالية:

  أى نشرت في شكل مقالات ثم جمعت بعد ذلك في رسالة واحدة مثل:

  (1) رسالة (بين الأمس واليوم) صـ143. وقد نشرت تباعا في جريدة "الإخوان المسلمين" ابتداء من عدد 4 صفر 1353.

  (2) رسالة: "هل نحن قوم عمليون" صـ347. وقد نشرت تباعا بجريدة الإخوان ابتداء من العدد (14) بتاريخ 28 من ربيع الثاني سنة 1353 ثم الأعداد 15، 16، 17، 18، 21، 22، 24، 26، 27.

  ثانيا: رسائل خطابية:

  أى تمثلت في خطب ومحاضرات ثم بعد ذلك طبعت في رسائل. وهي:

  (1) رسالة إلى الشباب. ص95.

  (2) رسالة الإخوان المسلمين تحت راية القرآن.ص107 وهى نص خطاب ألقاه المرشد في جمع حاشد من الإخوان بدار الإخوان بالقاهرة يوم الثلاثاء 14 من صفر 1358- الموافق 4 من إبريل1939.

  (3) رسالة المؤتمر الخامس. ص166. وهى نص خطاب ألقاه المرشد في 13 من ذي الحجة 1357.

  (4) رسالة "إلى الطلاب" ص307. نص خطبة ألقيت في مؤتمر الإخوان سنة 1357.

  (5) رسالة المؤتمر السادس صـ323 خطاب ألقي في المؤتمر المنعقد في يناير 1941ا

  ثالثا: رسائل عامة مكتوبة موجهة إلى معروفين محددين:

  - رسالة نحو النور. صـ67

  رابعا: رسائل معدة مكتوبة:

  وهي التى ألفت ابتداء، ولا تدخل في نطاق الأنواع السابقة. وهى:

  (1) دعوتنا. ص15

  (2) إلى أي شيء ندعو الناس.صـ39

  (3) دعوتنا في طور جديد. صـ122

  (4) مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي ص209(9)

  (5) مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي:

  نظام الحكم. ص231

  (6) مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي:

  النظام الاقتصادي. ص253.

  (7) رسالة الجهاد ص271.

  (8) المرأة المسلمة. ص293

  (9) رسالة التعاليم. ص387

  (10) نظام الأسر ص407.

  (11) العقائد ص413

  (12) المأثورات ص355

  ***

  ومن قراءة هذه الرسائل نخرج بعدة حقائق أهمها:

  (1) أن هذه الرسائل – وقد أشرنا إلى ذلك من قبل- تمثل أصول الفكر الإخواني، وبرامج الإخوان، ومنهاجهم التربوي والإصلاحي في نطاق الفرد والأسرة والمجتمع.

  (2) ومن ثم تعددت المحاور الموضوعية لهذه الرسائل:

  أ- فمنها العقدي الروحاني: كالعقائد والمأثورات.

  ب- ومنها التنظيمي الداخلي للجماعة: كنظام الأسر ورسالة التعاليم.

  جـ- ومنها ما هو تنظيمي عام للجماعة، وهو أوسع وأرحب من النوع السابق، كرسائله الخطابية الموجهة للإخوان، مثل: رسالة إلى الشباب، ورسالة المؤتمر الخامس، ورسالة: إلى المؤتمر السادس.

  د- ومنها ما يمثل عرْضا لمبادئ الإخوان ومنهجهم الإصلاحي مثل: رسالة دعوتنا، ورسالة إلى أي شيء ندعو الناس.

  ﻫ- ومنها ما هو إسلامي –بالمفهوم العام: يعرض للرسالة والرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وحال الدولة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وموقف الإسلام من "المحدثات" كالقومية والمذاهب الأخرى، كرسالة: بين الأمس واليوم، ورسالة: المرأة المسلمة، ورسالة: هل نحن قوم عمليون؟

  و- ومنها ما يمكن أن نسميه الرسائل الدستورية، وهي التى تعرض الخطوط العريضة للدستور الإسلامي في مجال الحكم والاقتصاد والتربية والحرب. مثل: مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي –نظام الحكم، النظام الاقتصادي- رسالة الجهاد.

  ومن فضول القول أن أقرر هنا أن هذا التقسيم يقوم على أساس "الغالب" لا "المطلق"، فهناك تداخل "محمود" وتعانق مثمر بين عدد من الأفكار في كل الرسائل، حتى ليصعب – في بعض الأحيان- الفصل بين ما هو "إخواني خاص" و"اجتماعي إسلامي عام".

  (3) وكل رسالة من هذه الرسائل تمثل "كُتيِّبا" أى كتابا صغيرا، ولكن مضمونه الفكرى. لو بسط أو شرح- لجاء في كتاب كبير(10).

  (4) وإحدى هذه الرسائل، وهي (نحو النور) جاءت ذات طبيعة مزدوجة فهي "رسالة كتابية دعوية"، وهي من ناحية أخرى "رسالة عامة موجهة" لأشخاص معروفين بأسمائهم، فقد كتبها الإمام الشهيد، ووجّه رسله إلى الملوك ورؤساء الحكومات، وكبار القوم، مما سنفصله في مقالاتنا القادمة –إن شاء الله. وهى تختلف في هذه السمة عن رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلام (صـ309) فقد كتبها الإمام الشهيد ، وصدرها بقوله "إلى رئيس الحكومة.. وإلى أعضاء الهيئات النيابية.." ولكنها لم تسلَّم إلى هؤلاء، فهي تشبه ما ينشر حاليا في بعض الصحف تحت عنوان "خطاب مفتوح إلى فلان".

  ***

  ونكتفي بهذه الوقفة العابرة مع هذا النوع من رسائل الإمام؛ لأن الدراسة المتأنية لهذه الرسائل تكفلت بها مئات من الكتب والبحوث والأطروحات الجامعية من ناحية أخرى. ونلتقى في الصفحات الآتية –بمزيد من البسط والتفصيل- مع النوع الثاني –من رسائل الإمام، وهي رسائله إلى الملوك والأمراء والرؤساء، وهى ما سميناه "بالرسائل العامة الموجهة"، ثم نعرض ونعالج- معالجة نقدية- رسائله الخاصة إلى أبيه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا- رحمه الله.

  ***

  والرسائل الديوانية أو الرسمية

  والرسائل العشرون التي كتبها الإمام الشهيد حسن البنا(11)، ووجهها إلى شخصيات عامة في أمور تتعلق بالدين والأمة والوطن، هذه الرسائل خلوصا إلى تحديد أبعادها وملامحها وطوابعها الفكرية والفنية يمكن التعامل معها في واحد من التقسيمات الآتية:

  أولا: تقسيمها على أساس المرسَل إليه (أى شخصية المستقبل) إلى:

  (1) رسائل إلى الملوك بأسمائهم: رسالة إلى الملك فؤاد، ورسالتين إلى الملك فاروق.

  (2) رسائل إلى الملوك والأمراء والكبار بصفاتهم: (وإن سُلّمَتْ إلى كل منهم): رسالة نحو النور

  (3) رسائل إلى رؤساء الحكومات: رسالة إلى محمد توفيق نسيم –وثلاث رسائل إلى مصطفى النحاس، ورسالتين إلى على ماهر، ورسالتين إلى إسماعيل صدقي، ورسالة إلى محمود فهمى النقراشي.

  (4) رسائل إلى شخصيات أخرى: رسالة إلى الأمير عمر طوسون ورسالة إلى الأنبا يونس، ورسالة إلى السفير البريطاني- ورسالة إلى مكتب الإرشاد، ورسالة إلى الإخوان بصفتهم . ورسالة إلى حاخام اليهود بمصر، ورسالة إلى رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم.

  ثانيا تقسيمها على أساس الموضوع والمضامين:

  (1) رسائل من أجل العقيدة والقيم الدينية: إلى كل من : الملك فؤاد ومحمد نسيم والنحاس (الرسالة الأولى) والملك فاروق (الرسالة الأولى).

  (2) رسائل من أجل القضية الفلسطينية: إلى كل من: عمر طوسون، والأنبا يونس، والسفير البريطاني، وعلى ماهر (الرسالة الأولى)، وحاخام الطائفة اليهودية بمصر.

  (3) رسائل الدعوة الإسلامية الشاملة: نحو النور.

  (4) رسائل الدفاع عن الجماعة: إلى النحاس في الرسالة الثالثة.

  (5) الرسالة التى وجهها إلى أعضاء مكتب الإرشاد من أجل النهوض الإداري والوظيفي، والرسالة التى وجهها إلى الإخوان في شكل وصية .

  (6) رسائل الدعوة إلى الإصلاح الخارجي والداخلي:

  إلى كل من: على ماهر(الرسالة الثانية) ومصطفى النحاس (الأولى والثانية) وإسماعيل صدقي (رسالتين) وإلى فاروق (رسالتين) ومحمود فهمي النقراشي، ويلحق بها ما يتعلق بالقضية الوطنية كالرسالة الموجهة إلى رئيس مجلس الأمن.

  ثالثا: تقسيمها على أساس زمني: وذلك بترتيب هذه الرسائل اعتمادا على تاريخ إرسالها، ابتداء بأقدمها، وانتهاء بأحدثها، ولو على وجه التقريب، وهو التقسيم الذي اتبعناه في عرض هذه الرسائل بصورة تقريبية، وإلى حد كبير.

  ومن محاسن هذا النهج الأخير أنه يُبين بطريقة طبيعية، وفي مصداقية- عن طبيعة امتداد الخط العَقَدي والفكري للإمام البنا في مساره التصعيدى، ومدى الالتزام- نظريا وسلوكيا. بالثوابت، وتطوير المتغيرات، ومدى ناشطية التفاعل مع الأحداث تأثرا وتأثيرا في واقع المواضعات والمستجدات المحلية والعالمية في المسيرة الزمنية المطردة المتصاعدة.

  ومن محاسن هذا النهج كذلك أنه يسهّل للدارس الوصول إلى ما يحرص عليه من استخلاصات، وموازنات بين المواقف خلوصا إلى الأحكام العادلة، حيث يكون للموقف في وقت معين –ارتباطا بالأحداث، وقرائن الأحوال المصاحبة وجاهتُه وقيمتُه وفاعليته، بينما يفقد مثل هذا الموقف هذه السمات –بل قد ينتقل إلى خانة النقيض- في وقت مغاير، وظروف مختلفة.

  وليس معنى ذلك أن التقسيمات الأخرى –التى يعتمد كل منها على أساس غير الأساس الزمني- تخلو من المزايا. بل قد يكون لها من المحاسن –أو لبعضها على الأقل- ما يفوق ما للتقسيم الزمني، ولكن المسألة تتوقف على طبيعة الدراسة، والزاوية التي ينظر منها الدارس، مما يحتاج إلى شرح طويل يضيق عنه مقامنا هذا.

  ***

  الوقفة الموضوعية مع هذه الرسائل تقودنا إلى إقامة "فرض لا يخلو من طرافة، وخلاصة هذا الفرض أن تكون هذه الرسائل العشرون هي كل التراث الفكري الذى خلفه الإمام البنا والمدرسة الإخوانية، وبمواكبة هذا الفرض،وبعد معايشتي لهذه الرسائل معايشة عقلية محايدة، خرجت –دون تعسف أو تعمّل بعدد من الحقائق الموضوعية تتلخص فيما يأتى:

  1- أن هذه الرسائل تمثل –في إيجاز ووضوح بصورة مباشرة وصورة غير مباشرة- أهم تضاريس المدرسة الإخوانية ومبادئها وطوابعها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ومنهجها الإصلاحي في المجالات المتعددة.

  2- أنها تمتد –كما رأينا- فتعالج كل القضايا والمسائل الإسلامية والعربية والوطنية والحزبية.. مسائل الداخل والخارج، مما يقطع برحابة المنهج ومرونته ووعيه ومصداقيته، وحرص أصحابه على الإصلاح الحقيقى.

  3- وهذه الرسائل تنقض تهمة حاول بعضهم إلصاقها بالإخوان ومرشدهم وهى تقلُّبُ سياستهم وعلائقهم برؤساء الحكومات ووزرائها بحيث لا يحكمها إلا النفعية الحزبية، فهم مرة يؤيدون الوفديين، ثم ينقلبون على الوفد، ويؤيدون الأحرار الدستوريين، أو السعديين.. إلخ

  وهو كلام أُلْقِي على عواهنه، ويتمتع بحظ وافٍ من الضعف والهشاشة، وذلك لاعتماده على تصورات غالطة، ويرجع غلط هذه التصورات إلى الأسباب الآتية:

  أ- قصور مفهوم أصحابه لطبيعة السياسة، وخلطهم في المجال الحزبي بين الثوابت والمتغيرات، وخلطهم كذلك بين الارتماء الاستسلامي، والانتماء النقي الطاهر الذي يعني الإخلاص والشعور القوى بالارتباط بالحزب أو الجماعة دون تفكيك الشخصية وذوبانها في "شخصية الجماعة".

  وهؤلاء تضيق آفاقهم ونظراتهم: فالحسن –بإطلاق- هو ما استحسنوه، أما ما لم يستجيدوه فهو المسيء الضالع في القبح والسوء.

  ب- أنهم نظروا إلى مواقف الإخوان من الحكومات والأحزاب، وقيموها على أساس الظاهر، أو الناتج الآني القائم، ولم يبحث هؤلاء –عن عمد أو غفلة- عما وراء هذه المواقف الإخوانية- المتقلبة أو المتناقضة في نظرهم- من دوافع وحيثيات تتلخص في أن الإخوان في قبولهم وتأييدهم، أو رفضهم وإنكارهم وحمْلهِم على أية حكومة إنما يَصْدرون في كل هذه المواقف عن إيمانهم الراسخ بقضايا الوطن والعروبة والإسلام.

  وقد قَسَمتْ هذه الرسائل الحكم فيما حمل على  الإخوان بأنه تقلب بل تناقض في المواقف يقطع بتناقض فكرى وعقدي –بأن رصدت لكل موقف من الأسباب والتعليلات الحقيقية، ما يجعل الرأى المعروض مستساغا غير منكور. ويطرد هذا النهج في كل الرسائل.وأكتفي بشاهد واحد:

  تولى إسماعيل صدقي رئاسة الوزارة في 18/12/1946 "وقد تعهد صدقي للإخوان بالمطالبة الجادة القوية بحقوق البلاد، أو التخلي عن الحكم إذا تعسرت الأمور"(12)

  وغض الإخوان نظرهم عن ماضي صدقي الضليع في الدكتاتورية طمعا في أن يفتح في حياته صفحة جديدة، وتأييدا لهذه الوزارة، وتثبيتا لمركزها أمام الإنجليز اشترك الإخوان في مظاهرات ضخمة في 21/2/1946(13)

  وبعد ذلك بثلاثة أيام سلم مندوب الإخوان لصدقي رسالة للمرشد، يحدد فيها مطالب الأمة والإخوان. فلما حنث صدقي بما وعد كانت رسالة المرشد الثانية إليه في 8 من أكتوبر 1946. وهي رسالة شديدة اللهجة تتهم صدقي بالظلم والبطش، والتضامن مع الإنجليز ضد الشعب، وتطالبه بالاستقالة الفورية.

  ورفع المرشد في التاريخ نفسه رسالة إلى الملك فاروق يطلب منه فيها إقالة صدقي. وعجز صدقي عن الصمود، وقدم استقالته في 9/12/1946. وبهذا المنطق: منطق اتخاذ الموقف الملائم المبرر –أخذ الإخوان أنفسهم في مواقفهم من وزارات النقراشي، ووزارات مصطفى النحاس. فلا تناقض إذن، ولكنه الاتساق مع متطلبات العقيدة والعروبة والوطن، بحيث يكون الثبات على موقف واحد –مع تغير الظروف والأحوال- هو عين التحجر والجمود، وسوء الفهم، وضيق الأفق.

  4- أنها تسلك منهج التدرج في معالجة المسائل والمشكلات من البسيط الفردي إلى الجماعي المعقد الرحيب، ومن الوطني الخاص إلى العربي والإسلامي الشامل العام. وهو مسلك يتفق مع منطق الدعوات والحركات الإصلاحية الواعية، حتى كانت أشمل الرسائل وأجمعها وأوعاها –وهي رسالة نحو النور- الموجهة إلى ملوك العرب، ورؤساء حكوماتهم، وكبار شخصياتهم- من أواخر الرسائل، وقبل استشهاد الإمام البنا بعامين أو ثلاثة.

  ومضامين هذه الرسالة الجامعة جاءت قبل ذلك بسنوات وفي فترات مختلفة موزعة شرائح شرائح في الرسائل السابقة، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يدعي أن الإمام البنا قد فاجأ شخصيات الكبار، وأبناء الوطن والأمة العربية بجديد لم يسمعوا به، فما جاء في هذه الرسالة الجامعة الواعية لا يعدو كونه تفصيلا للثوابت التي تمثل نخاع دعوة الإخوان، وتكرر دورانها والإلحاح عليها في خطب الإمام وكتبه ورسائله الدعوية(14)

  5- ومن شعارات الإخوان المعروفة "الجهاد سبيلنا" و "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، ومع ذلك نجد في هذه الرسائل مكانا فسيحا للدعوة إلى السلام، والمعايشة السلمية، والأخذ بالحل السياسي الكريم: فنجد الإمام الشهيد –بعد أن قدمت حكومة على ماهر معونة لضحايا انتفاضة 1936 يخاطبه في رسالته إليه بقوله ".. والمسعى السياسي لحل قضية فلسطين أهم بكثير من هذا المسعى الإنساني –على جلاله ورحمته- ولعل الظروف الحالية هي أنسب الظروف لإعادة النظر في هذه القضية".

  ويذكر القواعد التي يجب أن يقوم عليها الحل السلمي، وأهمها "اعتراف الحكومة البريطانية –صاحبة الانتداب على فلسطين- باستقلال فلسطين عربية مسلمة، والتعاقد معها تعاقدا شريفا على نحو ما حدث في مصر والعراق مثلا"(15)

  وفي رسالته للسفير البريطاني في 2 من نوفمبر 1937 يستهجن سياسة بريطانيا العدوانية في فلسطين، ويدعوه إلى مطالبة حكومته "بوقف الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وتحقيق الاستقلال التام على أساس اتفاق شريف يضمن حقوق العرب، ويعامل فيه اليهود معاملة الأقليات في جميع البلدان."(16)

  وتطرد هذه الرؤية أيضا ليدخل في نطاقها حل القضية المصرية بجلاء القوات البريطانية، واعتراف إنجلترا باستقلال مصر والسودان.

  أما إذا أخفق الحل السلمي الذي يتمثل –بصفة أساسية- في جلاء الإنجليز جلاء تاما عن أرض وادي النيل، مع الاعتراف الحاسم باستقلال مصر والسودان كما ذكرنا، فليس هناك –كما يقول الإمام الشهيد- مخاطبا في رسالته إسماعيل صدقي "إلا أن تدعو الأمة إلى الجهاد في سبيل حقوقها، وتنظم معها وسائله وأساليبه، كما تفعل كل أمة ترجو الحياة العزيزة، وتؤثر الموت الكريم في ظل الاستشهاد على الاستكانة والذل والاستعباد."(17)

  6- وتنطق هذه الرسائل برؤى مستقبلية بصيرة، فكأنما كان الإمام البنا ينظر إلى المستقبل من ستر رقيق، وكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

الألْمعيُّ الذي يظنّ بك الظنَّ                    كأنْ قدْ رأى وقد سَمِعَا

  ويطول بنا المسار جدا لو رحنا نتتبع مظاهر هذه الرؤى المستقبلية التى أثبت حاضرنا صحتها ومصداقية تقديرها، مما ينم على ألمعية حقيقية.

  وبعد هذه الوقفة التى طالت مع هذا النوع من الرسائل، نرى من تتمة القول أن نلقي الضوء –في إيجاز شديد على منهجها:

  إن كل رسالة من هذه الرسائل تمثل وحدة بنائية موضوعية متماسلة الجوانب والعناصر بحيث يؤدي كل جزء إلى ما يليه في نسق طبيعي دون افتعال:

  يستهل الإمام الرسالة بالبسملة والحمد والصلاة والتسليم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم تحية المرسل إليه بالسلام، وبعض عبارات التبجيل والتوقير للمرسل إليه أو الدعاء له. وكل ذلك في إيجاز ووضوح.

  وبعد هذا التقديم الذي يهيئ نفس المتلقي يَرِدُ صلب الموضوع الذي يمثل أطول أجزاء الرسالة وأهمها، حيث يعرض المطلوب في إسهاب مقبول وحجة ظاهرة، مع تدعيم كل مطلوب بما يعلله ويقويه من براهين وشواهد. فإذا ما طالت الرسالة وتعددت المطلوبات جاءت منسقة مرتبة في أرقام محددة في السياق المتتابع، لا يتيه بعضها في تتابع هذا السياق.

  وتختم الرسالة –غالبا- بالاستنهاض والحث- في أدب- على تحقيق المطلوب والمأمول، ثم الدعاء للمتلقي، كما نرى في ختام رسالة الإمام الشهيد لعلي ماهر في 20 من شعبان 1358

  "اعملوا على هذا يا رفعة الرئيس، وجاهدوا في سبيله، فهو خير ما تستقبلون به هذه المواسم الفاضلة، وتتقربون به إلى الله. هذا يا صاحب الرفعة- بعض ما أردنا أن نتقدم إليكم به في هذا الوقت العصيب.والله نسأل أن يتدارك العالم برحمته، وأن يتولى مصر الناهضة بالخير والتوفيق.

  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته."

  ***

  ونختم حديثنا عن الرسائل بوقفة مع الرسائل الخاصة للإمام الشهيد. وهذه الرسائل الخاصة أو الشخصية لا تزيد على العشرين أرسلها حسن البنا إلى والده(18) على مدى واحد وعشرين عاما ونصف عام. وكانت أول رسالة مؤرخة بالثلاثين من يناير سنة 1926 (وهو في سن العشرين) وآخر الرسائل بتاريخ 12 من أغسطس سنة 1947 أى قبل استشهاد بعامين.

  وقد صدَّر حسن البنا هذه الرسائل إلى والده من العطف (المحمودية) وهو في نهاية تعليمه العالى بكلية دار العلوم، وكانت الأسرة كلها بالقاهرة بعد هجرتها إليها من المحمودية إلى القاهرة سنة 1924 قبل تخرج الإمام بثلاث سنوات. إذ كان والده يكلفه –كما يذكر جمال البنا- ببعض الأعمال لإنجازها في المحمودية.

  وبعض هذه الرسائل مرسل من الإمام البنا وهو يعمل مدرسا في الإسماعيلية.

  وبعضها أرسله من قنا إلى والده بعد أن نقل إليها نقلا تعسفيا(19).

  وقد ظل الإمام الشهيد يعمل مدرسا لمدة تسعة عشر عاما، وجاء تعيينه في مدينة الإسماعيلية سنة 1927، ثم انتقل للعمل بالقاهرة في أكتوبر سنة 1932 بعد أن تزوج من آل الصولي وهم من أعيان المدينة.

  وفي وزارة حسين سري،  وبضغط من الإنجليز صدر قرار بنقله إلى قنا في فبراير سنة 1941.وظل يعمل بقنا أربعة أشهر، ثم أعيد إلى العمل بالقاهرة أول يوليو1941.

  ثم استقال من العمل في أول أكتوبر سنة 1946، لكي يتفرغ لخدمة الدعوة.

  ***

  ونلاحظ أن الإمام البنا لم يسجل في مذكراته (مذكرات الدعوة والداعية) نص رسالة واحدة، أو جزءا من رسالة واحدة، أو حتى إشارة إلى رسالة واحدة من تلك التي أرسلها إلى أبيه، مع أن بعضها يحمل إشارات إلى أمور ومسائل عامة تتعلق بالدعوة أو الأمة. وقد يرجع إغفال هذا التسجيل إلى الأسباب الآتية:

  أ- أنها رسائل خاصة تعالج مسائل شخصية أو عائلية يرى الإمام أنها لا تهم –من قريب أو بعيد- المشتغلين بالدعوة والعمل العام.

  ب- أن ما أشارت إليه هذه الرسائل من مسائل أو شخصيات عامة عالجتها المذكرات بإسهاب وتفصيل يغني عن تسجيل هذه الرسائل.

  جـ- كان التواضع الجم من أهم فضائل الإمام الشهيد، حتى أنه في كثير من جوانب مذكراته لا يتحدث عن نفسه إلا بضمير الغائب(20). وربما رأى الإمام البنا أن نشر هذه الرسائل الشخصية أو بعضها يتعارض مع فضيلة التواضع، فهي ليست "مذكرات حسن البنا"، ولكنها "مذكرات الدعوة والداعية"

  د- وقد يكون ذلك من قبيل إجلاله أباه،وتوقيره إياه، لأن الرسائل تكشف عن طبيعة المعاناة، وضيق الحال، وضيق ذات اليد، وهي حال كان الوالد يعيشها، وحاول الابن –بجزء من راتبه- أن يرفع بعض هذه المعاناة، وكذلك بإعاشة بعض إخوته. وقد يكون في نشر هذه الرسائل التى تكشف هذا الواقع الاجتماعي ما قد يفسر على أنه من قبل المن والأذى.

  ***

  وهذه الرسائل التى كتبها الإمام الشهيد –وأغلبها في شبابه- ترسم- صراحة أو ضمنا خطوطا مهمة فى صورته النفسية والخلقية. وهى بذلك تمثل –فى نظري- جانبا مهما من ترجمته الذاتية. ويمكن القول أن هذه الرسائل لو اجتمعت إلى النوع الثاني –الرسائل العامة أو الرسمية- وكذلك إلى مذكراته الدعوة والداعية، لتكوّن عندنا من هذه الثلاثية "ترجمة ذاتية كاملة" تهتم –أول ما تهتم بالصورة الخلقية، والعقدية، والفكرية والنفسية للإمام الشهيد.

  وأهم ما تعكسه هذه الرسائل الشخصية الخاصة من أخلاق الإمام الشهيد، وملامحه النفسية والروحية

  بره بوالديه وأهله وإخوته وأقربائه إلى درجة الإيثار. وكذلك الصبر على الشدائد وشظف العيش، والصمود للضائقات والمتاعب بطاقة إيمانية راضية بقدر الله وقضائه إلى درجة التسليم، مع التفاؤل والتفتح للحياة بضمير حي يدفعه إلى أداء عمله في إقبال طيب، وحماسة ناشطة، وإخلاص منقطع النظير، وكذلك مرونة وقدرة على التكيف بكل وضع جديد يؤول إليه، ومن أهم ملامح هذه الصورة التسامح الديني الكريم، وهو تسامح لا يشوبه أثارة من تعصب أو انغلاق.

  وبعد كل أولئك أعتقد أننى لم أسرف في القول حينما ذكرت من قبل أن هذه الرسائل الشخصية بضمها إلى مذكرات الإمام الشهيد، ورسائله إلى الملوك ورؤساء الوزارات والوزراء وكبار الشخصيات يمكن أن تصنع لنا ترجمة ذاتية كاملة أو شبه كاملة للإمام الشهيد، وإن افتقرت إلى التسلسل الزمني للوقائع والأحداث، وهذا لا يعيبها، لأنها تكون بهذه الصورة "ترجمة ذاتية" تهتم –أول ما تهتم- بالصورة النفسية والعقدية والفكرية للإمام الشهيد.

  ***

  ونشير في النهاية إلى نوع من رسائل الإمام يتسم بالإيجاز والتقطير هو "الرسائل البرقية" تتناول قضايا ومسائل داخلية وخارجية، وكلها تدور في الفلك الذي تدور فيه طوال الرسائل، لأنها تنطلق من نفس المعين التقي الطاهر، وعليها طوابع القائد المسلم الغيور على الإسلام والأمة والوطن والقيم العليا. كبرقيته إلى سكرتير نادي الضباط(21). وبرقيته إلى البابا يوساب الثاني، في أكتوبر 1947(22).وبرقيته إلى الرئيس الباكستاني محمد على جناح، في 5 أغسطس1947(23). وبرقيته إلى سلطان مراكش في 22/10/1946(24).